العدد 4417 - الجمعة 10 أكتوبر 2014م الموافق 16 ذي الحجة 1435هـ

الحاجة إلى مراجعات

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

انتشر مقطع فيديو على «يوتيوب» يُظهر الممثل الأميركي الشهير بِن آفْلِك، في حوار مع المقدم بِل مار، والكاتب سام هارِس عالم الأعصاب الأميركي والملحد الشهير الذي تصدرت كتبه قوائم الأكثر مبيعاً. كان بِل وسام يهاجمان الإسلام بشدة ويتهمانه بأنه «دين إرهابي وعنصري لا يحترم حقوق المرأة والمثليين وحريات التعبير»، وهو أيضاً دين «يؤمن أتباعه بواجب الجهاد ضد العالَم غير المسلم». وفي المقابل، كان بِن يدافع عن الإسلام بتخبط ولكن بعاطفة، ما حَدا بآلاف المسلمين في «فيسبوك» و»تويتر» لنشر المقطع والثناء عليه.

لكن المتابع للمقطع كاملاً يجد أن «بن» فشل في الدفاع عن الإسلام! فشل لأن سام هارس ليس كاتباً عادياً، بل باحث محترف، وناقد شرس للأديان التي يرفض أن ينصبها مثالاً للأخلاق والروحانيات. ورغم اختلافي معه جداً، وخصوصاً في تهجمه على الإسلام، إلا أن ما قاله هو وبِل، يدعو المرء إلى التوقف قليلاً. فلقد ذكرا إحصائية ـ لا أعلم مدى صحتها ـ تقول إن تسعين في المئة من الشباب المصري يعتقد بأن «المُرتد» يجب أن يُقتل. ثم وجّها حديثهما إلى بِن سائليه: أليس هذا دين راديكالي؟

ورغم أن حَدّ الرِّدة موضوع جدل بين علماء المسلمين، إلا أن بِن آفلك، لا يمكنه معرفة تلك التفاصيل. ولكن السؤال هو: كيف اقتنع تسعون في المئة من الشباب (في مصر) بوجوب قتل المرتد رغم الخلاف الشديد حول الحد؟ مرة أخرى، لستُ متأكداً من صحة الرقم، ولكن تساءَل بينك وبين نفسك الآن: هل تعتقد بأن القتل هو جزاء المرتد عن الإسلام؟

إن من يُتابع ما يُكتب في وسائل التواصل الاجتماعي، ومن خلال قراءة المقررات المدرسية، ومن خلال الاستماع إلى خطب الجمعة، يجد أن فكرة الحرب والقتال والانتقام متأصلة بعمق في العقل الإسلامي المعاصر. فقبل أيامٍ دعا الإمام في خطبة العيد قائلاً: «اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين»، وهو دعاء نسمعه في نهاية كل خطبة جمعة، فتساءلتُ وأنا على وشك الانطلاق للسلام على الناس صباح العيد: ينصرنا على من؟ على أصدقائنا من غير المسلمين الذين يهنّئوننا بالعيد؟ ويذلّ من؟ الأطباء «المشركين» الذين يعالجوننا من الأورام والأمراض الخبيثة؟ لم أستطع أن أفهم كيف أدعو على هؤلاء بالذلة والهزيمة ثم أقول إن ديني دين سلام ورحمة!

