العدد 4420 - الإثنين 13 أكتوبر 2014م الموافق 19 ذي الحجة 1435هـ

عن رحيل الشيخ العصفور

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

لا يعني رحيل الشيخ أحمد بن خلف العصفور (1926 – 2014) ذهاب آخر العلماء الكبار الذين دشنوا البدايات الفعلية لانخراط العمامة في المؤسسات الرسمية عبر بوابة القضاء الشرعي من خمسينيات القرن الماضي فمهروها بطابعهم بقدر ما دمغتهم هي بميسمها ومزاجها الخاص فحسب، بل يعني أيضاً أن تياراً دينياً عُرف بنبرته النقدية الهادئة في مجمل القضايا السياسية، فقد أبرز رموزه وقياداته التاريخية المخضرمة: الشيخ منصور الستري (ت 2000) والشيخ سليمان المدني (ت 2003) والشيخ الراحل العصفور، فهم الذين رفقوا مسيرة بناء الدولة وعبور مرحلة الاستقلال وملابساتها اللاحقة والعسيرة صحبة الشيخ باقر العصفور (ت 1979) وأستاذه القاضي العراقي الشيخ عبدالحسين الحلي (ت 1956).

وإذا كان الشيخ أبو خلف قد بزّ رفقاء دربه ببروزه الساحق في مضمار الخطابة الحسينية حين رافق أعواد المنابر منذ العام 1944 حتى عُدّ عميدها، بينما اختار الشاعر ملا عطية الجمري (ت 1981) أن يلقبه بـ «ساحر المنبر»، إذ استطاع ببراعته الفريدة وأدائه الشجي أن يجمع البحرينيين على اختلاف أمزجتهم السياسية التي كانت تتوارى لصالح حرارة العقيدة وسخاء الدموع عند هلال كل محرم من كل عام متزاحمين حول منبره، ذلك المنبر الذي طاف به في مدن وريف الجنوب العراقي، وإيران ولبنان ومدن الخليج.

قليلون يعرفون أن الشيخ أحمد العصفور، كان متعاطفاً مع نشاط هيئة الاتحاد الوطني في الخمسينيات، وكان يردد في مجالسه الخاصة أنه تأثر وتعاطف مع نشاطها السياسي، وكان يرى أن قادة الهيئة كانوا رجالاً مخلصين في منطلقاتهم وتحركهم، وقد شارك وهو في حداثة سنه في الخمسينيات بكتابة وإلقاء قصائد تضامنية مؤيدة لهم دون أن ينخرط في نشاطها المباشر.

الراحل كان رئيساً للوفد البحريني الشعبي الذي هنّأ بانتصار الثورة الإسلامية في إيران وألقى باسم الوفد كلمة في استقبال خاص مع الإمام الخميني في العام 1979، لكنه لم ينخرط في أي عمل حزبي. بل كانت عواطفه الدينية ميّالةً إلى اقتفاء أثر الوالد، الشيخ خلف العصفور (ت 1936)، قاضي الشرع وإمام الجمعة الذي أولى القضاء وتعمير المساجد أقصى اهتماماته، ولم يتدخل في السياسة لكن السياسة ناكفته وقذفت به إلى مهجره العراقي في كربلاء، حيث عاش الهزيع الأخير من العمر ودفن هناك.

الحذر من الانخراط المباشر في أي عمل ذي صبغة سياسية حادة سيلازم مسيرة الشيخ أحمد العصفور طيلة حياته، وهو وإن ظلّ وفياً لخياراته العبادية والشعائرية التي يراها أصلح للناس وللدين من طموحات سياسية مخادعة وآمال بعيدة لا تنسجم مع وضع داخلي بالغ التعقيد، إلا أنه ظلّ محتفظاً بحرارة الودّ مع تيار عريض يؤمن بهذه الآمال ويتوق لتحقيقها أو لبعضٍ منها، وقد برز ذلك في موقفه المبدئي المعلن من التعامل الرسمي بالاستخدام المفرط للقوة مع المحتجين المسالمين في أحداث 2011.

