العدد 4525 - الإثنين 26 يناير 2015م الموافق 05 ربيع الثاني 1436هـ

الموارد المالية للمدارس الدينية في الماضي

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

تفتقر مكتبة البحرين التاريخية إلى دراسات تُعنى برصد التاريخ الثقافي للمجتمع، وهناك حاجة فعلية لسدّ الفجوات الكثيرة في هذا الجانب من تاريخنا، ومن هذه الفجوات «تاريخ المدارس العلمية القديمة»، فإبراز ملامح الدور العلمي الذي اضطلعت به هذه المدارس، خصوصاً في القرنين السابع والثامن عشر الميلاديين، يساعد على فهم جزء من الحراك العلمي في مجتمع ذلك الوقت.

وكتب التراجم والإجازات العلمية مليئة بحقائق تاريخية عن ملامح هذه النهضة الفكرية التي شهدها المجتمع البحراني، فهي تعطي «مداخل» يستطيع الباحث النفاذ منها ليتمكن من إعادة تركيب التاريخ الثقافي للبحرين القديمة. وحيث أن مصطلح الحوزة العلمية الدارج الآن في الخطاب الديني المعاصر مصطلحٌ مستحدث لم يتعدّ وجوده القرن العشرين الميلادي (الرابع عشر الهجري)، فإنني سأستخدم عوضاً عنه مصطلح «المدرسة الدينية» لأشير إلى مكان انعقاد الجلسات العلمية بصورة منتظمة واجتماع الطلاب مع معلميهم لتلقي الدروس.

قضية الموارد المالية للمدارس الدينية في البحرين في القرنين السابع والثامن عشر الميلاديين، تشكّل إحدى المسائل التي يكتنفها الغموض، فالباحث في تاريخ النشاط الثقافي والديني والاجتماعي عبر العصور الماضية يواجه نُدرةً في المصادر والنصوص التي تعين على رسم صورة مكتملة المعالم وواضحة حول الموضوع وفهم المراحل التاريخية التي تطورت فيها هذه المخصصات كماً ونوعاً.

وربما ترجع فكرة المخصصات المالية في المؤسسة الدينية إلى الشريف المرتضى (ت 1045م/ 436 هـ)، حيث كان «متمولاً عظيماً، صاحب منصب، رئيساً في الدين والدنيا، وكان كل من يقرأ عليه، يعين له وظيفة من ماله، حتى أن رجلاً من أهل الكتاب أضرّ به الفقر، فأتى يطلب منه درساً في علم النجوم، لأجل التعيّش في الدنيا، فعيّن له وظيفة، وبقي يقرأ عنده حتى أسلم». لاسيما وأن المجتمع الإسلامي لم يعرف نشوء ظاهرة المدارس العلمية بمفهومها الحديث إلا في القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري)، وكانت المدرسة الأولى بهذا المعنى هي المدرسة البيهقية في نيسابور.

وتُعدُّ الأوقاف الشرعية المخصصة لطلبة العلوم الشرعية واحدةً من المصادر التي كانت تعتمد عليها المدارس، والوقف في الشريعة هو تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة، ولقد كان وزير البحرين سنة 1593م (1001 هـ) ركن الدين محمود بن نورالدين قد أوقف وقفيات كبيرة سُجّلت جميعها على قوالب من الحجر الموجود في مسجد الخميس، ومن هذه الوقفيات الجوبار الواقع غربي عين قصاري الصغيرة، أي الدوبية، وبعض البساتين؛ للصرف على عمارته، والإنفاق على طلبة العلم.

وثاني تلك المصادر المالية كان ما يرد على المدارس الدينية من الحقوق الشرعية، فالمعروف أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، كانوا يتسلّمون ما يصلهم من حقوق شرعية كالخمس والزكاة. وقد انتهج الفقهاء من بعدهم النهج ذاته، فكانوا ينفقون منها على التعليم. وكان الكثير من ذوي اليسار يلتزمون بدفع هذه الحقوق الشرعية، ويوقفون أموالهم، أو يوصون بتركتهم بعضها أو كلها للصرف على وجوه الخير والبر باستقلال تام.

ولقد ترك النشاط المتزايد للحركة التجارية التي كانت تصل البحرين بدول الجوار تأثيراً بالغاً على المجتمع البحراني خلال القرن السابع عشر الميلادي (الحادي عشر الهجري)، وأخذ التجار الأجانب يتوافدون على البحرين في تلك الفترة مع نمو مشروع الغوص. وتذكر بعض المصادر أن عدد القوارب المستقرة في البحرين والتي كانت تبحر من أجل صيد اللؤلؤ، تقدّر بألفين أو ثلاثة آلاف قارب، وكان كل قارب يدفع ضريبةً للحاكم للحصول على رخصة إبحار، إضافةً إلى الضريبة السنوية. ويؤكد بأن «شاه إيران» في ذلك الوقت لم يكن يتصرف في معظم تلك الموارد المالية؛ لأنها تعود للهيئات الدينية والمساجد. بينما كان الملك يستحوذ فقط على «ثقال اللآلىء».

