العدد 4175 - الإثنين 10 فبراير 2014م الموافق 10 ربيع الثاني 1435هـ

في ضيافة السيد السيستاني

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

لابد للزائر لمدينة النجف الأشرف أن يلحظ ثلاثة أمور، مرقد الإمام علي بن أبي طالب، والحوزة العلمية التي أسّسها الشيخ الطوسي بعد هجرته إليها في منتصف القرن الخامس الهجري، واستقرار المرجعية الدينية العليا فيها.

تقع دار المرجع الأعلى في أكثر الأحياء الشعبية فقراً في المدينة القديمة. هناك حيث يعيش السيد علي الحسيني السيستاني (83 عاماً) على بعد بضعة أمتار من العتبة العلوية المقدسة.

وسط إجراءات أمنية مشددة، التقيت بالسيد مع حشدٍ من الزائرين، اتخذ القسم الأكبر منهم صفاً طويلاً في الشارع المحاذي للزقاق الضيق بانتظار لحظة اللقاء.

ما أن استقر بنا المقام في دار السيد بالغرفة التي كانت تكاد تخلو من أي أثاث حتى لوّح بيده للسلام على الحضور مرحباً في منتهى الوقار، لم يكن محاطاً، على خلاف توقعاتي، بحاشية من طلبته، بل كان يجلس بالقرب منه شيخ ذو لحية بيضاء علمت لاحقاً أنه الشيخ محمد حسن الأنصاري، كما علمت أن ليس للسيد حاشيةٌ من الأساس!

كان السيد تغمره الهيبة ويكسوه الجلال، بدأ في الحديث، صوته المتهدّج ينداح بعربيةٍ فصيحةٍ تخالطها لكنة فارسية، وسرى على الفور هدوء غمر المكان، وكلمات السيد تنساب فتتلقاها القلوب باطمئنان بارد ويقين. افتتح السيد حديثه بالدعاء وختمه بالدعاء. عشرون دقيقة تحدّث فيها عن رسالة المرجعية إلى العالم، أبرز مضامينها التسامح والحب والتعالي على الجراح. كان حديثه دعوةً إلى الإغضاء عن الإساءة، إساءة الآخر إنساناً أو تياراً، فصيلاً مذهبياً أو فريقاً سياسياً.

وقد حذّر بصوت واهن وجسد ضعيف ويد مرتعشة بانت عروقها، من مخاطر التمزيق المذهبي على الأمة، وأوصى الشيعة بضرورة ضبط النفس، وعدم الانجرار وراء أعمال العنف والعنف المضاد ونبذ الكراهية، مؤكداً على الإغضاء عن إساءات الغير وتحمل الأذى والصبر عليها، بل وحملها على محمل الخير والردّ بالرفق والإحسان، وأورد بيت شعر منسوب للإمام علي بن أبي طالب (ع) يقول فيه:

ولقد أمر على السفيه يسبني

فمضيت ثمت قلت لا يعنيني

رسالة السيد كانت في تحصين المجتمع من الداخل بطاقة المحبة والتسامح: «يجب أن نفرح لنجاح الآخرين من أبناء مجتمعنا، ففي ذلك قوة لنا، لا تنشغلوا بالصراعات الجانبية وكونوا على حذرٍ مما يحيكه لكم الأعداء». وأوصى بالتمسك بفضيلة التراحم بين المؤمنين قائلاً: «للمؤمن على المؤمن أربعون حقاً كما في روايات أهل بيت النبوة، وعلينا أن نؤازر بعضنا الآخر، ونتماسك ونتعاضد وننبذ الفرقة والتفرق». وحذّر من مغبة دعاوى الفرقة والاحتراب المذهبي التي دأبت بعض وسائل الإعلام على النفخ فيه ليل نهار: «إن هدف هذه الفضائيات النيل من دين المرء والعبث بنقاء الفطرة السليمة للمسلمين».

