العدد 4158 - الجمعة 24 يناير 2014م الموافق 23 ربيع الاول 1435هـ

ثلاجة الموتى!

سعيد محمد saeed.mohd [at] alwasatnews.com

هنا، مجرد سطور «قصة قصيرة»، والباب مفتوح لمن يشاء، لأن يسقط مضامينها على من يشاء وكيف يشاء! «شاءت الأقدار أن يستقر حاله في الحياة كحارس لثلاجة موتى... عرفه الناس منذ سنين كعالم وأستاذ ووجيه له مكانته في المجتمع، إلا أن تحولاً خطيراً ظل طيّ الكتمان، حوّل حاله من أحد الوجوه الكريمة، إلى واحد من أبشع الوجوه الكريهة».

العمل مع الموتى بالنسبة له كان خانقاً مضجراً مدمّراً في بداية الأمر، لكنه اعتاد المكوث لساعات وساعات، حتى بعد انتهاء أوقات العمل، بين تلك الجثامين التي لا روح فيها! أما الجانب الأكثر امتاعاً ودهشةً له، أن مع تابوت كل جثة، عُلقت ورقة فيها بعض التفاصيل عن صاحبها في أيام حياته... يقضي الساعات ليقرأ في تلك الأوراق.. يبكي حيناً، يفرح حيناً، ويخطط حيناً آخر.

بادئ ذي بدء، حينما أبلغه مسئوله الكبير أن هذه التوابيت (ليست مخيفة)، فهي فاقدة للحياة، وحتى يطمئنه أكثر، شجّعه لأن يتعرف عليها من خلال أوراق التعريف مع كل تابوت. وكانت البداية مع جثة قديمة جداً بالية، مضت سنون ولم يسأل عنها أحد. في ورقة التعريف قرأ هذا النص: «أنا المسجى هنا في هذا التابوت... عشت حقيراً ومت حقيراً. بلغت من العمر مبلغاً لم أجد مع تقدمي فيه أي فارق في حياتي سوى أنني كنت أريد أن أعيش، وفي الوقت ذاته، أريد أن أحرم غيري من العيش. في حياتي، التافهة الحقيرة، أردت أن استحوذ على الخير كله، لكنني أموت قهراً وحنقاً وغيظاً حينما تمتد يد آخر لتصل إلى ثمرة واحدة مما سقطت عيني عليها. كلهم خونة. لا أطيقهم... فليذهبوا إلى الجحيم.

وحتى كتابة هذه السطور، هل ذهبوا إلى الجحيم؟ أم أنا الذي سبقتهم... ختاماً، بلغوا تحياتي للحمار ابن الحمار الذي يعيش في حظيرة كبيرة بجوار منزلي المتهالك».

العبارة الأخيرة، جعلت حارس الثلاجة يتبسم بعد تجهم وعلامات حزن وكدر علت وجهه وهو يقرأ النص. تبسم، ثم تبسم، ثم ضحك! ومع أن من حوله موتى فضّل أن يكتم ضحكته.

في التابوت الآخر جثة امرأة، وبالطبع لأنه من أهل الدين والمروءة والأخلاق، فإنه ما كان أبداً يقبل بأن يأتي أي زائر من أقرباء المتوفية ليرى وجهها ويتعرف عليها إلا أن تكون امرأةً مثلها. أي نعم، فلم يكن يماري أو يتساهل في أمور الشرع، لهذا، ترحم عليها وسحب ورقة التعريف ليقرأ ما فيها: «والله إنني فضلت الموت على أن ينتهك الكلاب عرضي. عشت عزيزة نفس رغم فقري. لكنني في أشد هبوب عصف الباغين والطاغين والمارقين، كنت على استعداد تام أن أضحي بكل ما أملك في حياتي... إلا شرفي، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. أما تلك الكلاب التي ما فتئت تهتك أعراض الناس، فإن مصيرهم كمصير ذلك الذي تعفن في تابوت أسود.. ربما.. ربما تجدون واحداً في مكان ما هنا أو هناك».