ولعل هذا ما يفسّر التوسع الكبير للمؤسسات الدينية في البحرين إبان هذه الفترة، وكثرة المساجد وازدهار النشاط العلمي والأدبي، وبروز العدد الكبير من علماء الدين واتساع ظاهرة التأليف، استناداً إلى هذه الوفرة المالية الناتجة عن ازدهار تجارة اللؤلؤ.

كما كان الحكام السابقون وذوو النفوذ يتولون الإنفاق على المدارس الدينية، لكن ذلك لم يمنع بعض طلبة المدارس الدينية من احتراف بعض المهن والحرف البسيطة لتحسين أوضاعهم المعيشية.

ولقد ساهم الانفتاح الثقافي الذي عاشه علماء البحرين مع المراكز العلمية في العالم العربي والإسلامي، في مكاسب علمية واجتماعية كبيرة، وحدث نوعٌ من التأثر والتأثير انعكس على مستوى الإنتاج الفكري وعلى مضامين المراسلات التي حصلت بين علماء البحرين وعلماء الخارج. ولعل من أقدم الشواهد التاريخية على هذا الأمر، خطاب يعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي (السابع الهجري)، أرسله الشيخ ابن ميثم البحراني (كان حيًّا في العام 1288م/ 687 هـ) إلى الخواجة نصير الدين الطوسي (ت 1273م/ 672هـ) ملتمساً منه تقديم العون المادي لطلبة العلوم الدينية في البحرين، وذكر بعض المؤرخين أن الخواجة كان يدرس الفقه عند ابن ميثم، وكان ابن ميثم يدرس عنده الفلسفة.

وكانت حركة الهجرة والرحلات العلمية المتواصلة بين البحرين وجوارها، تُؤمّن قدراً كبيراً من انتقال رؤوس الأموال، ناهيك عن انتعاش حركة التجارة بين البحرين وميناء البصرة في العراق، ومدينة سورت الهندية، وما يمكن أن تحمله من منافع مالية وفيرة وتبادل ثقافي واسع.

والثابت أن الدعم الذي كانت تحصل عليه المدارس الدينية من الخارج لا يتجلى بالدعم الاقتصادي المباشر فحسب، فقد كان يتخذ شكل احتضانٍ معنويٍّ واستقطابٍ للكفاءات العلمية أقرب إلى ما يعرف اليوم بنظام «الإعارة العلمية» المعمول به في الجامعات الحديثة، حيث يتم تهيئة الظروف الجاذبة والمشجّعة لعلماء الدين من أجل الهجرة والمساهمة في تنشيط الحركة العلمية في البلد المضيف.

وكثيراً ما كانت الصداقات الخاصة والروابط الإنسانية التي تجمع العلماء عنواناً من عناوين الوفاء والتراحم والتماسك الاجتماعي، نظير ما نجده في قصة هجرة الصديقين الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني (ت 1677م/ 1088 هـ)، والشيخ صالح بن عبدالكريم الكرزكاني (ت 1687م/ 1098هـ)، إذ يروي الشيخ يوسف البحراني أن هذين الشيخين «خرجا من البحرين لضيق المعيشة إلى بلاد شيراز، وبقيا فيها برهةً من الزمان، وكانت مملوءةً بالفضلاء الأعيان، ثم اتفقا على أن يمضي أحدهما إلى الهند ويقيم الآخر في بلاد العجم، فأيهما أثرى أولاً أعان الآخر، فسار الشيخ جعفر إلى الهند واستوطن حيدر آباد وبقي الشيخ صالح في شيراز، فكان من التوفيقات الربانية والأقضية السماوية السبحانية أن كلاً منهما صار علماً للعباد، ومرجعاً للبلاد، وانقادت لهما أزمّة الأمور».

وعلى رغم أن الدافع الذي حمل الشيخين الكرزكاني وكمال الدين للهجرة من البحرين كان «ضيق الأحوال» المعيشية، إلا أن في النص السابق ما يؤكد على أن بعض أشكال الدعم المالي الذي قد يحصل عليه بعض المشتغلين بالتحصيل الديني قد يأتي من بوابة الصداقات والعلاقات الإنسانية، في مجتمعٍ يتشح بالمحبة ويتسربل بالوفاء رغم ضنك العيش.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 4525 - الإثنين 26 يناير 2015م الموافق 05 ربيع الثاني 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 1:24 ص

      تاريخ مفقود فعلاً

      نشكر الكاتب جزيل الشكر على مقاله التاريخي الثري لفتح أبواب المؤصدة لتوثيق التاريخ الصحيح للحركة العلمية بمجالاتها في بلد تناثر تاريخه في كل زمن لافتقار من يوثقه و كما ذكرت البلدان الخارجية هيّئت لطلاب العلم للهجرة للدراسة فالزمن يعيد نفسه بدأت الهجرة لأبنائنا للخارج لافتقارهم للدعم العلمي و الاقتصادي .

اقرأ ايضاً