العدد 4402 - الخميس 25 سبتمبر 2014م الموافق 01 ذي الحجة 1435هـ

ثقافة الحكمة في التاريخ اليوناني في الأزمات والمحن

شبر إبراهيم الوداعي

باحث بحريني

الاطلاع على المسار التاريخي للتطور الفكري والحضاري للأمة مسألة في غاية الأهمية لإثراء المعارف وتنمية المدركات والمفاهيم الفكرية وتبين القرارات الرشيدة في تجاوز الأزمات.

ويشكل التاريخ اليوناني ثروة فكرية تستهوي الإنسان للإطلاع على مكنوناتها والاستفادة من مفاصلها التاريخية التي تمثل في قوامها ثروة إنسانية وقيمة حضارية لما تقدمه من أمثلة تاريخية قويمة في صناعة قيم العلاقة الحكيمة بين بني البشر. ومن الموضوعات ذات الدلالة في توصيف التطور التاريخي للفكر اليوناني البحث المنشور في مجلة «عالم الفكر» (العدد 1 المجلد 31)، يوليو/ سبتمبر 2002 لأستاذ التاريخ اليوناني والروماني القديم في جامعة الاسكندرية مصطفى العبادي، تحت عنوان «نشأة الفكر التاريخي وتطوره عند اليونان». ويعالج البحث مفاصل تاريخية مهمة في تطور هذا الفكر، مستعرضاً الأحداث التي تركت أثرها على منظومة القيم للفكر اليوناني. ومن القضايا المهمة التي يجري معالجتها وتحليل أحداثها بمنهجية تاريخية ونقدية «الخطب التي يجري إلقاؤها في ظروف الأزمات والمحن»، ويستعرض الباحث محطات مهمة في خطبة التأبين لممثلي تيارين متناقضين في مواقفهم من الجوانب الحقوقية والإنسانية في تقييمهم لما ينبغي اتخاذه من موقف بشأن ما عرف بـ «أزمة مدينة ميتيلليني»، في جزيرة لسبوس في شمال شرق إيجه المتاخم لساحل آسيا الصغرى (تركيا حالياً)، ويشير الباحث إلى أن سبب الأزمة تتمثل في تزعم ميتيلليني ثورة في لسبوس ضد السيادة الأثينية العام 428 ق.م، بيد أنهم قرّروا في العام 427 ق.م العدول عن الثورة والاستسلام للقيادة الأثينية وإرسال وفد للتفاوض في أثينا ذاتها أمام الجمعية العامة «الاكليزيا»، للإتفاق على الأسس التي تسمح بالعودة إلى الحلف الأثيني. غير أنهم واجهوا قراراً عنيفاً من قبل الاثينيين في «الاكليزيا»، حيث جرى أسر أعضاء الوفد وقتل الرجال البالغين واسترقاق جميع النساء والأطفال من أهل ميتيلليني.

الباحث يشير إلى محطات مهمة، في منهج معالجة هذا الحدث التاريخي، ويستدرك ما الذي فعله العقلاء الأثينون لمعالجة الموقف بحكمة، حيث جرى عرض القضية على اجتماع الجمعية العامة «الاكليزيا»، وتقدم كل فريق بخطاب جسّد فيه رؤيته في الحل. ومما ينبغي التوقف عنده واستقاء العبر والدروس منه، الطريقة التي جرت فيها معالجة الموقف في تلك المرحلة القديمة من تاريخ تطور المجتمعات البشرية، حيث قدّم كل فريق رؤيته في الحل وحسم الموقف بشكل إيجابي عن طريقة التصويت برفع الأيدي.

البحث يستعرض محطات مهمة في خطبة ممثل الفريق المتشدد «كليون» الذي يقول في خطبته «لقد سبق لي أن أدركت مراراً في مناسبات مختلفة، أن الديمقراطية لا يمكنها أن تحكم الآخرين، وإني الآن لأكثر اقتناعاً بسبب تغيّر رأيكم بشأن ميتيلليني. إنكم لا تدركون المخاطر التي تجلبونها على أنفسكم حين تستمعون لرجائهم أو تستجيبون لعاطفة الشفقة. إنكم لا تدركون أن الأمبراطورية معناها الاستبداد بآخرين مرغمين، وسلطانكم يتوقف على ما تمارسون من قوة وليس على ما يكنون من ولاء».

