العدد 4203 - الإثنين 10 مارس 2014م الموافق 09 جمادى الأولى 1435هـ

العودة إلى الرومي جلال الدين... رمز الحب والسلام

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

كل الذين لهم تماس مباشر مع الأدب العالمي قراءةً وإبداعاً، يدركون مدى مقدرته على النفاذ إلى النفوس متخطياً أو فارضاً نفسه على لغات العالم، وعابراً لكل القيود والحدود والاعتبارات السياسية والدينية. وحده الأدب من له هذه القدرة العجيبة على بث الإحساس بدفء الكلمة ومعانقة المعاني السامية التي تمس النواحي الطرية من الأرواح النقيّة.

قبل أيام أنهيت قراءة العمل الروائي الجميل «قواعد العشق الأربعون»، التي ترتكز على حياة العارف جلال الدين الرومي (دار طوى، ترجمة خالد الجبيلي)، وقد نُسجت هذه الرواية بفضول الفلاسفة وعشق التاريخ.

تروي الروائية التركية إليف شافاق قصتين متشابهتين تُضيئان أثر اللقاءات الحاسمة في حياة كلّ إنسان. ويقول مترجم النص الجبيلي: «تتناول العشق والحب بين الشرق والغرب، والماضي والحاضر، والروحي والدنيوي».

تقوم الرواية على تقنية تعدّد الأصوات، إذ يتناوب فيها الرواة لتقديم تفاصيل علاقتين متقابلتين. الأولى حصلت العام 2008، بينما تعود الثانية إلى العام 1244. وبتمكّن تنجح شافاق في دمج عالمين مختلفين بأفكارهما وشخوصهما وحواراتهما. فلا يكاد القارئ ينتهي من أجواء القرن الثالث عشر في عمق الشرق القديم، حتى تُعيده الرواية بأسلوبها السردي المشوق إلى أميركا القرن الحادي والعشرين.

تنطلق أحداث الرواية من مدينة نورثامبتون الأميركية في مايو/ أيار 2008. وبطلة هذه المرحلة هي إيلا روبنشتاين، امرأة على مشارف الأربعين، تملك كلّ شيء يوحي بالسعادة بالنسبة إلى الآخرين. بيت جميل، زوج طبيب، وأبناء مراهقون… لكنّها مع ذلك لا تشعر بأيّ سعادة لأسباب تتخلل أحداث الرواية. ينجح زوجها في أن يجد لها عملاً كمحرّرة أدبية في دار للنشر، فتُباشر إيلاّ بتردد بقراءة مخطوطة كان أرسلها كاتبها عزيز زاهارا إلى الدار.

تدخل إيلاّ عالم الرواية، ويدخل القارئ معها في عمق الرواية ليتابع تفاصيلها وأحداثها. هكذا، وعبر آلية «التغوير» (الرواية في الرواية)، تُعيدنا الرواية إلى العام 1244، مع اثنين من أبرز الوجوه الصوفية في المشرق العربي خلال تلك المرحلة: جلال الدين الرومي (ت 1273م - 672 هـ)؛ وشمس التبريزي. تُصوّر رواية الكاتب الشاب عزيز حكاية صداقة أسطورية بين شخصين كان لقاؤهما شبه مستحيل. الأوّل هو الشيخ الجليل والشاعر العظيم جلال الدين، والثاني هو الدرويش الرحّالة شمس التبريزي.

تجد إيلا نفسها منساقةً نحو جهاز الكومبيوتر للبحث عن اسم صاحب المخطوطة عزيز زاهارا، فتعثر على بريده الإلكتروني الخاص. تراسله، تتطوّر علاقة جلال الدين بالتبريزي، وتتطوّر في مقابلها علاقة إيلاّ بعزيز. العلاقة الاستثنائية بين الشاعر والدرويش تنعكس على حياة المرأة التي تكتشف أربعين قاعدة من قواعد العشق الصوفي.

تتحوّل علاقة إيلاّ بعزيز من الصداقة إلى الحبّ، فتُقرّر أن تذهب إليه في الطرف الآخر من العالم، لتُكمّل النقص الموجود في حياتها. تلحق قلبها كالدرويش الذي لحق إلهامه. تلتقي بالصوفي عزيز لتكتشف أنّه مريضٌ وتبقى بجانبه إلى أن يموت.

حرضتني هذه الرواية التاريخية التي وجدتها تستند إلى أحداث «حقيقية» من حياة هذا الشاعر الصوفي، على العودة مجدداً إلى جلال الدين الرومي وشعره الصوفي في الحب الإلهي وسيرته المدهشة. عُدت إلى ما كتبته المستشرقة الألمانية آنا ماري شميل (ت 2003) في عملها الضخم «الشمس المنتصرة»، وهو دراسةٌ لآثار الشاعر الإسلامي الكبير في ما يزيد على 800 صفحة كانت خلاصة 40 عاماً من معايشة لأعمال الرومي وآثاره الخالدة.

عمل شيمل هذا من أكثر الأعمال إحاطةً وعمقاً عن هذه الشخصية الأسطورية التي تتنازع في نسبته لها شعوب الدنيا؛ فالأتراك يعتبرونه تركياً؛ والايرانيون يعتبرونه فارسياً؛ والأفغان يعدونه منهم، باعتباره وُلد في مدينة بلخ في خراسان التي تقع حالياً ضمن حدود أفغانستان، والصحيح أنه فارسي لأنه كتب أغلب نتاجه النثري والشعري بلغته الأم الفارسية، ولأنه أيضاً من مواليد بلخ التي كانت ضمن حدود بلاد فارس القديمة. لهذا يقدّر الايرانيون الرومي وأعماله الشعرية نظراً لمضمونها الأدبي العميق والباطني، رغم التباين المذهبي الذي يقلّل من أهميته الإيرانيون في تقييم عظمة الرومي.

وكما تنازعت عليه شعوب الأرض؛ اختلفت بشأنه وتنازعت المذاهب الإسلامية، فالشيعة يعتبرونه منهم؛ والإسماعيليون يُعدون شمس التبريزي الشخصية التي أحدثت انقلاباً فكرياً وروحياً هائلاً عند الرومي هو أحد «حدود» الدعوة الإسماعيلة وأكبر أقطابها؛ وأهل السنة يعتبرونه من أكبر علماء المذهب الحنفي وهو الأصح.

ويعطينا هذا «التلهف» على شخصية ساحرة استحوذت على اهتمام الشرق والغرب والجدل الديني الدائر حول انتمائه المذهبي، مؤشراً على ما للرجل من مكانةٍ روحيةٍ بالغةٍ عند الشعوب. يقول المؤرّخون عندما توفي الرومي شارك في جنازته اليهود وهم يتلون التوراة، والمسيحيون وهم يترنمون بالإنجيل، وبكاه المسلمون وهم يرتلون القرآن وقد غصت بهم طرقات قونية في أجمل تظاهرة عشق جنائزية شهدتها بلاد الأناضول.

لقد ترك الرومي أثراً لا يمحى في العالم الإسلامي وخصوصاً على الثقافة الفارسية والأوردية والبنغالية والتركية، والمعروف أن الشاعر الباكستاني محمد إقبال (ت 1938) كان من عاشقي الرومي وكان يطلق عليه «رومي عصرنا».

استغرق الرومي ثلاثة وأربعين سنة في كتابة «المثنوي المعنوي» الذي يضم ثروةً هائلةً من الشعر، والأمثال والحكايات والحوارات وتفسير النصوص القرآنية والنوادر والنصائح الأخلاقية، وقد خلّف ما يربو على الستين ألف بيت شعر. وكان شعاره السلام حيث يقول:

«تعال... تعال أياً كان اعتقادك تعال. هي عتبةٌ سنتجاوزها معاً حتى ولو كنت أخللت بالتزامك وتعهدك وتخليت عن قسمك تعال...».

