العدد 4553 - الإثنين 23 فبراير 2015م الموافق 04 جمادى الأولى 1436هـ

سيرة جدَّته... جدَّاتنا... جدَّات العالم... وزمن تنقصه العاطفة

«سلامة سلُّوم» لعلي الديري...

الحاجّة سلامة تحتضن وردة عيد الأم
الحاجّة سلامة تحتضن وردة عيد الأم

الجدَّات... لسن أمهات احتياط. هن أمهات بخبرات وفائض وخزَّان من العاطفة. يكتب الباحث والمفكِّر البحريني علي الديري سيرة جدَّاتنا... جدَّات العالم، وهو يباشر سيرة جدَّته في كتابه الذي صدر مؤخراً «سلامة سلُّوم»... روح من الزمن الذي كان جميلاً بروحها/ أرواحهن. زمن نشهد فيه العاطفة تكاد تتلاشى وتذوي وتتوارى. زمن فيه الحب شحيح أو يكاد. في الكتاب تمرير لحقيقة لم يكتبها نصاً: بائسون هم الذين لم يعرفوا الجدَّات. بحياة ناقصة شطراً مهمَّا من العاطفة والحب الاستثنائي. فقراء هم الذين ولدوا من دون جدَّات عاصروهن، ووعوا على الدرس العفوي في العاطفة الجامحة، والخوف عليهم وهم في حضرتهن وفي أحضانهن. لم يكتب ذلك ولكنه قصد في ما كتب: ناقصو أعمار هم أولئك الذين لم يغرفوا من ذلك النبع/ المحيط.

سلامة سلُّوم المرأة العابرة للمناطق، ولن يثمر مثل ذلك العبور إلا عن إقامة في القلوب بالنتيجة النهائية، عبْرَ محبَّة الناس لها، بشخصيتها الجاذبة، وامتلاء الأمكنة بها. تأتي سيرتها أشبه بالحلم، على رغم أنها ليست كذلك. تبدو بعد رحيلها نصَّاً في ما يرى الرائي. بالمعايشة، وذلك الالتصاق الذي يتجاوز العاطفة العابرة. أن تتحوَّل الجدَّة بالوعي إلى أم، فذلك يعني أنها استطاعت أن تعبر حدود العاطفة المألوفة والقارَّة أيضاً.

في الإهداء الذي تم تعميمه يكتب «جدَّتي: جنسيتي»، وللإهداء قصة لم تغب عن البعيدين؛ عدا القريبين منه. أن تكون جنسيتك: جدَّتك، ذلك يعني تجاوزك للرمز في الكلام، وإيصال الرسائل. أنت تُشهرها هنا بالقول، إن جذرك هنا، امتدادك، تاريخك، من خلال صور وأصوات وحيوات الذين سيطولهم جانب من السرد؛ علاوة على الذين لم يطلْهم.

حكايات الجدَّات وإن علقت في ذاكرة الطفل (علي)، إلا أن تفتُّح وعيه ومداركه ذهبت به إلى حكايات الناس الذين كان جزءاً من زمنهم. ربما تكون للحكايات الأولى كتابة أخرى.

ضياع الفارق بين الأم والجدَّة

لا تحضر سيرة الديري، إلا لُماماً، ليس بطلها هو، ليس زمنه الذي يسرد تفاصيله. أمام ذلك الخزَّان من العاطفة والحب والنقاء، يعبر الديري إلى سيرته الأولى عبوراً ليكتب سيرة استوت على مكانها ومكانتها وحضورها وجاذبيتها.

يضيع، يذوي، يتلاشى الفارق بين الجدَّة والأم. تلك القدرة العجيبة على إخراج الطفل من انحيازه الفطري لعلاقته مع المخلوق الأول (أمه). يحتاج كل ذلك إلى توجُّه كلِّي في تعهِّده، والقيام بجهد لا تصنُّع فيه كي يركن إليها. كثير من الجدَّات يفعلن ذلك، لكن غالباً بمزاج متقلِّب. الاطلاع بالدور في حدود استواء واستقرار النفس، تحدث مثل تلك العملية التبادلية في الدور.

«لم أفارق حضنها حتى مرحلتي الجامعية، حرمتْني شيئاً واحداً فقط، وهو الشعور بنداء كلمة (جدَّتي)، لم تترك لي مجالاً لأعرف الفرق بين الأم والجدَّة، لا وصفاً ولا اسماً ولا إدراكاً، في دلالها المُفرط لي، وجدت أن اسم (جدَّتي) لا يُدرك ولا يُوصف. لم أعرف أن أناديها يوماً بغير كلمة (أماه)».

