العدد 4532 - الإثنين 02 فبراير 2015م الموافق 12 ربيع الثاني 1436هـ

من الصدام الحضاري إلى التعايش العالمي

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

هدأت الأوضاع نسبياً إثر أحداث باريس مطلع العام الجاري وما خلّفته من قتلى واستهجان دوليّ لكيفيّة التعامل مع صحافيّي مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية، واستنكار عربيّ وإسلاميّ موسّع لتعمّد بعض الدوائر الثقافية والإعلامية الغربيّة تجديف الدين الإسلاميّ في شخص الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم. لكنّ التفكير الهادئ الرصين، والتحليل الاستراتيجيّ العميق لم يتوقّف عن البحث في الأسباب العميقة لما حصل، خصوصاً أنّه يتكرّر بين الفينة والأخرى في إطار الفعل وردّ الفعل، أو حتى في إطار استباق وقوعه.

نعم لابدّ للفكر الهادئ الرصين أن يتحرّك لفهم العلاقة الممكنة بين ما حدث ويحدث في إطار العلاقة الممكنة بين غربٍ متحرّرٍ ما عاد معظمه يرى لحريّة التعبير حدوداً، وشرقٍ متحفّظٍ ما عاد معظمه يصدّق أنّ ما يصدر هنا وهناك مجرّد حرية تعبير بل صار يعتبر هذا وذاك هجمةً منظّمةً تستهدف ثقافته الإسلامية وهويّته الحضارية. ومن ثمّة فإنّ ما يحدث اليوم هو استمرار لصراع طويل قديم متجدّد بين ثقافتين وحضارتين، إسلامية شرقية من جهة ومسيحية أو علمانية غربية من جهة أخرى. صراع ما يكاد يخبو حتّى يتأجّج من جديد، ولعلّ شواهد التاريخ الوسيط والحديث والمعاصر خير دليل على ذلك.

في هذا الخضمّ عاد بي البحث إلى مراجعة كتاب «صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالميّ (1996) لصاحبه المفكر السياسي الأميركي صمويل هانتغتون، وهو كتابٌ كان منشؤه مجرد مقالة مطولة بعنوان «الصدام الثقافي»، نشرها صاحبها سنة 1993 ثمّ تبلورت الفكرة عنده وطوّرت حتى صارت كتاباً أسال حبراً كثيراً، وفجّر حوارات وتحليلات لا لكونه يستمدّ أهميّته من موضوعه الحارق والخطير في لحظته التاريخية فحسب، وإنّما لكونه صدر عن مؤلّف عمِل سابقاً مستشاراً للرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، ما جعل فكره ممزوجاً بالممارسة السياسية مشتبكاً معها، في بلدٍ له بالغ الأثر على الجغرافيا السياسية المعاصرة.

لطالما فسّر المحللون بمختلف مشاربهم ومدارسهم الفكرية والسياسية، الصراع الدائر وتوتر العلاقات الدولية بعوامل اقتصادية، غير أنّ صاحب كتاب «صدام الحضارات»، دافع عن أطروحة مغايرة مفادها أنّ الدوافع الحقيقية لهذا التوتر السياسي والنزاعات العالمية إنما هو ثقافيّ بالأساس. واعتبر أنّ تداخل الحضارات الحاصل اليوم من مسببات التصادم والتناحر بسبب البون الشاسع سواء على مستوى الأفكار الدينية التي يعتنقها الشرق والغرب، أم على مستوى اللغة والتاريخ والعادات. ولعلّ شدة التقارب التي صار عليها العالم بوصفه قرية كونية، وتعاظم الهجرة المتبادلة بين أبناء الحضارتين، قد يدفع بالعديد من هؤلاء إلى الاحتماء وتحصين انتمائه الثقافي والدفاع عن كيانه الحضاريّ.

وممّا يعزز به صاحبُ الكتاب نظريّته، تزايدُ عدد المسلمين في البلدان الغربية وتحصّنهم بهويتهم الدينية إزاء الآخر في مقابل التغلغل العسكري والثقافي الغربي في العالم الإسلاميّ. وقد فسّر صمويل هانتغتون مثلاً الصراع الذي دار في منطقة البلقان بعوامل ثقافية، واعتبر أنّ ما حدث إنما هو نزاع بين محور إسلاميّ (تركيا، البوسنة، ألبانيا) ومحور مسيحيّ أورثوذكسيّ (صربيا، اليونان، بلغاريا)؛ وكذلك النزاع بين روسيا والشيشان... إلخ. وهكذا يمكن أن يسترسل من اقتنع بهذا التحليل ويسحب منهج تفكيره لتفسير الصراع الذي حصل في أفغانستان بطوريه السوفياتي والأميركي، وما تعرّض له العراق وما يتعرّض له المسلمون في بورما ومناطق أخرى من إفريقيا. كما يمكن أيضاً أن نفسّر به ما يتعرّض إليه المسيحيّون في نيجيريا من جماعة «بوكو حرام»، بل وما يتعرّض إليه حتّى أبناء الدين الواحد من صراع واقتتال بدعوى الاختلاف المذهبي الذي هو في النهاية اختلاف ثقافي من داخل منظومة الحضارة الواحدة.