هذه الرؤية العميقة لفكرة التعايش بين أبناء المذاهب الاسلامية ليست فكرةً أثارتها في ذهنه التطورات السياسية، بل تنطلق من جذور دينية راسخة، فهو خريج مدرسة حملت همّ الوحدة والتقريب بين المسلمين منذ عقود. هي مدرسة أستاذه المرجع الأعلى السيد حسين البروجردي (ت 1960) الذي رعى تأسيس دار التقريب بين المذاهب الاسلامية في القاهرة في ستينيات القرن الماضي.

عندما تدخل إلى دار السيد السيستاني في محلة البراق، وهي دارٌ لا يملكها السيد بل هي دار مؤجرة ضمن ما يعرف في العراق بـ (المساطحة)، وهي عملية استئجار عقارٍ لأمدٍ طويلٍ بإيجارٍ سنوي زهيد. يقول عارفوه: لم تتغير حياته في مرجعيته عن ذي قبل، فهي هي، بساطةٌ في المظهر وتعفّفٌ في الحياة، البيت متواضع نفسه، والزهد في الاعتبارات ذاته، والتوجه نحو الناس في ازدياد هائل.

تقصده في كل يوم الآلاف للإفادة والإفتاء والحظوة باللقاء، يرحب بهذا ويدعو لذاك، ويجيب على أسئلة المستفتين، ويقضي حوائج ذوي الضر، يساعد في علاج مرضاهم ويعين ضعيفهم، ويشفق على عائلهم. أخبرني الصديق كامل سلمان الجبوري الذي تربطه علاقة بالسيد السيستاني تربو على ثلاثة عقود، أن السيد ألزم عائلته بالعيش حدّ الكفاف، وحرّم عليهم الاقتصاد في المأكل والملبس مما يزيد عن الوجبات اليومية الثلاث.

الجبوري كان أحد القلائل الذين كانوا يزوّدون السيد السيستاني بالكتب والإصدارات الجديدة، يقول: «السيد شديد التعلق بالكتاب، يقرأ في كل مجال، ولديه اطلاع واسع على الثقافات المعاصرة، ومنفتح على الأفكار والآراء المختلفة، وكان حريصاً على قراءة الكتب التي تطرح إشكالات جديدة».

أحد أساتذة الحوزة العلمية في النجف قال: «عندما زرت النجف الأشرف عام 1997 التقيت بالسيد السيستاني وقال لي: نحن نشمُ رائحة الاغتيال في كل حركة نخطوها». ولم يكن الأمر مزحةً، فنظام صدام حسين القمعي، دأب على إفراغ الحوزة بتدابير دموية قاسية اختلطت فيها خبرة الحجّاج بن يوسف الثقفي مع معطيات أجهزة الاستخبارات الأمنية الحديثة في سبيل إضعاف قدرة الحوزة العلمية على قيادة أي عمل سياسي مناويء للنظام البعثي.

تعرض السيستاني عام 1991 للاعتقال مع مجموعة علماء عقب أحداث الانتفاضة الشعبانية، وقد تعرّض للاستجواب القاسي، وضيّق عليه النظام وأغلق مكان درسه (مسجد الخضراء) عام 1993، وسعى إلى تصفيته مما ألجأه إلى التزام داره منذ عام 1997 حتى سقوط النظام في 2003.

تبلورت مرجعية السيستاني بعد وفاة أستاذه السيد الخوئي (ت 1992) وكان من الستة المشيّعين لجنازته ليلاً وهو الذي صلّى على جثمانه الطاهر، وقد تصدّى بعدها للتقليد وشئون المرجعية وزعامة الحوزة العلمية بإرسال الإجازات وتوزيع الحقوق والتدريس على منبر الإمام الخوئي في مسجد الخضراء.

بدأ السيد يُدرّس البحث الخارج فقهاً وأصولاً ورجالاً منذ أربعين عاماً تقريباً، وكان في اللغة الفارسية، ولدى تسنّمه رتبة المرجعية واتساع دائرة طلابه قام بالتدريس باللغة العربية الفصحى وهو يجيدها إجادةً تامة.