«جاء محفوفاً بالأحجية والأحراز»

تحضر سيرة الديري خاطفة، عابرة. ليس هو موضوع السيرة وإن كان طرفاً فيها. كثيرون تستحوذ عليهم السيرة في الكلام عن ذواتهم، فيتحوَّلون إلى المتن، فيما أصحاب/ ذات الشأن يتحوَّلون/ تتحوَّل إلى الهامش. لم يحدث ذلك مع سحر وبهاء وعفوية السرد التي كتب بها. قلت للمحروس ذات مقهى. هذا الرجل لديه قدرة على السرْد ساحرة. كل ما أتمناه ألاَّ يتورَّط فيه ضمن أعمال لم يطرقها. يطرق السرد هذه المرة ليس فقط باعتباره شاهداً وطرفاً، بل باعتبارها الأقدر والأجدر على ألاَّ يُهمل العميق من تلك التفاصيل.

«كنت حفيدها الأول، بعد أن أجهضت أمي مرتين بتوأم، جئت محفوفاً بأحجية وأحراز وطقوس وأضحية، لا يعرف تفاصيلها غيرها والحاجة مريم جان. نذورها الكثيرة ظلَّت تحفُّني بها، وكأنها مراسم احتفال تجدِّدها في كل مناسبة، لتطمئن أن الحياة التي مُنحت لي، ستظل للأبد».

«لؤلؤة قلبها»

كلٌّ منا تمسَّك بلؤلؤته أكثر مع تحولات عرفناها. لا تكفي لؤلؤة واحدة. ستعي سلامة أهمية لؤلؤة أخرى، دفعت حفيدها الأكبر إلى جهات الله والاغتراب القسري. ستظل حاضرة تلك اللؤلؤة في الرمز، في ما يدلُّ عليها، واستحضار تفاصيل يُراد لها أن تغيب أو تُغيَّب. في الغياب ذاك كان وجعها. ادِّخار اللؤلؤة له يمنحها شيئاً من نظر بعيد وعزاء أيضاً.

«ظلت تجمع العملات المعدنية، تعدُّها لفرحة رجوعي، لست أدري كم فيها من فئة الدوَّار (500 فلس) لكني أعرف أن فيها لؤلؤة قلبها التي تدور بحثاً عنِّي».

بكاء اليوم الأول

تحضر سيرة الديري خاطفة عابرة. الاستدعاءات تشكِّل حجر الزاوية في سيرة سلامة. الاستدعاءات المرتبطة به. يمر عابراً على البكاء الأول باعتباره حالة عامة. بكاء الوحشة في المكان الجديد. من منَّا لم تُصِبْه تلك الحالة؟ ينحرف الديري بتلك الحالة إرجاعاً لها إلى حقيقة وحشة الغياب المؤقت، في المكان الذي لا ألفة فيه ولا روح بعيداً عن حضن ورائحة جدَّته.

«في الصف الأول الابتدائي دخلت نوبة بكاء حادَّة فوق الكرسي المدرسي ولا أحد كان يعرف سببها، المدِّرس ظنها وحشة اليوم الأول في المدرسة، في حين أنها كانت تخيُّل اليوم الأول بدونها».

«بصْمَة القلب»

البصمة أكثر أثراً من الكتابة. دليل عليك ولك. دليلٌ لا يقبل التحويل واللعب به. كل بصمة بقاء وحفر وتأكيد. وليست كل كتابة كذلك. كأن سنواتها في الحياة. في علاقاتها الراسخة. في انفتاحها على مدى الناس من حولها. في تفقُّدها للصديقات. في المأتم الذي كان شغلها الشاغل، جنباً إلى جنب مع بناتها وأحفادها. في أن تكون هي في بهائها الداخلي كما بهائها الخارجي. كل تلك صور لبصمات ستجدها في التفاصيل التي يُمكن القبض عليها، وتلك العصيَّة على القبض. وأكثر سيرتها - كما يبدو - ظلَّ عصيَّاً على القبض عليه من حيث تقديمه، وتقريبه، وتمثُّله، ويحتاج ذلك إلى بصمة ليس من السهل توافرها.

