العدد 4238 - الإثنين 14 أبريل 2014م الموافق 14 جمادى الآخرة 1435هـ

الإنسان جوهر التنمية البشريّة

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

لطالما ارتبط قياس النماء بمتغيّرات واعتبارات مادية تستند إلى نتائج الميزانيّات العامّة للدول، والفارق بين حجم الصادرات والواردات وغيرها من المؤشرات الاقتصادية. غير أنّ الفكر الإنمائيّ الجديد عصف بهذه المسلّمات وطرح من جديد على طاولة النقاش تساؤلات خطيرة عن مدى الريادة في مجال التنمية للدول المتقدمة، أي تلك التي تشهد ميزانياتها فائضاً، ودخل أفرادها الفرديّ ارتفاعاً. كما تساءل المفكرون الجدد في مجال التنمية البشرية عن مدى صحّة تأخّر البلدان النامية والفقيرة في مجال التنمية بسبب ما تشهده من عجز في ميزانياتها، وبسبب ثقل حجم المديونيّة واعتمادها على الإعانات الدولية.

وكغيرها من الأفكار الإنسانيّة، تعتبر فكرة التنمية البشريّة مجالاً خصباً للاجتهاد والتطوير سواءً على مستوى المفهوم أم على صعيد رصد المؤشرات التي تقاس بها؛ إذْ هي ليست من الأفكار الجامدة المحنّطة، بل هي، بطبيعتها الدينامية، تقبل التطوير في المفهوم وكذلك في المؤشرات. أمّا على مستوى المفهوم فقد كانت التنمية البشرية تعرّف سابقاً بأنّها «توسيع خيارات البشر»، وصارت اليوم مع الفكر الإنمائي الجديد تعرّف على أنها «توسيع لخيارات البشر فيعيشوا حياة مديدة ملؤها الصحة والإبداع ويسعوا إلى تحقيق الأهداف التي ينشدونها ويشاركون في رسم مسارات التنمية في إطار الإنصاف والاستدامة على كوكب يعيش عليه الجميع».

حيث يتجاوز هذا التعريف بوضوح النموذج القديم في مقاربة التنمية البشرية؛ تلك المقاربة التي طويلاً ما اعتبرت المقياس الاقتصاديّ، أي تطوّر اقتصاد الدولة وارتفاع دخل الفرد، الضامن لتحقيق الرفاه والتقدّم والتنمية، وعليه فكل دولة بحسب المنظور القديم حققت هذه الشروط تعتبر رائدة في مجال التنمية البشريّة.

غير أنّ الفكر الإنمائي الجديد وخصوصاً مع بعض المنظّرين له على غرار «أمارتيا سين» و»محبوب الحقّ»، قد عدلا عن هذه الفكرة، أو على الأقلّ عدّلا منها وانتبها، مثل غيرهما، إلى أنّ الإنسان هو الثروة الحقيقيّة لأية أمّة. وقد فتح هذا النهج الجديد في الفكر الإنمائيّ آفاقاً أرحب جعلت من الإنسان محور العمليّة التنمويّة، لأنّ الموارد الطبيعيّة لا يمكن أن تصمد للأجيال القادمة بهذا الاستنزاف اللامحدود الحاصل لها على أيّامنا هذه، كما أنّ الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعيّة التي هزّت العالم تقدّم الدليل تلو الآخر على عدم صلاحيّة السوق ركيزة دائمة للتنمية.

إنّ اعتبار البشر المورد الرئيس والمحرّك الجوهري لعمليّة التنمية البشريّة والمستفيد الأوّل منها، يؤكد أنّ جوهر التنمية البشرية هو الاستدامة والإنصاف والتمكين؛ فالاستدامة تعني ضمان استمرار التنمية البشرية عبر الزمن، والإنصاف يعني إزالة الفوارق الهيكلية، والتمكين يعني المشاركة في الخيارات على صعيد الأسرة والمجتمع والوطن، والتأثير فيها والاستفادة منها.

ومن ثمّة فإنّ مؤشرات التنمية البشرية قد تغيّرت وفق الفكر الإنمائي الجديد؛ إذ تعتبر الصحة والتعليم مثلاً من مؤشرات التقدم في التنمية البشرية، إضافةً إلى مؤشرات أخرى منها مشاركة البشر في رسم ملامح التنمية والإنصاف والاستدامة ومقومات الحرية.

وللدقة، يمكن تصنيف هذه المؤشرات إلى مؤشرات أساسيّة وتتمثل في الصحة والتعليم والدخل الفردي، ومؤشرات مضافة ومهمّة للتنمية البشرية هي الإنصاف والديمقراطية والاستدامة.

وهذه المؤشرات، بصنفيها، تتكامل؛ فعلى سبيل المثال لا يكفي تحقيق تقدم كبير في الصحة والتعليم سواء على مستوى البنية التحتية أم على مستوى المخرجات والنتائج، وإنما توفير فرص متساوية وعادلة في الصحة والتعليم مثلاً، هو المؤشر الحقيقي على مدى التنمية البشرية المتحقق من بلاد إلى أخرى.

لقد تمكنت بعض البلدان الفقيرة من اللحاق بركب البلدان الغنية، ومن البلدان التي حلت في المراتب الأولى في مجال التقدم في التنمية البشرية اندونيسيا وكوريا الجنوبية والصين. كما شمل تقدم ملحوظ في أنماط التنمية البشرية غير المرتبطة بالدخل بلداناً أخرى، مثل تونس وعمان ونيبال. وعليه فإنّ التقدم في الصحة والتعليم مؤشر جيّد للتنمية البشرية حتى لو تعذر النمو الاقتصادي السريع.

إنّ للتنمية البشرية وفق الفكر الإنمائي الجديد، خصائص عديدة لعلّ أهمّها أنّها تجمع بين إنتاج السلع وتوزيعها وتعزيز القدرات البشرية واستثمارها. فضلاً عن كونها تركز على خيارات الإنسان وما يجب أن يكون عليه وما يملكه وما يفعله من أجل تأمين مورد رزقه. كما أنه من خصائصها أنها لا تعني البلدان الغنية أو المتقدمة فحسب؛ بل هي مجال تشاركي دينامي يطبق على أقل البلدان نمواً مثلها مثل أكثرها تقدماً.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 4238 - الإثنين 14 أبريل 2014م الموافق 14 جمادى الآخرة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 2:33 م

      اقرؤوا يا ناس

      الفكر الإنمائي الجديد: الإنسان هو الثروة الحقيقيّة لأية أمّة. وقد فتح هذا النهج الجديد في الفكر الإنمائيّ آفاقاً أرحب جعلت من الإنسان محور العمليّة التنمويّة، لأنّ الموارد الطبيعيّة لا يمكن أن تصمد للأجيال القادمة بهذا الاستنزاف اللامحدود الحاصل لها على أيّامنا هذه، كما أنّ الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعيّة التي هزّت العالم تقدّم الدليل تلو الآخر على عدم

    • زائر 1 | 5:42 ص

      الإنسان جوهر التنمية البشريّة

      موضوع جميل
      شكرا على طرح مواضيع تثقيفية توعوية

اقرأ ايضاً