العدد 4431 - الجمعة 24 أكتوبر 2014م الموافق 30 ذي الحجة 1435هـ

تونس عشية الانتخابات... صراعات حزبية بين الكبار وإحباط بين الشباب

أحد المرشحين للبرلمان في «زفة انتخابية»
أحد المرشحين للبرلمان في «زفة انتخابية»

قبل أن تهبط الطائرة في مطار قرطاج، تحوم حول الخليج الذي تطل عليه العاصمة التونسية التي انطلقت منها شرارة الربيع العربي أواخر العام 2010.

تذهب إلى تونس وعقلك محملٌ بصور البوعزيزي والمظاهرات الكبرى وهروب الدكتاتور بن علي وحكومة الترويكا والصراع الحزبي الذي شلّ البلد لأكثر من ثلاث سنوات. ومن الوهلة الأولى وأنت تسير في الشارع الرئيسي بالعاصمة (شارع الحبيب بورقيبة) ستدرك أن حزباً إسلامياً مثل النهضة من الصعب أن يحكم مثل هذا البلد. فمظاهر التغريب التي تُتهم به النخبة التي حكمت تونس بعد الاستقلال، واضحةٌ لا تخطؤها العين.

ومن اللحظة الأولى تدرك وجود مشاكل كبرى يعاني منها الشباب، الذين يلفون في هذا الشارع طوال النهار، أو يقعدون في المقاهي المنتشرة على طرفيه، أو يجلسون على عتبات المسرح البلدي. فنسبة البطالة تصل إلى 800 ألف عاطل، مع عدد كبير من الخريجين يبلغ 150 ألفاً كل عام. وهو ما يدفع الكثيرين إلى ركوب الأخطار في محاولةٍ لعبور البحر المتوسط بحثاًً عن فرص عمل في الشمال.

كانت الرحلة إلى تونس قبل أسبوع من موعد الانتخابات النيابية، ومن الفندق الذي نزلنا به يمكنك أن تطل من الطابق 22 لترى حركة المارة طوال النهار، أما في الليل فسكونٌ تام، ما عدا مساء السبت والأحد حيث الإجازة الأسبوعية حيث تعاود الحركة بعض نشاطها. وحين تسأل يقال لك بسبب الأوضاع الأمنية، فمن زار تونس قبل سنوات كان ليلها مختلفاً.

الإعلام الرسمي والخاص مهتمٌ بتغطية الانتخابات، وتكثر البرامج الحوارية التي تبث في فترات تغطّي ساعات البث، حيث تُمنح الأحزاب فترات محددة للترويج لبرامجها ومرشحيها.

صراعات حزبية... والمال الفاسد

على الأرض، ومن خلال ما تشاهده، تكتشف عدم وجود اهتمام في الشارع بمتابعة الانتخابات، خصوصاً من جانب الشباب. وحين تبوح بتلك الملاحظة لبعض التونسيين يوافقونك الرأي، فهناك إحباطٌ كبيرٌ لدى الشباب، الذي لم يتحقّق حتى الحد الأدنى من طموحه أو تطلعاته بعد الثورة، فيما يشاهد عواجيز الأحزاب القديمة، إسلامية واشتراكية وسواها يتصارعون على المواقع، فيما بدت فلول الحزب الحاكم السابق تتسلل للعودة إلى الحكم.

من الأمور التي تسمعها كثيراً في النقاشات العامة، مصطلح «المال الفاسد»، حيث يجري ضخ الملايين لشراء الأصوات، خصوصاً مع وجود عدد كبير من العاطلين والفقراء، من أجل التلاعب بنتائج الانتخابات وإيصال أشخاص، حزبيين أو مستقلين، لخدمة أجندات خاصة، مثلما يجري في دول عربية أخرى تنظر إلى الديمقراطية كلعبة سياسية أو مناورات للالتفاف على الخصوم. وقد قام «الاتحاد العام للمعطّلين عن الشغل» بحملة في 15 ولاية لمواجهة استخدام المال السياسي الفاسد، تحت شعار «ما تبيعش صوتك».

ومع غياب الشباب، حيث يُتوقع إحجام الكثيرين عن المشاركة في الانتخاب، يبدو الصراع صراعاً حزبياً بين الكبار، وهناك انتقادات لعدم وجود تكافؤ بين المترشحين. وحين تنزل إلى شارع بورقيبة، تلاحظ مذيعي بعض القنوات يجرون مقابلات عابرة مع بعض المارة لسؤالهم عن هذا الحدث.

