العدد 4238 - الإثنين 14 أبريل 2014م الموافق 14 جمادى الآخرة 1435هـ

جليل منصور العريض... عبقرية النهج

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

لم أكن محظوظاً كغيري من آلاف الطلبة البحرينيين الذي أكملوا تعليمهم الأكاديمي في جامعة البحرين واستفادوا من النخبة الوطنية الرائعة التي كانت تطرّز «العقد الفريد» للهيئة التعليمية في الجامعة، وعلى رأس هذه الكوكبة المتميزة من التربويين عبدالجليل منصور العريض (1944 – 2014)، أحد فرسان هيئة التدريس بقسم اللغة العربية بالجامعة، حيث كان أستاذاً للأدب العربي، وكان نجماً ساطعاً في المشهد الثقافي والأدبي البحريني. لكن اسمه ظلّ يتردد كثيراً على مسمعي في المسامرات والأحاديث التي كنا وبعض الاخوة نخوض فيها في سياق الكلام عن الحركة الفكرية والأدبية في البحرين، بوصفه أحد أبرز الأكاديميين المهتمين بالتراث الأدبي البحريني، وبالشعر العربي القديم بشقيه الجاهلي والإسلامي.
قبيل وفاته بنحو أسبوع، اتصلت بحرمه السيدة أنيسة المنصور لعيادته، لكنها أخبرتني بانشغالهم بترتيب رحلة العلاج، مقترحةً أن تتم الزيارة بعد رحلتهم العلاجية، لكن قضاء الله كان أسبق، فرحل عن عالمنا في 30 يناير/ كانون الثاني 2014، مخلّفاً وراءه صيتاً علمياً وأخلاقياً وافراً، ومكتبة ضخمة، وأبحاثاً علميّة لم تجد طريقها للنشر.
ظل العريّض وفيّاً لتخصصه الذي أحبه وحبّب إليه، وقد استطاع عبر السنوات الثلاثين التي قضاها أستاذاً للأدب العربي، أن ينقل هذا العشق للعربية لأكثر من جيل من طلبة الجامعة، ممن عبر منهم قاعات درسه، واقتربوا منه إنسانياً ولمسوا فيه هذا الفيض الأبوي الحانيّ، والأريحية العذبة، وباب مكتبه المشرع دائماً أمام طلبته ومحبيه. ولئن كان رحمه الله شبه غائب عن المشهد الإعلامي، فلأنه كان شديد الإيمان بأهمية الانصراف لمسئوليته كأستاذ جامعي، تتسع اختصاصاته وشواغله لأكبر من الحدود الميتة لقاعة الدرس وأسوار الجامعة. فتعهد أجيالاً كثيرة بالعلم والمعرفة، وكان يولي «مكتبته الخاصة» التي جمع نفائسها من عواصم الشرق والغرب أهمية خاصة من وقته واهتماماته.
لقد أهلّته طول المدة التي قضايا أستاذاً وباحثاً وتربوياً إلى تقديم يد العون لكثيرٍ من الباحثين وطلبة الدراسات العليا، كما كانت أعماله العلميّة المشتركة مع رفيقة رحلة الحياة والعلم السيدة أنيسة المنصور تشهد لهما بعلوّ الكعب في مضمار البحث الأدبي وتحقيق النصوص، وهو شغفٌ طبع مسيرتهما العلمية الطويلة.
نسج العريض علاقاته العلميّة والإنسانية مع المؤسسات والشخصيات ومراكز البحث العلميّ، وقدّم عدّة دورات داخلية لتطوير معلّمي اللغة العربيّة، وساهم في تأليف كتب نصوص المرحلة الإعدادية في العام 1974، وشارك في عدّة مؤتمرات بحرينية وإقليمية، وشارك في تحكيم بعض البحوث لدوريات محكّمة، وأشرف وناقش بحوثاً علمية في البحرين وبيروت .
بين العريض وشيخه الفيلسوف كمال الدين ميثم بن علي البحراني (ت 699 ﻫ/ 1559م) أكثر من ملامح شبه وتقارب، فهو ابن لهذا التراث العلمي الخالد، كلاهما وقع في غرام كلام الإمام علي بن أبي طالب، وكلاهما سلك دروب الهجرة لطلب العلم، وكلاهما أيضاً اختار الإنتاج العلمي سبيلاً للتعبير عن توتره الإبداعي ومسئوليته الاجتماعية.