الجديد في مرجعية السيستاني سياسته المالية الرشيدة، التي جعلت الموسرين جادّين في استخراج حقوقهم الشرعية، وجعلت الفقراء في غنى وكفاف عن الاحتياج، فقد أجاز السيستاني للعراقيين في الداخل والخارج أن يعطوا حقوقهم للفقراء يداً بيد، وطالما أوصاهم أن يشعر الفقير بأن هذا المال هديةٌ من الله ورسوله دون منٍّ من أحد.

في عشرين دقيقة أدركت حكمة الرجل والسرّ الكامن وراء عدم انزلاق العراق في أتون حمّام دم لا تنتهي فجائعه لو تركت للأحقاد أن تطبع حياة العراقيين.

غادرت دار السيد، لستُ كما دخلتها، فلهذا الرجل مقدرةٌ عجيبةٌ على التأثير في النفوس والعقول، ليس لأنه المرجع الديني الأبرز للمسلمين الشيعة في العالم فحسب؛ بل لأنه رجلٌ قريبٌ من الناس، يترفّق بهم، ويتحسّس مشاكلهم، ويعيش معهم وفي مستوى ضَعَفتهم من الأسر العراقية البسيطة التي تنتشر في العراق كبساط أخضر يغمر أرض السواد.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 4175 - الإثنين 10 فبراير 2014م الموافق 10 ربيع الثاني 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 33 | 12:38 م

      نعيش بفخركم وأمانكم ياكبار الامه

      اللسان يعجز عن وصفهم انهم ابسط البسطاء واعقل واحكم وقنع البشر بالحياة.. احييتم لامة لاتعيش الى بحكمكم الحكيمه

    • زائر 32 | 5:15 ص

      أحسنتم

      مقال رائع بورك فيك أخي حفظ الله السيد و أطال عمره الشريف

    • زائر 30 | 1:14 ص

      شكراً

      أحسنتم

    • زائر 28 | 11:26 م

      شكرا

      مقال متميز..وقلم عفوي مسترسل..وتعبيرات دقيقة قصيرة ومعبرة..استمر لا تتوقف

    • زائر 27 | 6:36 م

      حغظ الله السيد من كل مكروه

      حغظ الله السيد من كل مكروه وجعله أمان للعراق والمسلمين كافة

    • زائر 29 زائر 27 | 12:28 ص

      حفظ الله السيستاني

      شكرا اخي استاذ وسام على هذا المقال الرائع .. الحمد لله انني تشرفت بلقاء سماحة السيد وقبلته ودعا لنا بالخير والصلاح حفظ الله السيد واطال في عمره الشريف ..

    • زائر 26 | 1:33 م

      شكرا لكم

      الشكر لله أولا ولفقيه المسلمين السيد السيستاني موصولا للإخ وسام السبع.. جعله الله في ميزان حسناتك

    • آذار | 10:53 ص

      !!

      السيد السيستاني يؤمن بالحكم الديمقراطي أي حكم الشعب بنفسه ، لذلك أصر على الانتخابات كمبدأ أساسي لتداول السلطة

    • زائر 23 | 8:25 ص

      انهم يحملون

      انهم يحملون اخلاق النبي ص وال بيته الكرام الميامين لا اخلاق .....وامثالهم من الحجاج بن يوسف الى صدام حسين لذلك رايته هكذا وكان جل علماءنا الاشراف في النجف على هذه الصفات وكذلك كان السيد الحكيم ومن قبله السيد ابو الحسن الاصفهاني والسيد محمد باقر الصدر والسيد الخوئي رضوان الله عليهم اجمعين . انها اخلاق الامام جعفر الصادق لا اخلاق معاوية او مروان او يزيد وشتان بين هؤلاء و هؤلاء .
      علي جاسب . البصرة alijasebjaseb@yahoo.com

    • زائر 22 | 8:16 ص

      ام حسن

      مقال يثلج القلب شكرا لكم

    • زائر 20 | 6:28 ص

      الله يحفظ السيد السيستاني

      حفظ الله سيدنا وتاج رؤوسنا السيد علي الحسيني السيستاني وجميع مراجع الطائفة الأعلام بحق محمد وآله الأكرام