ولذلك فإنني لم أفرح برد بن آفلك العاطفي، لأننا نحتاج، قبل أن نتحمس لمثل هذه المواقف النبيلة، أن نُقرّ بأن لدينا مشكلة فهم وتطبيق للنصوص الشرعية. وهناك الكثير من الأفكار المترسخة في العقل الإسلامي تتطلّب مراجعات جادة وشجاعة، مثلما فعل الشيخ عبدالله بن بيّه عندما دعا لمؤتمر ماردين، وهي المدينة التي أُطْلِقَ اسمها على فتوى ابن تيمية الشهيرة بـ «بفتوى ماردين»، حيث سُئل حينها إن كانت المدينة دار حرب أم دار إسلام بعد أن احتلها التتار؟ وهل على المسلم أن يهاجر أم يبقى؟ وإن بقي فهل يأثم؟ فأجاب ـ رحمه الله ـ إجابة أَختَصِرُها فيما جاء في نهايتها: «ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين. ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث يعامَل المسلم فيها بما يستحقه، (ويقاتَل) الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه»، وهي فتوى ارتكز عليها تنظيم القاعدة في عملياته التفجيرية، ولكن الشيخ بن بيه – حفظه الله - عندما درس المخطوط الأصلي بعناية وبمساعدة مختصين، اكتشفوا أن شيخ الإسلام لم يكتب «ويقاتَل» حيث لا تصح في سياق المعنى ولا اللغة، بل كتب «ويعامَل»، وبذلك تغيّر المعنى كلياً؛ فارتبك المستغلون للفتوى، وأطلقت القاعدة بيانات ترفض مراجعات مؤتمر ماردين.

وقبل أقل من عام، تحدّث الشيخ بن بيّه بصراحة وبجرأة عن وجوب تعليق الجهاد بمفهوم المتطرفين اليوم، وقال إن»القتال» ليس هو فقط المقصود بالجهاد. وأصّل ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: «والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله»، وقوله في بر الوالدين «ففيهما فجاهد»، وفي غيرهما من المواضع. حيث كان القتال ضرورياً في الأزمنة الماضية لأن النظام العالمي حينها كان مُركّباً بتلك الطريقة، فكل أمة توسع حدود دولتها لتضمن بقاءها. أما اليوم، فلقد حلّت الاتفاقيات الدولية والحدود المعترف بها محل تلك النزاعات، وأصبحت أسلحة الدمار الشامل قادرةً على إبادة بلدة كاملة في دقائق؛ ما يعني أن «الجهاد» اليوم سيُفْضي إلى إبادات جماعية، وهذا أمرٌ لا يقبله الشرع.

نحن في حاجة اليوم إلى الوقوف مع فكرنا الإسلامي، وكثير من معتقداتنا، وقفة جادة. نراجع عندها مفاهيم كبيرة وخطيرة، كمفهوم الولاء والبراء، ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحقوق الإنسان، والجهاد وغيرها من القنابل الموقوتة التي يؤمن بها غالبية المسلمين دون أن يعرفوا ضوابطها وحدودها. والمراجعة لا تعني النقض أو الإلغاء، وإنما إعادة التأويل والفهم بناء على مقتضيات الواقع، ثم التنزيل عليه بما يتناسب مع حاجات الإنسان وأحكام الشريعة اللذين لا يمكن أن يتناقضا. ومن دون هذه المراجعات سيظل فكر «داعش» و«القاعدة» وغيرها من الجماعات الراديكالية متغلغلاً في بيوتنا، وكتبنا وعقولنا، فالفِكْر لا يُواجَه إلا بالفكر.

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 4417 - الجمعة 10 أكتوبر 2014م الموافق 16 ذي الحجة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 12:52 م

      رائع

      مقال رائع. لكن للأسف في الوقت بدل الضائع. فنحن المسلمون نحتاج قبل أن نتفهم مع العالم أن نتفهم مع بعضنا. فباالصور رأينا داعش تقتل سائق حافلة لأنه علوي. وأفراد من الجيش العراقي يقتلون رجل مسن بحجة أنه من داعش. ياليت نحن دماغنا أول ثم نتحدث مع العالم. لاحول ولا قوة الا بالله.

    • زائر 1 | 2:24 ص

      أصبت

      مقال جريئ وواقعي وأصبت بتحليلك العميق موطن العلة فهل نحن قادرون على فهم ما أدرجته من حقائق يا أبن الرجل الاسلامي النزيه في بنيته الفكرية ومفهومه الديني.

اقرأ ايضاً