وكما رحل الشيخ ميثم إلى بغداد، عاصمة الثقافة العربية والاسلامية الكبرى، وتيسَّر له أن يتبادل الرأي مع كبار العلماء في مختلف الميادين المعرفية، لكنه سرعان ما اعتزل الأقران لانشغالهم بالمظهر قبل المخبر، وانكبَّ على الكتب تحصيلاً وتأليفاً؛ كذلك كان العريض الذي تعدّدت مدن ومرافيء العلم التي أخذ عنها، فمن بيروت عروسة المتوسط (البكالوريوس) إلى الاغتراف من نيل القاهرة (الدبلوم العالي في الدراسات اللغوية والأدبية)، وصولاً إلى تونس التي تستند إلى تراث فاطمي عريق (دكتوراه الحلقة الثالثة، دكتوراه الدولة)، بنى العريض شخصيته العلمية التي شاركت في صياغتها مدن وخبرات وعلاقات إنسانية ساهمت في إضفاء جماليتها على تكوين أفقه المنفتح وعقله الجوّاب وفكره المترصد.
كانت أطروحة العريّض في مرحلة دكتوراه الدولة في الأدب في «فكر الإمام علي كما يبدو من نهج البلاغة»، 1990) واستغرق إعدادها خمس سنوات قضى منها سنتين كاملتين في تثبيت أسانيد النهج. وقد سلك في دراسته منهجاً متكاملاً، فكان لتوثيق النصوص والتاريخ والدراسة الفنية مكانتها جميعاً في الباب الأول، كما استوعب المنهج التاريخي في تحليل النصوص عندما درس الفكر السياسي في النهج، وأخذ المنهج الاجتماعي مكانته، وتصدّرت قضايا الفلسفة والعقيدة مكانتها حين تناول الجانب الكلامي. فيما كان المنهج الفني بقضاياه الأسلوبية والبلاغية حاضراً بقوة، وقد استطاع أن يناغم بين تلك المناهج المختلفة بتوظيفها في دراسته لنهج البلاغة.
والنتيجة التي توصل إليها في دراسته لنهج البلاغة، النص الذي أثيرت حوله الكثير من الشبهات، هي ترجيح نسبتها إلى علي، لكون تلك النصوص في مجملها نابعةٌ من معين فكري واحد، بالإضافة إلى القرائن التاريخية والأدلة التوثيقية والشواهد الإسنادية التي تعضد نسبة تلك النصوص إلى علي.
حصل العريض على الدبلوم العالي في الأدب واللغة من معهد البحوث والدراسات الأدبيّة بالقاهرة (1975)، ثم دكتوراه الحلقة الثالثة في الأدب من جامعة تونس الأولى (1985) عن أطروحته «التفجع في شعر الشريف الرضي».
وكتب مجموعة أبحاث ودراسات أهمها «صحافة البحرين تأريخها، توصيفها»، نشرتها المنظمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم ضمن كتاب «دراسات في أدب البحرين» (القاهرة 1979).
ولعل أبرز عمل منشور على نطاق واسع، تحقيقه لديوان الشيخ جعفر الخطي (مع أنيسة المنصور)، الصادر عن مؤسسة البابطين بدولة الكويت (2002) ونتيجة لقصر المدة الممنوحة لهما في إعداد الدراسة وتحقيق الديوان (ثلاثة شهور)، ظهر العمل ببعض الأخطاء التي تستدعي إعادة طباعة العمل لتلافي هذه الهنات التي ظهر بها الديوان.
كما ساهم بنشر أكثر من تسعة مداخل لشعراء من البحرين في «موسوعة أعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين» التي أصدرتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في تونس. وكان أحد خمسة بحرينيين عُهدت إليهم مسئولية إعداد وجمع المادة العلمية لمعجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين.
وتستعد أنيسة المنصور لطباعة كتابهما المشترك «قراءة في أدب البحرين»، كما كانا قد شرعا قبل نحو 5 سنوات في تحقيق كتاب «سلافة العصر في محاسن أعيان العصر» للسيد علي خان المدني (ت 1120هـ/ 1708م) وهو كتاب يوثّق لشعراء العربية في القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي اعتماداً على سبع نسخ خطية.
هذه ليست سيرةً لرجل قدّم الكثير للبحرين، وإنما دعوةٌ لإنصاف رجال الفكر والتعليم في البلد لمن يعنيهم الأمر.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 4238 - الإثنين 14 أبريل 2014م الموافق 14 جمادى الآخرة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 3:46 م