الحكومة كانت حريصةً على نجاح الانتخابات، للخروج من المرحلة الانتقالية إلى مرحلة أكثر استقراراً، وقد سمحت للرقابة الدولية للتأكد من شفافية الانتخابات وسلامة إجراءاتها، فهناك 9600 مراقب من داخل وخارج تونس، سيتوزعون على 24 محافظة، للتأكد من سلامة سير العملية الانتخابية والحملات، ولترفع تقارير دورية بشأنها.

من المظاهر التي ستلاحظها الانتشار الأمني المكثف في العاصمة، خشية تنفيذ الجماعات الإرهابية تهديداتها بتنفيذ هجمات لتخريب الانتخابات. فهناك سيارات شرطة مرابطة بصورة دائمة، وبعض المدرعات وسيارات الجيش، وحين مررت ليلاً أمام أحد المباني المحاط بأسلاك شائكة، صاح بي أحد رجال الشرطة للابتعاد، واكتشفت أنه مقر وزارة الداخلية الذي يقع على تماسٍ مباشرٍ برصيف الشارع العام.

هذا الشارع يشهد تجمعات متفرقة لمناصري الأحزاب المختلفة. هناك سيارة صفراء لصق عليها شعارات الحزب الاشتراكي، وهناك شابةٌ ورجلان، يوزّعون ملصقات انتخابية، وينبعث من السيارة صوت مارسيل خليفة. في الجهة المقابلة تجمّعٌ لا يزيد كثيراً عن العشرة من أنصار النهضة، شابات وشباباً دون العشرين، يصفقون على وقع شعارات حزبية. اقترب مني أحدهم وسلّمني ملصقاً انتخابياً يحمل صور تسعة من مرشحي النهضة لدائرة العاصمة، (أربع سيدات وخمس رجال بينهم رئيس الوزراء السابق على العريض)، وقال لي: ستصوّت للنهضة؟ فابتسمت وقلت له: أنا صحافي من البحرين. بادلني الابتسامة ومضى.

مرشّح المجد والنائبة الشقراء

في وسط الشارع هناك لافتات لأحزاب أخرى، إحداها لحزب الخضر، تحمل شعاراته. إلا أن ما شاهدته في اليوم الأخير كان عجيباً. سمعت قرع طبول في الخارج، فأطللت من شرفة الفندق وإذا بفرقةٍ باللباس التقليدي تحمل دفوفاً وأعلاماً، وهي تتراقص وسط الشارع. قادني فضولي الصحافي لمعرفة هل هو حفل عرس أم مولد، فنزلت مسرعاً حتى لحقت بهم على بعد مئات الكيلومترات وقد بلغوا دوّار الساعة. اكتشفت أنها زفّةٌ لأحد المرشّحين للبرلمان المقبل، من «حزب المجد»، يمشي متمخطراً والطبول تشنف أذنيه. كان الجمع في حدود الخمسين أو الستين مناصراً! حين اقتربت منه لالتقط بعض الصور، اعتدل في وقفته وعدل هندامه وقابلني بابتسامة عريضة.

كانت مفاجأة أكثر طرافة تنتظرني في طريق العودة برفقة هذه الزفة لمرشح حزب المجد، إذ التقينا بزفّةٍ أخرى في منتصف الطريق، وكانت لمرّشحةٍ هذه المرة، فاحتك أنصار المرشحين وأختلطت المسرتان وأخذت تتعالى أصوات الاستهجان من بعضهما. كانت حضرتها تتقدم مسيرة التأييد لشخصها الكريم، وهي تحمل ميكروفوناً بيدها، ربما كانت تريد أن تحمس أنصارها بخطبة بليغة أو تطربهم بصوتها الجميل. كانوا يحملون صوراً، ظننتها صور زين العابدين بن علي، وحين اقتربت هالني أنها صورة المرشحة نفسها، وقد ارتدت بزّة شبيهة ببزة بن علي في صورته الشهيرة، إلا أنه يطلّ منها وجه هذه المرشحة الشقراء!

في الفندق، كنا مجموعة وفود من 17 بلداً عربياً، إعلاميين وحقوقيين وشخصيات مجتمع مدني، جئنا للمشاركة في ملتقى يبحث في «دور المجتمع المدني والإعلام في تعزيز التسامح والتعددية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، الذي نظمته المفوضية السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو)، في الفترة ما بين 16 و19 أكتوبر/ تشرين الأول 2014. أما بقية النزلاء فكانوا يابانيين وإيرانيين. الإيرانيون جاءوا للمشاركة في إحياء أسبوع ثقافي فني إيراني تونسي. أما اليابانيون فيأتون في أفواج سياحية صغيرة، وتراهم يحملون كاميراتهم وحقائب صغيرة، نساءً ورجالاً، وهم يتجوّلون في شوارع العاصمة.