إنّ ما أورده المنظر الأميركي بين دفتي كتابه «صدام الحضارات»، تعرّض لنقد عنيف؛ إذْ اختلف معه طيف كبير من المحلّلين الذين عارضوه خصوصاً في ردّ الصدام الحاصل والتوتر السياسي القائم إلى اختلافات ثقافية وحضارية، مستدلّين بالولايات المتحدة الأميركية التي أثبتت العقود الأخيرة أنها تعمل وفق مبدأ تشرشل في السياسة: ليس هناك صداقات دائمة ولا عداوات دائمة بل هناك مصالح دائمة». لذلك تراها تشرّق وتغرّب في سياستها الخارجية وفي مواقفها بحسب المنفعة، سواءً في حربها على أفغانستان أم في حربها على العراق أو في حربها على القاعدة، كونها تهدّد المصالح الأميركية.

إنّه وعلى الرغم مما تتوفّر عليه أفكار هانتغتون من وجاهة في تفسير أسباب النزاع الدائر اليوم، فإنّه لا يمكن البتة التسليم بذلك ولا البناء عليه، ذلك أنّ فرط الإيمان بتحليلات كهذه يزيد في تعميق الفجوة بين المسلمين وغيرهم، وربما يزيد في إقبال بعض الجماعات المتطرفة من الجانبين على أعمال العنف الفكري والجسدي، وهو ما لم تعد تحتمله الساحة الدولية.

صحيح أن عمراً مديداً من الألم مرده الصراعات الدينية والثقافية، غير أنّ مستقبلاً طويلاً ممكناً ينتظر أن تبنيه فلسفات التقارب بين الأديان والثقافات.

إنه وإن كان لكتاب صدام الحضارات فضلٌ في الفهم والتفسير من زاوية نظر ما، قد يراها صاحبها الأدق في تحليل أسباب التوتر السياسي والنزاع الحاصل بين الغرب والشرق، فإنّ له أيضاً أفضالاً أخرى كونه نبّهنا من جديد إلى ضرورة حلّ هذا النزاع من زاوية حضارية، بالبحث أكثر فأكثر عن المشتركات الثقافية والإنسانية على قاعدة المساواة بين الثقافات، لا بميزان الأقوى على الساحة السياسية في عصر ما وذلك من أجل مزيد إنضاج فكر إنسانيّ عالمي بقدر ما ينفتح الواحد على الآخر ويتعايش معه، يحافظ فيه على هويته دونما إحساس بالضعف أو التفوّق.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 4532 - الإثنين 02 فبراير 2015م الموافق 12 ربيع الثاني 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 11:38 م

      الصدام الحضاري

      حين يتوقف الغرب عن ممارساته العنصرية سيكون السلام والتعايش آليا فالمسلم المعتدل لا ولم ولن يذم ولن يجدف دينا

    • زائر 4 | 11:30 م

      لا يكفي

      فسّر المحللون بمختلف مشاربهم ومدارسهم الفكرية والسياسية، الصراع الدائر وتوتر العلاقات الدولية بعوامل اقتصادية،

    • زائر 3 | 2:20 م

      تداخل الحضارات

      تداخل الحضارات الحاصل اليوم من مسببات التصادم والتناحر بسبب البون الشاسع سواء على مستوى الأفكار الدينية التي يعتنقها الشرق والغرب، أم على مستوى اللغة والتاريخ والعادات. ولعلّ شدة التقارب التي صار عليها العالم بوصفه قرية كونية، وتعاظم الهجرة المتبادلة بين أبناء الحضارتين، قد يدفع بالعديد من هؤلاء إلى الاحتماء وتحصين انتمائه الثقافي والدفاع عن كيانه الحضاريّ.

    • زائر 2 | 3:00 ص

      نعم لابدّ للفكر الهادئ الرصين أن يتحرّك لفهم العلاقة الممكنة بين ما حدث ويحدث

      لكن هذا الفكر الهادئ لا بد أن تصحبه قرارات عملية للحد من تجديف الأديان

    • زائر 1 | 11:38 م

      من الصدام الحضاري إلى التعايش العالمي

      موضوع مهم ومن الضروري الخروج من هذه الصراعات بالحوار لا بالعنف

اقرأ ايضاً