العدد 4445 - الجمعة 07 نوفمبر 2014م الموافق 14 محرم 1436هـ

الظاهرة الداعشية والأزمة الفكرية

جعفر الشايب comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

بروز تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) ومَن حوله من جماعات مسلحة ومتطرفة تتخذ فهماً خاصاً لها من تعاليم الدين الإسلامي، وما تبع ذلك من توسع ميداني لهذه الجماعات على أرض الواقع، وصمت العديد من الجهات الإسلامية على الممارسات التي تقوم بها «داعش» أو التماهي معها والدفاع عنها أحياناً... شكلت في المجمل صدمة وجدانية وفكرية لدى الكثير من المتابعين، وطرحت العديد من التساؤلات حول أسباب نشوء هذه الظاهرة وتوسعها، والقبول بوجودها لدى البعض على الرغم من الممارسات التي اتسمت بالعنف، وعن كون هذه الممارسات تستند إلى المفاهيم والأدلة الدينية.

بعيداً عن التحليل والتوصيف السياسيين لبروز هذه الظاهرة، والعوامل التي أدّت لتوسعها، وتأثير التطورات والأحداث السياسية في نشوئها وتفاعلها، فمن اللازم البحث عن جذور الداعشية ومسببات نشأتها في الحواضن الفكرية والثقافية التي تفرخ مثل هذه الجماعات، وتجعلها قابلةً للولادة تحت ظروف معينة وبصورة متكررة، بل وتجعل منها مادةً قابلةً للتخصيب والتوظيف من قبل أجهزة الاستخبارات العالمية لاستخدامها بما يحقق مصالحها.

قليلة هي الأبحاث والدراسات التي تمارس نهجاً نقدياً ذاتياً عند قراءة هذه الظاهرة. فمعظم ما يُكتب يرمي بالمسببات لجهات أجنبية ذات مصالح في بروز هذه الحالة، أو لتطورات سياسية معينة في المنطقة، أو لحالة رفض اجتماعي لواقع معين. ومع صحة بعض هذه الأسباب - منفردة أو مجتمعة – إلا أنها لا تكفي. فالعوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية كلها أثبتت عدم دقتها في كونها المحرك الأساس في توجه عشرات الآلاف من الشباب والشابات، من داخل المنطقة العربية وخارجها، للإنضمام إلى الجماعات المسلحة والمشاركة في أعمالها التي تؤدي في معظم الحالات إلى فقدانهم الحياة عبر العمليات الانتحارية أو القتال المسلح.

جوهر مشكلة التطرف هي البيئة الفكرية والثقافية التي يتربى ضمنها الشباب أو يتأثرون بها، وهي الحاضن الرئيس لتوجهات العنف والتشدد والتطرف بمختلف أشكاله، وما لم يتم العمل على تنقية هذه البيئات الحاضنة بكل شجاعة وصدق، فإن مشاريع مكافحة الإرهاب ستظل بعيدةً عن تحقيق أهدافها، وستعاود مثل هذه الجماعات إنتاج نفسها بصور متجددة وأكثر حدية وتطرفاً. وما يؤكد ذلك هو أن المنطقة العربية مرت بموجات عديدة من أنماط الحركات الجهادية المتطرفة وبأجيال متعددة، منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث اعتمدت جميعها على منظومة فكرية متقاربة على الرغم من اختلاف مشاريعها وبرامجها السياسية وأهدافها. ولعل الاختلاف في الأسس الفكرية يكون محدوداً للغاية بين هذه الجماعات، لكن المنهجية التي استندت إليها تركّز على تغليب شرعنة العنف من منطلق ديني كأسلوب رئيسي في التعامل مع المختلفين سياسياً وعقائدياً وفكرياً. عادةً ما يُطرَح العديدُ من التبريرات لعدم نقد المسببات الفكرية لحالة التطرف، باعتبار أن ذلك يمس أسس الفكر الإسلامي والمناهج التي تستند إليها هذه الجماعات. وتأتي مثل هذه الردود التبريرية والدفاعية في كثير من الأحيان للإبتعاد عن ممارسة نقد الذات أو إحداث مراجعة جادة في التراث الديني وتفسيراته المتشددة، والتي تشكل المادة الأساس التي يستخدمها منظرو هذه الجماعات لإقناع أتباعهم واستقطاب أنصارهم.

وبنظرة أكثر قرباً للمفاهيم السائدة في خطاب التشدد وأفكاره، فإننا نلحظ أنه يركّز على عناصر عدة تشكل لدى المتلقي قناعات إقصائية مستندة على أدلة دينية، تدفع البعض – وتحت ظروف معينة - إلى تحويل هذه الأفكار إلى ممارسات في سعي منهم لتطبيق ما يحملونه من أفكار وتوجهات إلى واقع. ثلاثة مفاهيم سائدة في الوسط الديني، يمكن اعتبارها محورية، هي «التمايز عن الآخر»، و»امتلاك الحقيقة»، ومفهوم «مركزية الدين».

1 ـ «التمايز عن الآخر» المختلف هو من أبرز المفاهيم التي تَغْرس في الوسط الديني المتشدد تفسير الأفضلية الدينية والمذهبية على أساس عنصري، حيث يتم تحوير المضامين الحقيقية للأفضلية كالتقوى وحسن المعاملة والمساواة بين الناس إلى مجالات أخرى أكثر ضيقاً كالانتماء الديني أو المذهبي مثلاً. فكرة التمايز والأفضلية هذه منشؤها تعزيز انتماء المنضوين للجماعة الدينية، ولكنها عندما تتحوّل إلى ثقافة عامة، فإنها تؤدي إلى حالات الإقصاء والتهميش والنظرة الدونية للمختلف. كما أنها تقود إلى الإعتقاد بأن المختلف دينياً أو مذهبياً هو العدو الأول الذي ينبغي من أجل بقاء الجماعة إقصاؤه ومحاربته حتى لو بالقوة واستخدام العنف.

شواهد كثيرة في الثقافة الدينية على تعمق هذا المفهوم في الوسط الاجتماعي، منها فكرة «الفرقة الناجية» و»الجماعة المنصورة»، والتي تفسّر في الكثير من الأحيان على أنها تختص بجماعة معينة كلٌّ يدّعي الانتماء إليها. فهذا المفهوم المغلوط يولّد بالطبع قدسية وحصانة لدى أتباع هذه الجماعات، وشعوراً بالأفضلية على غيرها من الفرق. تقوم جماعات التشدد بتكريس هذا المفهوم وإعادة إنتاجه بصورة متجددة، لاحتكار المشروعية الدينية ولتبرير مواجهة وقتال المختلفين، لأنهم أقل موقعية وشأناً وتديناً، مبرّرةً لأتباعها استباحة دمائهم وأعراضهم. فلا يطرح هذا المفهوم بالصورة التنافسية والتكاملية بين مختلف الفرق، وإنما بغرض الإقصاء وامتهان الحقوق وانتهاكها.

2 - «امتلاك الحقيقة» هو مفهوم آخر لدى من يرى بأنه دون غيره يمتلك الشرعية المطلقة لكونه من يمتلك الحقيقة. هذه الفكرة تعطي أتباعها سلطات واسعة ومتمددة، ولا تفسح أي مجال للنقاش والحوار، وبها يمكن تسقيط أية جهة أخرى مختلفة، مهما كان الاختلاف معها يسيراً. انتشار هذا المفهوم يفضي بطبيعة الحال إلى تنامي اتجاه فكري أحادي لا يقبل النقد والمراجعة من أي كان.

يمارس هذا المفهوم على أرض الواقع من خلال الفتاوى الشرعية التي لا تقرّ بالتعددية واختلاف الآراء، وبشخصنة القيادات الدينية وإضفاء كل ما يعزّز شرعيتها لضمان الانقياد خلفها، وبإطلاق الأحكام الشرعية بصورة قطعية ونهائية، وعدم إفساح المجال أمام حالة النقد والمراجعة. ولهذا تنتشر في الوسط الديني بشكل عام أفكار ومصطلحات مكرورة، تتردد بقطعية حاسمة دون أي فهم واضح لدلالاتها واستنتاجاتها.

والموقف المتشدّد هو إفرازٌ طبيعي لهذا المفهوم الذي يمارس الوصاية الفكرية بفهمه الأحادي على كل المختلفين معه، بل وينظر إليهم على أنهم لا يملكون أي شيء من صحة الفكر والمنهج. ويتحوّل هذا الموقف – ومن أجل تعزيز موقع أصحابه – إلى إنتاج المعارك الفكرية وجعلها تدور ضمن الإطار الديني الذي يعتبره مركز قوته، فينحو باتجاه التشكيك في معتقدات الآخرين ومناهجهم، ويجرهم إلى ساحة الصراع والجدل الديني حتى لو لم يكن ذلك هو مجال الاختلاف.

هذه الحصرية في تأطير امتلاك الحقيقة لدى فرقة معينة أو اتجاه فكري معين، يؤدي بطبيعة الحال إلى الاعتقاد بصحة كل عمل تقوم به هذه الجماعة. كما أنها تفرز انشقاقات وتشظيات متواصلة بسبب الخلاف الفكري واحتكار تفسير النصوص. وتمارس هذه الجماعات في ما بينها المنهج العنفي نفسه وعلى الوتيرة ذاتها التي تمارسها ضد الآخرين.

3 - «مركزية الدين» مفهوم لا يقل تأثيراً عن المفهومين السابقين. ففي الفهم السائد والمنتشر، هناك من يعمل على تحويل الدين من منظومة علاقاتية أخلاقية وروحية تهذب سلوك الإنسان معتمدة على مبادئ سماوية وإنسانية، إلى دين يتدخل في كل جوانب حياة الإنسان بكل تشعباتها مهما صغرت، وفي كل شأن حياتي مهما كان. هذا المفهوم - عندما يتم تطبيقه بتعسف وتشدد - يجعل من حياة الأفراد والمجتمع غايةً في الصعوبة والتعقيد، إذ يشكّل معوّقاً أمام الحياة الطبيعية في المجتمع، وتطوّر الأنظمة والقوانين حسب رؤية اجتهادية متجدّدة. هكذا يستنبط الخطاب الديني أدلة شرعية ويسقطها على واقع مختلف تماماً عن سياقاتها التي جاءت فيها. كما نلحظ أيضاً اللجوء السريع إلى محاولات تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بمفهومها النقلي التقليدي دون مراعاة للظرف الزمني والمكاني، ولالتزامات الدول بالمنظومات والتشريعات القانونية الوطنية والدولية.

إن إشكالية توسع مفهوم مركزية الدين واعتباره حلاً مقدساً ونهائياً لمختلف قضايا الفرد والمجتمع، وما يضفيه على الجماعات التي تنادي به من الشعور بالرضا، يولد بطبيعة الحال تجاوزاً لكل إنجازات الإنسانية، وعداوة معها، ويضرب بعرض الحائط أي مزاوجة محتملة بين الفكر الديني والفكر الإنساني بشكل عام. ولعل ذلك ما يفسّر الجفاء واللامبالاة تجاه نتاج الفكر غير الإسلامي بشكل عام، واعتباره دخيلاً ومستورداً بل وموجّهاً للحرب ضد الإسلام أو للقضاء عليه.

هذه المفاهيم المركزية الأساسية تفضي إلى تفريعات منهجية غاية في التعقيد والالتباس، وتقود إلى استبدال الحوار الفكري والممارسة السياسية المتوازنة باستخدام العنف «المقدّس» لدى جماعات التطرف على أنه النهج الأكثر قدرة على تحقيق أهدافها، والقادر أيضاً على استقطاب العناصر الشابة والتأثير فيها. إن أسباب انضواء مجاميع شبابية من الجنسين لجماعات تتبنى هذه المفاهيم، (على الرغم من كون معظم هؤلاء الشباب ينتمون لطبقات اجتماعية متوسطة، وبعضهم لديه مستوى معقول من التعليم والمعرفة العامة)، يعود إلى تكرار بعثها، سواءً من خلال التربية الأسرية، ومناهج التعليم، ووسائل الإعلام المتلفزة والمسموعة والمقروءة، والخطب الدينية، ومحاضرات الجامعات والمراكز العلمية، ومختلف الإصدارات الثقافية. إن طرحها المتكرّر يقود إلى تكريسها في الأذهان وجعلها قابلةً للإستحضار والاسترجاع بيسر. كما أنها قابلة أيضاً للتوظيف العملي من قبل هذه الجماعات وتوجيهها في أي اتجاه مطلوب وقت الحاجة إليها.

من هنا تأتي ضرورة إعادة تشكيل المنظومة الفكرية والدينية ومراجعتها وطرحها بصورة تجديدية تتناسب مع متطلبات الزمن المعاصر والبنية الثقافية للمجتمع، وتزاوج بين التراث والمعاصرة. إن ذلك يستلزم الخروج برؤية نقدية واعية تحرر المفاهيم التقليدية المغلقة، وتعيد ترجمة مضامينها لكي تكون أكثر انفتاحاً وتسامحاً وقدرةً على الاستيعاب والتجدّد، وتسحب بساط الشرعية من كل من يتبنى الأعمال التي تخالف مقاصد الدين وأهدافه.

إن مشروعاً فكرياً وثقافياً كهذا ينبغي بالطبع أن يراعي مختلف الأبعاد الاجتماعية والسياسية القائمة، وينظر لمشكلة التطرف والتشدّد والعنف المسلح من جميع أبعادها وزواياها، وأن لا يقتصر على المعالجات السطحية مهما بدا تأثيرها ونتاجها ايجابياً في لحظة زمنية معينة. ويتطلب ذلك صياغة استراتيجية وطنية جديدة تكون واضحةً وجادةً، تهدف إلى استئصال المنابت الحقيقية لهذه الأزمة المتجددة.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الشايب"

العدد 4445 - الجمعة 07 نوفمبر 2014م الموافق 14 محرم 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 1:30 ص

      انتاج محلي إقليمي تمرد على الطوق وأولياء الامر

      تنظيم مهجن مطيع مسيطر علية منتج محلي وإقليمي بإشراف امريكا تمرد وخارج عن الطوق وطاعة أولياء الامر وتورطوا به هاهو يرجع لا راضيه وهنا البلاء دول أطلقته وتورطت به لعله صلاح للامة

    • زائر 2 | 1:09 ص

      داعش الإرهابية

      مثلما داعش ارهابية و يجب محاربتها كذلك حالش ارهابية و يجب محاربتها

اقرأ ايضاً