لا حول ولا قوة إلا بالله. لعن الله تلك الكلاب... قالها وهو ينصرف ليفتح باب المشرحة حيث جرس بابها يرن. أمام الباب، وجد مجموعةً من الناس وهم في حالة هلع وبكاء. رجل يرتجف وتلعثم في الكلام. امرأةٌ تنحب وتحثو التراب على رأسها. شباب وشابات توزعوا هنا وهناك في وجوم وحزن وترقب. قال الرجل الذي اقترب من الباب: «افتح... افتح أيها الحارس. قل لي بالله عليك: هل وصلتكم قبل قليل سيارة إسعاف تحمل جثمان ضمير؟». استغرب الحارس لحظة ثم ما لبث أن ضحك ضحكة مجلجلة: «ههههه... لا بأس يا صاحبي. لا تنتظر خبراً مثل هذا. فلا أعتقد أن من تبحث عنه موجود في هذه المدينة. إبحث عنه في مدينة أخرى، لكن ها.. حذارِ أن تخدع نفسك وتبحث عن شيء اسمه أفلاطونية الخيال، المدينة الفاضلة لا وجود لها فلا تتعب نفسك. وعن جثمان الضمير الذي سألت عنه، يسعدني أن أقول بأننا لم نستلمه، لأن لا حياة فيه فهو جماد. ومن مات قد مات منذ أجل طويل.

«يا للهول.. هناك تابوت أسود».. في يوم عمل ممل كان يتجول داخل أروقة ثلاجة الموتى. وفي مكان قصي، رأى تابوتاً أسود، ترى أيكون ذلك التابوت هو الذي كتبت سطوره تلك المرأة التي دافعت عن شرفها حتى الموت؟ اقترب من التابوت وعفونته تخترق كمامة الأنف التي يرتديها. كان همه أن يصل إلى ورقة التعريف. حينها، وقتما وقعت بين يديه، صدمته العبارة: «أنا الذي أنقذت العالم فكاد يذهب من بين أيدينا. أنا الذي وقفت كالحامي عن بني البشر في كل بقاع الأرض. أنا الذي حميت الأوطان من أن تختطف على أيدي «هارماغيدون»... لكن من سوء حظي.. أقصد سبب موتي، أنني وجدت في اغتصاب نخيلات باسقات شامخات أمراً مسلياً. بقيت النخيلات وسقطت أنا في الجحيم. ويحي... ويحي».

بعد قراءة نص التابوت الأسود، لا يزال حارس الثلاجة هائماً بلا صواب، يبحث عن شيء يكتبه كتعريف على تابوته قبل أن يموت.

إقرأ أيضا لـ "سعيد محمد"

العدد 4158 - الجمعة 24 يناير 2014م الموافق 23 ربيع الاول 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 5:54 ص

      انها

      انها الحقيقة المؤلمة ... انتبهوا ياظلام العصر هناك اخر الدنيا عقاب شديد فاصلحوا حالكم واعطوا الناس حقوقها لن تفيدكم الدنيا ولا الفلوس الحرام الا ان اصلحتم نفوسكم وتبتم الى الله والله يغفر الذنوب انتبهو ياظلام والله ينصر كل مظلوم

    • زائر 4 | 4:22 ص

      محمد

      انت تصلح تكتب روايات واتشارك ابه في مسابقات يمكن اتفوز ابشي

    • زائر 3 | 2:39 ص

      من أروع المقالات

      حين نقضي وقت في قراءة كومة من الأعمدة والمقالات في صحف البحرين ستحتاج إلى شيء مختلف فيه متعة القراءة وتحريك العقل والوجدان... أنا أسقطت القصص على من اشاء ربما تنطبق عليهم لعلمي أنهم أحياء أموات... شكراً أستاذ سعيد ولك التحية... ام محمد الستري

    • زائر 2 | 12:15 ص

      ابو سبد رضا

      ابداع من واقعنا الحالي
      جميل ما كتبت

    • زائر 1 | 10:32 م

      شل قصص

      الصراخه قصص محزنه

اقرأ ايضاً