السياحة كانت تلعب دوراً أساسياً في الاقتصاد التونسي، لكنها لم تعد كذلك، ليس بعد الثورة بل قبلها بسنوات، فالبنية التحتية لم يجرِ تحديثها، وكانت العملية تخضع للمتنفّذين الكبار، الذين لا يفكّرون بغير الأرباح كما يقول أحد أساتذة جامعة الزيتونة. وفي العقد الأخير كانوا يؤجّرون منشآتهم لآخرين من أجل الربح السريع، وهكذا تراجع أداء هذا القطاع، مع ابتعاد السائح العربي والأوروبي، وغلبة السياح القادمين من روسيا وأوروبا الشرقية، الذين كانوا يأتون حسب عروض خاصة بزيارة لمدة أسبوع مع الوجبات، لا يغادرون خلاله الفندق، ولا ينفقون مالاً في السوق. وهكذا جمدت أوضاع القطاع بعد الثورة واستمرار الاضطراب وزادت مخاطر الإرهاب.

زيارة ليلية للقيروان وابن خلدون

في الليلة قبل الأخيرة، نزلت أتجوّل في شارع بورقيبة. كانت الساعة تجاوزت التاسعة والنصف. اصطدم بي شاب كان يمشي مع صديقه، ثم وقف ليقدّم اعتذاره، فكان ذلك فرصةً للدردشة والسؤال عن الشارع نفسه الذي كان مسرحاً للثورة، فتحدّث أكبرهما بحماسة عن تلك الأيام. وقال: تعال معي لترى بنفسك. مشينا في شارع جانبي وبعد مئتي متر توقف عند حديقة، وسألني من خلال بابها الحديدي المقفل: من هذا؟ قلت: لا أدري لمن هذا التمثال بسبب الظلام، فقال: هذا تمثال أبورقيبة. لقد رفعه بن علي من موقعه الأصلي في الشارع وجاء به هنا بعد انقلابه عليه لكي لا يراه الناس. كان بن علي مثالاً للدكتاتورية والتسلط.

مشينا معاً إلى مبنى قديم آخر، وأشار مرةً أخرى: هذا فندق أقام فيه ديغول عند زيارته إلى تونس، هل تعرف ديغول؟ قلت بلى. ومن ديغول انتقل الحديث إلى ابن خلدون: هل تعرف أين وُلد؟ فقلت: الجزائر وتونس تتنازعان عليه! كان شاباً جامعياً تخرّج في الجامعة قبل 15 عاماً، وظلّ يتنقل بين مهن مختلفة، دون استقرار، حتى جاءت الثورة وأطاحت بالنظام السابق. وحين وصلنا إلى الكنيسة على الشارع الرئيسي، أشار إلى تمثال ابن خلدون وقال: لقد حصروه هنا بين الكنيسة والسفارة الفرنسية. وأضاف: سآخذك إلى مكان آخر! سأكون أنا مرشدك السياحي.

وهكذا سرنا معاً إلى «بوابة البحر»، وهي بقايا بوابة قديمة كانت على طرف البحر، ومنه دخلتا إلى تونس القديمة. بيوت قديمة، وأزقة ضيقة أرضيتها من الحجارة، والإضاءة خافتة، تذكّرك ببعض الأحياء القديمة في قلب المنامة. وفجأة توقفنا في نهاية انعطافة الشارع أمام مبنى مهيب. لم أصدّق نفسي. أعمدة مرتفعة في الهواء، يغمرها ضوء المصابيح في هذا الليل الداجي... إنه جامع القيروان. ندمت أني لم أكن أحمل الكاميرا. لم أكن أتوقع مثل هذه المفاجأة من الأساس.

على بعد عشرات الأمتار، توقفنا أمام مدخل مبنى أخرى فوقه ما يشبه القبة، وقال لي: إقرأ. قرأت: هنا تعلم ابن خلدون القراءة والكتابة. وبقربه جامع عقبة بن نافع. ثم قادنا إلى بيت آخر، وأشار إلى لافتة أخرى لإدارة الآثار، فقرأت فيها: في هذا النزل وُلد العلامة ابن خلدون. وبينما نتكلم أطلّ شخصٌ من الطابق العلوي، أخرجته أصواتنا في هذه الساعة المتأخرة من الليل. كانت قد جاوزت الحادية عشرة، فأخذ صاحبنا يحييه ويشير إلى رفيقه الزائر العربي القادم من البحرين.

العدد 4431 - الجمعة 24 أكتوبر 2014م الموافق 30 ذي الحجة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً