العدد 4519 - الثلثاء 20 يناير 2015م الموافق 29 ربيع الاول 1436هـ

أحمد الخياط... رحل شقيق الروح

عبدالنبي العكري comments [at] alwasatnews.com

ناشط حقوقي

الآن وقد مضت بضعة أيام على رحيل شقيق الروح أحمد الخياط (أبوندى)، أصبح بالإمكان الحديث عنه بعيداً عن فورة المشاعر والشجن التي يولدها الفقد.

تعرفت على أحمد الخياط لأول مرة في العام 1972 في رابطة طلبة البحرين في حلب، خلال ندوة الاحتفال بذكرى انتفاضة مارس 1965 المجيدة، حيث دأبت روابط طلبة البحرين ومن بعدها فروع الاتحاد الوطني لطلبة البحرين وكذلك عمان، وأحياناً الكويت وغيرها من تشكيلات لجان المناصرة، على الاحتفال بهذه الذكرى في عدد في البلدان.

أول ما لفت انتباهي هدوؤه الشديد وتواضعه الجم، وإيثاره العمل بعيداً عن الأضواء، وهو ما لازمه خلال مختلف مراحل حياته وفي مختلف بلدان الدراسة ثم بلدان المنافي، وأخيراً البحرين بعد عودته إليها في أواخر 1999. وتسنى لي لاحقاً الاحتكاك به أثناء زياراتي في مهمات إلى حلب والتي كان يدرس الطب فيها، لكنه لم يمكث طويلاً حيث لبّى نداء الواجب ليلتحق بمستشفى «فاطمة غنانة» في الغيضة، عاصمة محافظة المهرة المجاورة لأراضي ظفار الملتهبة بالثورة حينها، واشتهر حينها باسم (ناصر حسين)؛ ولهذا أطلق على ابنه البكر ناصر تيمناً حيث كان الجميع في إطار الجبهة الشعبية. وقد قدر لي زيارته في هذا المكان البعيد جداً والمعزول، والعمل في ظل ظروف صعبة جداً إلى جانب الأطباء العمانيين والكوبيين المتطوعين، وعندما كنت أسأله عن أي مطلب، يهز رأسه «كل شي متوفر والحمد لله».

بعد انحسار الثورة وإغلاق عدد من مؤسساتها، انتقل ناصر حسين إلى عدن في 1976، حيث أضحى ممثل الجبهة الشعبية في البحرين في عدن، إثر زيارة قام بها وفد من الجبهة إلى عدن والاتفاق على ذلك مع الإخوة في اليمن الديمقراطي. وهنا أود التنويه برفيق آخر هو محمد جابر العربستاني الذي أكمل دراسته الجامعية في جامعة عدن، وكان رديفاً لناصر حسين في مهمات المكتب النضالية والذي كان سكنهما أيضاً... عدن رغم كونها عاصمة اليمن الديمقراطي إلا أنها كانت في عزلة شديدة لأسباب عدة، ورغم ذلك تكيف أحمد الخياط مع هذه الوضعية الصعبة، وقدّر له أن يلتقي برفيقة حياته (مكة الظهر) ويتزوّجها في 1981، وأنجبا ندى وناصر في اليمن، وإبراهيم وأسماء في سورية. وقد ساعد بناء الأسرة في التخفيف من معاناة المنفى والعزلة، وخصوصاً أنه صاهر أسرةً كريمةً وتوفّق للارتباط بزوجة صالحة.

ويشاء القدر أن تكون أسرة الخياط طريقي إلى الزواج من كريمة أسرة الظهر، أفراح محمد سعيد، في يوليو 1986، وأن تنجب ابني منصور في عدن في 1988، وهكذا تمتنت العلاقات فيما بيننا أسرياً بعد أن كانت تنظيمياً.

والحقيقة أن عائلة الظهر عانت كثيراً خلال قتال الإخوة الأعداء في اليمن الديمقراطي بدءاً من 13 يناير/ كانون الثاني 1986 حيث قتل د. هيثم (أخ زوجتي أفراح) وآخرون، وسُجن البعض، واضطر البعض للهجرة حيث إن عائلة الحسني، وهي عائلة الرئيس السابق علي ناصر محمد والذي كان أحد طرفي الصراع وخسر المعركة، في ترابط عائلي مع عائلة الظهر. وهنا يتبين أنه رغم الرطانة الثورية والتقدمية فقد كشفت أحداث يناير 1986 عن اصطفافات قبلية وعشائرية جرّت إلى انتقامات في السياق ذاته. والحقيقة أن أحمد الخياط في موقعه كممثل للجبهة الشعبية في البحرين في عدن، ومعايشته لهذا الواقع الأليم، بذل جهداً كبيراً لإطفاء نيران الحقد والانتقام المتولد في تلك الأحداث، وكان خير معينٍ لوفود الجبهة الشعبية في البحرين في زياراتها لليمن الديمقراطية ولقاءاتها مع قيادات الدولة والحزب الحاكم والآخرين، وقد أسهمنا بتواضع في تصحيح بعض الأوضاع ولَأم الجراح.