ويواصل كليون حديثه بقوله: «من طبائع البشر أن يحتقروا من يحسن إليهم، وأن يحترموا من لا يتسامح معهم. انزلوا بهم العقاب جراء جريمتهم، ولا تميّزوا بين نبلائهم أو عامتهم. ولذلك أنا أرفض الآن كما قلت من قبل، أية محاولة لتغيير القرار الأول، أو أن تنزلقوا لأي من أخطاء ثلاثة مدمرة للأمبراطورية، وهي نوازع الشفقة أو الرحمة أو سحر الكلام. فإذا كان من حقهم أن يثوروا فليس لكم حق في أن تحكموا، أما إذا شئتم أن تكون لكم السيادة، بصرف النظر عن مقدار الخطأ أو الصواب، أنزلوا بهم العقاب الذي فيه مصلحتكم، وإلا فالبديل الوحيد هو أن تتخلوا عن الأمبراطورية حتى يمكنكم أن تنعموا بدور الرجل الطيب من دون ضرر».

الباحث يستعرض الموقف الآخر المعارض والمتمثل في خطاب «ديدوتوس»، وهو خطاب يتبين الحكمة العقلانية في معالجة المشكلة، حيث يشير إلى «أن من الحكمة في المواقف الخطيرة أن نتريث، وأن نعاود التفكير والمناقشة بدلاً من العجلة والاندفاع، وخيرٌ للإنسان أن يكون أكثر إقناعاً من أن يلجأ إلى إشاعة الخوف في نفوس خصومه، فالأمر المعروض علينا يتعلق بالمستقبل أكثر منه بالحاضر. وخيرٌ لنا أن نكتسب ثقة الأكثرية في ميتيلليني من أن نفقد ثقة سائر الحلفاء في قيادتنا». ويشدّد على «أن الحكم بموت الجميع من دون تمييز، كما يريد كليون، خطأ مطلق، لأن هناك قلة مخطئة وكثرة بريئة، ولذلك أرى من مصلحتنا، للحفاظ على الامبراطورية، أن نتغاضى عن خطأ ارتكب في حقنا من أن نقتل الأبرياء. ولنعقد محاكمة عادلة للمذنبين، ولا نمس الآخرين بسوء».

ويشير الباحث إلى أنه في نهاية المناظرة عرض الأمر بالتصويت وكان مناصفة تقريباً، ولكن الغلبة كانت لرأي التوجّه الحكيم الذي يمثله ديودتوس، ونجا أهل ميتيلليني في اللحظة الأخيرة.

كم نحن بحاجةٍ إلى قراءة تاريخ الأمم لنتبين الموقف الحكيم والصائب، والتيقن من حقيقة أننا نبحر على ظهر سفينة واحدة، وعلينا أن ندرك المخرج المتعقل للخروج من عنق الزجاجة وصون سفينتنا المشتركة، ونحن قادرون على فعل ذلك.

إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"

العدد 4402 - الخميس 25 سبتمبر 2014م الموافق 01 ذي الحجة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 7:20 ص

      الزائر رقم "1"

      يبدو انك بالفعل فا...... ليس دراسيا وحسب بل أدبيا أيضا والدلالة على ذلك ان الالفاظ ....التي استخدمتها في تعليقك هو ما تعلمته من دراستك في البلد الذي درست فيه ونهلت من الثقافات ....... التي بلا شك اكتسبتها من دور ا......................
      \n...............................
      \nنحن طلبنا من الكاتب ان يرد لكنه رفض ما اضطرنا الرد على ...........تعليقك.

    • زائر 1 | 2:29 ص

      خوي اني ساقطة فى التاريخ

      يوم كنت بالتوجيهي درست الادبي وعدت سنتين لانى ماكنت فالحة وايد ورحت جامعة ومافلحت بس ابي اعرف شنو يعنى خوي ناريخ اليوناني وما تعيشه شعب البحرين اشكرك خوي

اقرأ ايضاً