    • زائر 18 | 4:37 ص

      هذا رجل زمانه

      لقد تشرفت هذا العام بالسلام على هذا المرجع العظيم ... فعلاً كما كتب الأستاذ وسام من الوهلة الأولى تغمرك الراحة النفسية والاطمئنان لرأية هذا العابد الزاهد الفقية .. هنيئا لكل المسلمين بحكمة هذا الرجل الذي حفظ العراق من الانزلاق الطائفي

    • زائر 19 زائر 18 | 6:02 ص

      ماهية علوم سماحة السيد دام الله ظلة

      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته سؤالي اليك ياصاحب المقال الجميل ماهية علوم السيد في الاصول و علم الفلك منذ 40 سنة ومن ابرز طلابة الذين تخرجوا من الحوزة العلمية ؟ حيت تكون تتمة للمقال وشكرا

    • زائر 17 | 3:51 ص

      شوق اللقاء

      أتذكر عندما زرنا السيد السيستاني وبعد الإنتظار وإكمال إجراءات الدخول تشرفنا برؤيته, وعندما تقع عينك على محياه تأخذك الهيبه والرعشه وتزيد دقات القلب وتدمع العين لفرحة لقائه, وتستأنس بحديثة ولغة الحب التي ينثرها على الحضور..
      حفظ الله السيد السيستاني للأمه الإسلاميه

    • زائر 13 | 2:03 ص

      مقال جميل

      لكن العبرة في ان نقتدي بهؤلاء العظماء ونمشي على نهجهم

    • زائر 12 | 1:31 ص

      مقاله

      رائعة وهي تدحض كلام الخوارج الداعشيين مفرقي شمل الامه الاسلامية ان مراجعنا طائفيين يحبون فرقه المسلمين وانا اعتقد ان لو واحد من الطائفه السنية الكريمه زار السيد السيستاني راح يخرج بانطباع مختلف عما كان في خاطره تجاه السيد بعكس لمى تلتقي مع العرعور راح ينسد امامك الافق وتعيش في ضيق نفسي وجسدي

    • زائر 11 | 1:20 ص

      خليفة خليفة الله في أرضه

      لقد تشرفت بزيارته هذا العام عند زيارتي لأرض الأئمة الأطهار عليهم السلام.. حقاً وأنت تحضر المجلس حيث يبدأ بالدعاء للمؤمنين تشعر بروح الجلوس في حضرة خليفة خليفة الله في أرضه..

    • زائر 9 | 12:49 ص

      شكرا مقال ممتاز

      سلمت اناملكم أبو علاء
      وتقبل الله منكم أعمالكم وزيارتكم .

    • زائر 6 | 12:19 ص

      مقال جميل

      شكرا لك على هذا المقال الرائع. وانا شخصيا تكرمة في هذة السنة بلقاءة والحمد الله.

    • زائر 5 | 12:18 ص

      أدام الله بقاءه

      إنهُ السيد الحسيني السيستاني أعلى مراجع الشيعة في العالم...هنيئاً لكم لقاءه والتزود بتوجيهاته الخيّره.

    • زائر 3 | 11:43 م

      ليس بغريب

      نعم هكّذا رأيناه كما وصفت وليس بغريب فهو تلميذ من تلاميذ مدرسة علي بن ابي طالب عليه السلام تلميذ رسول الله صلى الله عليه واله الاول فلا غرابة با، يكون السيد مثال لجده .. حقا نفتخر به مرجعا مربيا قائدا حفظه الله

    • زائر 2 | 11:39 م

      شكرا لك

      أتقدم بالشكر الجزيل لك على هذه النبذة البسيطة من السيرة المقدسة الطيبة لأاحد مراجع الامة الاسلامية العظام والتي تكشف معدن الايمان الراسخ و الخلق الرفيع وسمو النفس والاخلاص والتفاني في خدمة الدين والمسلمين والسعي الحثيث لإعادة اللحمة والترابط بين المسلمين.

    • زائر 1 | 11:31 م

      خوش مقال

      شكراً لك حجي وسام السبع والله يحفظ السيد السيستاني

    • زائر 24 زائر 1 | 8:29 ص

      الشكر لك

      الشكر لك عزيزي

اقرأ ايضاً