      رحمك الله أستاذي

      رحمك الله أستاذي الجليل عبدالجليل العريض فقد كنت معلماً قديراً ومربياً فاضلاً ولا أنسى السنة التمهيدية التي درستني فيها وكيف أحببت لغتي الجميلة بشعرها ونثرها وأدبها الذي كنت ننهله من وعائك الصافي الوافي.
      أستاذ وسام .. شكراً لك على هذه المواضيع الغنية بالمعلومات التي نفتقدها عن أعلام البحرين المغيبين في إعلامنا، أعطيك مثالاً لشخصية شاعر هو أشعر أهل البحرين بشهادة الشاعر العراقي مصطفى جمال الدين وهو الشاعر الشيخ عباس الريس الدرازي رحمه الله.. حبذا لو تسلط الضوء عليه

    • زائر 6 | 12:36 م

      سلمت أناملك

      أيها الكاتب القدير أستاذي وساام والقلم المنير يسعدني و يشرفني أن أقدم لك معاني الشكر والثناء باختيارك شخصية عظيمة و فريدة الدكتور عبدالجليل رحمة الله عليه لمقالك سيدي الكريم كنت طالبة في صفه و كان المعلم القدير والصديق، عامل الجميع بحزم ممزوج بعاطفة حنان الأبوة و المزح و جذب بطيبته جميع الطلبة من الجنسين للتوغل في الأدب العربي بشتى مجالاته فكان نعم المشجع و المحفز و هو مسيرة فخر وذكرى رجل، غاب ولا يزال نجمه يسطع في سماء القلوب و العقول .

    • زائر 4 | 6:47 ص

      شكراً لهذه المقالة الجميلة

      نشكر الأستاذ وسام على هذه المقالة والعرض الجميلين لشخصية قدمت وأعطت كثيراً لأجيال من الطلبة في الجامعة.. وحببتهم في النقد والشعر والأدب..
      مما ميز هذه الشخصية العلمية أنه يتعامل مع طلابه بأبوية وحب وإن كان حازماً أحياناً.. لقد درست عنده ولمست منه ذلك، وآلمني خبر وفاته جداً..
      نسأل الله لنا وله الرحمة والرضوان

    • زائر 3 | 6:18 ص

      رحمة الله الدكتور منصور وجزاه الله خيرا

      شكرا ابو علاه على هذا المقال. انا كنت من احد طلبة الدكتور وزوجته الدكتورة انيسة. لقد كانوا بحق نعم الاساتذة ومحبين لطلبتهم. وقد استفذنا منهم كثيرا. وفلا تركوا بصمات كبيرة لا تنسى على كل من درسوه. لقد فتحوا اعيني على الكثير من الكنور الخاصة بالادب العربي والادب البحريني. ورحم الله الدكتور واطال عمر الذكتورة ونفعنا الله بعلمهم. ورحم الله والديكم أبو علاء. اخوك د. محمد ع. ع.

    • زائر 5 زائر 3 | 9:34 ص

      بوركت

      بوركت ابوحسين .. مرورك يسرني كثيرا ورأيك محل اعتزاز

    • زائر 2 | 3:56 ص

      تحياتي

      للكاتب القدير حبذا لو تكمل المقاله عن الكاتب الكبير بنماذج من كتاباته مع تطعيمها بملاحظاتك عليها

    • زائر 1 | 1:30 ص

      رحمك الله يا أستاذي

      رحمك الله يا أستاذي .. ايها المربي الفاضل

اقرأ ايضاً