«جدَّتي كانت تبصم لأنها لا تكتب. وفي علاقاتها كانت تبصم بقلبها، وأنا تعلمت منها ذلك. وهبتْني كل جميل في قلبها، محبَّة الناس، الاحتفاء بهم، السعادة بالأشياء الصغيرة. تصغير كبائر الأشياء، الاقتراب من الأشياء لتلطيف قسوتها...».

لا تاريخ في المأتم

يحظى المأتم بمساحة كبيرة من السرد. ليس فقط لأنه المكان الذي استولى على الشطر الأكبر من اهتمامها، وتعهَّدته حتى آخر أيام حياتها. بل لما للمكان ذاك من أثر في تكوينها النفسي والاجتماعي، وحتى علاقاتها مع بشر مكانها وزمنها، وبشر ما بعد ذلك المكان.

في ذهاب الديري إلى كتابة تاريخ مأتم سلامة، ذهاب إلى رافد من مُكوِّنها. ذلك الالتصاق الذي عُرفت به في المكان، سيرشح عنه كلام ومجاز ورمز.

«ستأتي حكاية المأتم إذن منسوجة من سُرُودات النساء اللاتي يرتدْن هذا المجلس، فنساء هذا المجلس هن أنفسهن نساء المأتم».

المأتم نفسه لا معرفة له بالتاريخ بحسب كتابة الديري «النساء في المأتم يعشن التاريخ لكنهن لا يعرفن التاريخ، بل ليس هناك تاريخ، هناك لحظة زمنية أبديَّة سرمديَّة مُعاشَة بحرارة القتل».

هنالك سيَر الحياة، في الوقت الذي يتم تناول وإعادة سرد سيَر الموت. كأن الحياة تطلع من تلك السيرة، تمتد وتأتلق، بذلك الخيط الأبيض، وبتلك الشارات البيضاء أيضاً في البحث عن الطِيبة والنقاء وانتخاب الصفاء من قلوب البشر من حولها.

النساء اللاتي تعاقبن على القراءة في المأتم. في التعاقب ذاك، تعاقب أرواح في الوقت نفسه. في تلك التهيئة التي تأخذهن إلى السرد في نصيَّة لا تتغيَّر، وكأنه السرد الأول. كأنه افتتاح السيرة التي امتدت لأكثر من 1400 سنة. كأنها بحرارتها وطزاجة المواقف فيها... الغبار... الليل... الوحشة... وما يلي ذلك من تفاصيل.

كأن المكان ذاك، اختبار لوجودهن على قيد الحياة. به يختبرن إقامتهن هنا... في هذا العالم. يكاد الأمر يتجاوز التخيُّل والمعنى المجازي للحياة عبر ذلك المكان بسرد سيرة القتل، إلى المعنى المباشر الذي لا يحتمل التأويل، على الأقل في انسجامهن معه.

يتفوَّق علي الديري في «سلامة سلُّوم» على نفسه، بتلك القدرة الخلَّاقة والعفوية والدافئة في تقريب أكثر من صورة لجدَّته. بذلك السرد الذي برع فيه أيما براعة. أراد هذه المرة أن يكون في استراحة عمله على المجاز فيما قرأنا له واشتغل عليه. استراحة الاشتغال على مجازات جدَّته. ونجح في ذلك بدرجة كبيرة.

الكتاب وردت فيه أخطاء طباعية ولغوية، ولتفادي تلك الأخطاء في الطبعات المقبلة، نورد هذا التنويه والملاحظة.

يُشار إلى أن الحاجة سلامة سلُّوم ولدت في الثلاثينيات من القرن العشرين، في قرية الدير. تزوَّجت حجي عبدالحسين طرار (توفي العام 1977). أنجبت ثلاث بنات: صباح، خاتون، وسكينة. قيِّمة مأتم حجي طرار النسائي.

منذ الخمسينيات، تعلَّمت من زوجها العمل التجاري الحر، فاتخذت من إحدى غرف بيتها مكاناً لبيع الأقمشة والألبسة، وقد أصبح مجلساً نسائياً مشهوراً في قرية الدير.

كوَّنت عبر شخصيتها الجذَّابة، صداقات عابرة للمناطق: المنامة، سماهيج، باربار، رأس رمان والنعيم.

توفيت في 27 يناير/ كانون الثاني 2014، مُخلِّفة ثلاث بنات و 21 حفيداً.