ظل أحمد الخياط في عدن حتى تحققت الوحدة اليمنية في يونيو/ حزيران 1990، وكانت فرحته كبيرة إذ إنه أضحى يمنياً بعائلته ووجدانه ومعايشته، وهكذا قُدر لي أن أسافر معه إلى صنعاء عاصمة دولة الوحدة، ونلتقي بالعديد من الأصدقاء. عندها انتقلت مكاتب حركات التحرر من عدن إلى صنعاء، وكان صعباً جداً على «أبوندى» في ضوء الوضع العائلي وتقشف الجبهة أن ينتقل إلى صنعاء. ولذا لم تكن هناك من جدوى لبقاء المكتب في عدن، ولذا تقرّر أن ينتقل وعائلته إلى دمشق، والتي استقطبت المنفيين البحرينيين في مختلف بلدان المنفى، إضافةً إلى موجات النفي من الوطن البحرين.

في دمشق التي وصل إليها في 1990، انضم إلى رفاقه في قيادة الجبهة الشعبية في البحرين في الخارج، وأضحى مسئول مكتب الجبهة بدمشق. كان عليه أن يتكيف ويرتب حياة أسرته مع دمشق في ظل أوضاع معقدة جداً، أحد مؤشراتها اعتقال المناضل المرحوم عبدالرحمن النعيمي في سبتمبر/ أيلول 1990، إثر الاعتراض على مشاركة سورية في التحالف الدولي لطرد العراق من الكويت، وكان أبو أمل ضد الغزو الصدّامي طبعاً، ولكنه كان معارضاً لتحالفٍ تقوده أميركا، وكان يرى أن تحرير الكويت هي مسئولية عربية فقط.

في سورية قدر له كما باقي رفاقه، أن يكون أقرب إلى الوطن البحرين، ومتابعة الأوضاع والنضال الشعبي، الذي تطوّر إلى إطلاق العريضة النخبوية في 1992، ثم الشعبية في 1994، مطلقةً ما عرف بـ «انتفاضة التسعينيات». وكون دمشق أهم مركز لتجمع البحرينيين المنفيين وقيادات المعارضة بمختلف أطيافها الإسلامية والديمقراطية، وشخصيات مهمة، فقد لعب دوراً مهماً في إطار الجبهة الشعبية لتشكيل تحالف وطني بحريني، وكذلك لتنسيق جهد حركات التحرر العربية في دعم القضية الفلسطينية. ورغم صعوبات المنفى فقد قّدّر لـ «أبوندى» وبحكم وجود جالية يمنية كبيرة في دمشق إثر موجات النزوح المتلاحقة بفعل الأحداث، وكذلك وجود جالية بحرينية، أن ينسج مع عائلته علاقات صداقة مع العديد من العائلات البحرينية واليمنية. وبالفعل كانت شقته في شرق ركن الدين ملتقى الأحباب والأصحاب الذين جمعتهم الغربة.

في البحرين حدث تطور في المشهد السياسي في مارس/ آذار 1999، وترتب عليه محاولة تطبيع الأوضاع، ومن ذلك الإفراج عن المعتقلين على دفعات، والسماح بعودة بعض المنفيين، وكان من بينهم المرحوم أحمد الخياط الذي عاد في 1999. وتبين لنا استمرار طريقة التعامل معهم كأنهم مجرمون تائبون، وتعرضوا لامتهان كرامتهم أمام الإعلام والعالم، ولكن كل شيء يهون في سبيل العودة للوطن.

هذا المناضل الرفيق والقيادي الوطني، سكن في دارة المرحوم والده القديمة، في شارع المتنبي بفريج «المخارقة» حتى وفاته، وبالطبع ظل بيت أسرته. كان مديراً لنادي العروبة، وهم مشكورون لذلك، وأبلى في ذلك إدارياً، فقد جعله القدر مديراً لمؤسسات مختلفة تماماً من السياسية إلى الثقافية.

ومرةً أخرى، حدث تطور للأوضاع مع الانفراجة الأمنية الواسعة، وتدشين المشروع الإصلاحي، وكلنا يعرف التفاصيل. «أبوندى» كعشرات الآلاف من البحرينيين، حلموا بنهاية عقود من المعاناة، وكانت شرعنة العمل السياسي والترخيص للتنظيمات السياسية السرية في هيئة جمعيات سياسية معلنة حدثاً مهماً، حيث كان المرحوم أحد مؤسسي جمعية العمل الوطني الديمقراطي في سبتمبر 2001. وكما لبى الواجب في السابق، فقد تطوع ليصبح مدير الجمعية في مرحلة التأسيس في مكتبها المستأجر، ثم في مقرها الجديد في أم الحصم. لكن تزايد أعباء العمل وتراجع صحة «أبوندى»، حتَّم على الجمعية أن تكون لها إدارة، وكان «أبوندى» أحد إدارييها، لكنه لم يستنكف عن القيام بأية مهمة أخرى، خصوصاً الطباعة والتدقيق. وأشهد أنه كان يقوم بذلك على حساب صحته وعائلته، وإليه الفضل في طباعة معظم تراث المرحوم أبوأمل، وكذلك خربشاتي التي تحوّلت على يديه إلى مقالات وكتب. كما تطوّع بأن يقوم فجراً بتجميع أهم ما في الصحف البحرينية في ملف طازج للتوزيع على الرفاق في «وعد».

فقدت «وعد» وفقدت الحركة الوطنية البحرينية، بامتداداتها التاريخية وآفاقها المستقبلية أحد أبرز المناضلين الذي كرّس حياته لقضية شعبه. ولاشك أن هؤلاء جميعاً يفتقدون «أبوندى»، عندما تفتح باب مقر «وعد» وتلتفت يساراً فأول من تلاقيه «أبوندى» جالساً خلف الكمبيوتر، ويستقبلك بابتسامته الدافئة، ويتساءل كعادته «ها عندك خربشات جديدة». ظلّ يعمل حتى داهمه المرض اللعين وأودى بحياته مساء الأربعاء 7 يناير 2015.

في تلك الليلة، اتصلت هاتفياً بابنته ندى وكنت مشغولاً بعمل، لكن حدسي جعلني اتصل بها لأسألها هل بقي وقت للزيارة فردّت: «لا، تنتهي الزيارة الساعة 7 مساءً»، لكنها وبعبارات دامعة قالت: «إن وضع أبي خطير»، ولذا تركت كل شيء وانطلقت إلى المستشفى، وهنا كان الخبر الفاجع: لقد انتقل إلى جوار ربه.

جلست مع باقي أفراد العائلة ونحن في وجوم شديد، فيما قام ابنه ناصر باصطحاب أخته ندى مع بعض أفراد عائلة الخياط إلى بيت العائلة ليخبروا الزوجة المكلومة (مكة) بخبر الوفاة، وكان الخبر صاعقاً عليها. كان هناك منتدى الأربعاء في «وعد» عن «تقويض العمل السياسي»، ولذا وبعد وصول الخبر لعائلة الخياط جميعاً، توجهت إلى منتدى «وعد»، حيث كتبت خبر وفاة الراحل الكبير، حيث قام الأمين العام للجمعية رضي الموسوي بقراءة الخبر بنبرة حزينة، داعياً الحاضرين للمشاركة في تشييع الجنازة من مأتم مدن إلى مقبرة الحورة. كان موكب التشييع كبيراً وتوافد العديدون للمشاركة في الدفن. كانت لحظة قاسية علي أن أودع شقيق روحي الثاني بعد أن ودّعت قبله أبا أمل. بعد تفرّق المعزين ذهبت لوحدي إلى القبر أناجيه وأذرف أدمعاً طالما حبستها طويلاً.

على امتداد ثلاثة أيام التعزية، كنت وأخي شرف الموسوي نتلقى التعازي إلى جانب أفراد عائلته، ونتبادل التعازي مع عائلة الظهر والمناضلين العمانيين، أما التأبين في «وعد» مساء 14 يناير 2015 فقد كان وطنياً بامتياز وعاطفياً أيضاً، وكان وقفة وفاء للراحل الكبير، مطلوبٌ المزيد من هذه الوقفات لتوثيق حياته الحافلة.

إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"

العدد 4519 - الثلثاء 20 يناير 2015م الموافق 29 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 4:26 ص

      الله يرحمه

      الله يرحمه ويرحم كل مجاهد يضحي في سبيل الله والامة

    • زائر 2 | 1:11 ص

      رحمه الله

      الله يرحمه ويجزيه على قدر نضاله لشعبه وللحق

    • زائر 1 | 9:12 م

      الرحمة

      الله يرحمه ويغفر إليه. ..
      رحل وبقيت مآثرة و خلدت وتعطر بها تاريخ البحرين النضالي ...

اقرأ ايضاً