عمد الشيخ العصفور إلى الإمساك بالعصا من النصف، وإمساك العصا من النصف قد يرضي طرفاً دون آخر في الأوضاع الاجتماعية المستقرة والهادئة، لكنه في أوقات الأزمات والمنعطفات الحادة قد يُسخط بعض أو كل الأطراف، وتضيق الأرضية التي يقف عليها الحياديون حين يلجأ كل طرفٍ إلى المطالبة بموقف واضح ومحدد ومعلن.

الخطيب الملا عطية الجمري استخدم تعبيراً شعبياً ذات مرة في وصف الراحل بأنه «جني»، فهو عالم دين، وقاضٍ وخطيب، وشاعر ومؤلف، وإمام جماعة وإمام جمعة! وأبدى صاحب «الجمرات الودية» استغرابه: «كيف يجد الشيخ أحمد الوقت لمزاولة كل هذه الالتزامات في وقت واحد»، (قصص العصفور، محمود طراده 135).

ينحدر الشيخ أحمد من أسرة علمية تعد الأشهر في تاريخ الخليج وأكثرها انتشاراً، وقد أحصى الباحث خالد النزر 85 عالماً من أسرة آل عصفور برزت منذ القرن السابع عشر الميلادي/ الحادي عشر الهجري وحتى يومنا هذا («آل عصفور أسرة حكمت الخليج»، ص 47)، وكان بعضهم من أشهر علماء وأبرز مراجع الدين بحيث لم تخل كتب التراجم من ذكر مشائخ آل عصفور.

إن رحيل عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية مستشار المجلس الأعلى للقضاء والقاضي بالمحكمة الكبرى، يطرح أسئلة جدية وعميقة حول مستقبل تيار الموالاة في الدائرة الشيعية، والذي يمكن تمثيله بجمعية الرابطة الاسلامية، بصرف النظر عن انقساماته الداخلية. صحيحٌ أن الشيخ الراحل كان يتحاشى التصنيفات الحزبية، وقد سعى دائماً إلى عدم التورط في مخاطر الوقوع في إغراءاتها، لكنه يظل الأب الروحي والراعي الأسنّ والأكبر مكانةً لتيارٍ يجد نفسه دائماً قادراً على النفاذ في المساحات الضيقة من أجل التفاهم والانسجام مع الأطروحات الرسمية.

رحمك الله يا أبا خلف، لقد كنت جزءاً من ذاكرة وطنية حافلة بالأحداث والمنعطفات والمنغصات والآمال، ولقد أحبك الناس بقدر اختلافهم فيك، وهذا شأن الكبار دائماً.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 4420 - الإثنين 13 أكتوبر 2014م الموافق 19 ذي الحجة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 5:57 ص

      دس السم في العسل

      تيار المولاة!؟ هاذي جديدة. مقالك فيه دي السم في العسل و لعلمك ليست هناك خلافات في التيار المدني

    • زائر 6 | 3:20 ص

      الف رحمة عليك يا شيخ

      الف رحمة عليك يا شيخ أحمد العصفور

    • زائر 5 | 1:53 ص

      عدم العناية بالتيار

      مقال متزن في طرحه وفقك الله يا أخ وسام . فعلاً ان تيار الموالاة ( الشيعي ) فقد كل أجنحته التي لها ثقل وتتيح له الطيران ، وأما الشخصيات المتبقية فمع احترامي لها فلا تمثل ثقلاً لهذا التيار وهذا التوجه . الملاحظ أن أحداث 2011 م ، وهدم المساجد ، والحوادث الشنيعة التي ذكرت وتم توثيقها في تقرير بسيوني قد غيرت أفكار الكثيرين من هذا التيار الذي خسرته الحكومه بشكل كبير وحتى عند توزيع الكعكة لم يحض بشيئ فقط بعض المتملقين لاقوا الفتات ولكن الغالبية هي من الذين ( لاحضت برجيلها ) في الختام نسأل الله الرحمه

    • زائر 4 | 1:22 ص

      لا اتفق معك

      لم تقنعني

اقرأ ايضاً