وليس بمستغربٍ أن تخصّص منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة قبل سبع سنوات بتخصيص عام عالمي (2007) بمناسبة ذكرى ولادته قبل 800 عام، باعتباره رمزاً للوحدة والمحبة والتسامح الذي حمل رسائل حب إلى كافة الشعوب والأديان. وهي رسائل أحوج ما نحتاجها في شرقنا «الخائب» والمدمّر، الممزّق والمتناحر.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 4203 - الإثنين 10 مارس 2014م الموافق 09 جمادى الأولى 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 18 | 10:07 ص

      ملخص جميل

      قرأت الروايتين والتي قادتني لقراءة المجالس السبعة للرومي وكتاب فيه مافيه !! واسعدني مقالك لانه ملخص جميل لما قرأت ... شكراًلك

    • زائر 12 | 9:28 ص

      بوركت

      انا صوفية الاتجاه..لم اصل لشيئ حتى بالبسيط من عمق المحبة او التسامح او الحكمة لكني في طريق البحث..اعشق الرومي والحلاج ورابعة العدوية وقد اعجبني مستوى ربطك والمعلومات التي اوردتها في المقال..اكتب لنا اكثر كلما اذركت .. قد تولد شيئ من اداة الصحافه يحفز على العشق الحقيقي الخالي من التنافس البغيض الذي وصلو له والمغالاة

    • زائر 11 | 3:16 م

      شكرا للكاتب العزيز

      عرفتنا على شخصيه اسلاميه شرقيه عطيمه سوف نقراله

    • زائر 10 | 9:42 ص

      شكرا لطرحك الجميل

      تحية كبيرة لقلمك الذي فتح أفق البحث. رواية رائعة تحية من امل النعيمي

    • زائر 8 | 8:50 ص

      شكرا للقلم الرائع وسام

      الرومي تغير وتعلم على يد استاذة الكبير شمس التبريزي ، اللذان عاشا معا واعتكفا في غرفة في منزل الرومي
      أخنا العزيز وسام الرجاء المواصله في كتابة مقالات عن الرومي وشمس التبريزي وتحليلهما في الدين

    • زائر 7 | 6:09 ص

      الرومي

      سمعت اشعاره مترجمه من الشيخ ابراهيم الانصاري

    • زائر 6 | 6:06 ص

      الرومي

      فيلسوف عظيم مولانا

    • زائر 5 | 5:54 ص

      أبدعت

      لا فض فوك ولا جف قلمك، أسمح لي إن اشكرك على هذا المقال الرائع وأضم صوتي للقارىء العزيز الذي طلب إن تواصل الكتابة عن نتاج الرومي علنا نعي ما بنا ونعتبر.
      تقبل دعائي لك بالخير

    • زائر 4 | 3:46 ص

      قلم حر

      بارك الله فيك وسلمت اناملك المبدعة ودائما تتحفنا فى مقالاتك الجميله التي تخص الادب والشعراء والكتاب واصل فى مشوارك وزدنا من ثقافة الفن والأدب القديم والمعاصر والحاضر

    • زائر 3 | 3:12 ص

      سلامة

      من اروع الكتب التي قرئتها ، ويا ريت نسلك درب الرومي وشمس التبريزي في فهمهم للدين لما كانت هناك اي خلافات والكل احترم الاخر

    • زائر 2 | 2:34 ص

      تحياتي للكاتب

      المميز الاستاذ وسام حبذا لو تواصل السلسله عن جلال الدين الرومي وتقديم نتاجه واهم ما اعجبك من شعره واقوله للاستفادة من الجميع تحياتي لك والى كل قراء الوسط الاعزاء

    • زائر 1 | 12:07 ص

      قلم مميز

      مقال أكثر من رائع..ثري جدا ومحبوك بعناية فائقة..استمر

    • زائر 9 زائر 1 | 9:18 ص

      شكرا

      شكرا لمرورك الجميل.. سافعل باذن الله

اقرأ ايضاً