من فضاءات سلامة... السيرة

«في هدوء مُحبَّب، تجلس الحاجة سلامة قيِّمة مأتم الحاج طرَّار إلى ركن مأتمها الصغير. يتغشَّاها السواد فلا يخطئ من بياضها شيء. لا يشذُّ منها غير جزء عصيٍّ على الاحتواء. إنها يدها البيضاء. تبرز من شق عباءتها كحمامة لم يَمْسَسْهَا لون».

توظيفها للمجاز

«عُرف عن سلامة قدرتها اللغوية وتوظيفها المجاز في وصف الأشياء حولها. فحين تعرض على أحدهم شاي الحليب، تقول له محفِّزة: «شوف شاي الحليب خوص»، وهي بهذا ترمي إلى أنه لفرط غلاظته يمكن للخوصة أن تقف عليه». «في عادة سلامة، أنها عندما تسألها زبونتها عن ثمن بضاعة ما، تقول لها: ببلاش. وهو مجاز لطافةٍ يعرفه الباعة والمشترون معاً. لكن فاطمة (بنت حجي حسن) لم تكن تعرف. كلما سألت سلامة عن الثمن وقالت لها: ببلاش، ابتهجت الأخيرة وحملت بضاعتها وطارت فرِحَة بها. أدركت فاطمة فيما بعد أن الأمر لا يعدو أن يكون مجازاً من لسان سلامة الأنيق، لكن إدراكها جاء بعد أن ربحت الكثير من البضاعة (البلاش)».

الحاجّة سلامة مع عائلة حفيدها علي، فضاء، باسل، وأماسيل
الحاجّة سلامة مع عائلة حفيدها علي، فضاء، باسل، وأماسيل
لم يقعدها المرض وثقل السنين عن زيارة حفيدها الأكبر في بيروت
لم يقعدها المرض وثقل السنين عن زيارة حفيدها الأكبر في بيروت

العدد 4553 - الإثنين 23 فبراير 2015م الموافق 04 جمادى الأولى 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 5:52 ص

      جدتنا

      هذة الجدة أسرتني بمحبتها. حين زرتها شعرت انها جدتي. عاتبتني على تقصيري من زيارتي الاولى. جناح حب ودفء. سلام لك جدة علي الديري. جدتنا جميعاًً. استاذ جعفر ابدعت في توصيل مفردات الديري. امل النعيمي

    • زائر 6 | 4:18 ص

      رحم الله جداتنا

      رحمك الله ياجدتي الغالي عاشت غريبة في وطن وفقد زوج ومنزل من سنة 80 وغربتها الدولة عن وطن لها ذكريات يظمها ورجعت بعد غياب وعفو ولكنها فقدت اعز انسان في غربة وظلت تنان وتصحو على ذكريات الماضي مع زوج فقدته في الغربة رحمك الله ياجدتي الغالية عانت الكثير وماتت في وطن هو غربه لكل مواطنيه..... اه عليك يا جدتي الغاليه لا انسى صوتها في اذني وهي تسرد لنا اروع القصص الجميلة التي لا زالت ولا تزال في مخيلتني .... رحمك الله جدتي ورحم الله جداتنا العزيزات

    • زائر 5 | 2:00 ص

      جميل جدًا

      الموضوع و الطرح و الوصف الجذاب كل ذلك رائع و يحفز على قراءة الكتاب، دامت جداتنا أمهاتنا و الحنان اللامتناهي بخير و عافية و رب ارحم من هم تحت التراب .. لي جدةٌ حبها يفوق وصف الخيال .. أنها أمي مدينة.. مدينة العلم الأملي دامت لنا بخير و صحة و عافية

    • زائر 4 | 12:53 ص

      جنسيتك الأمل

      أبا باسل
      جنسيتك هي الأمل العابر للحدود، وقريبا العابر للقارات، تزداد قربا بالبعد، وتلتصق بالوطن كلما أوغلت في البعد عن ترابه.
      لست أقل شأنا من الصقر إذ يبصر دقائق الأرض كلما حلق شاهقا. فإذا اصطاده صقار عمد أولاً لتغطية عينيه كي لا يرى الأفق فينطلق إلى ما يعجز عنه الصقار نفسه وليجعل منه عبدا قنا يوجهه لما يريد متحكّما حتى في أمله وإطلالته التي ترى الصورة كما هي سواء دوّنها الموت أو كان الموت دونها

    • زائر 3 | 12:13 ص

      الله يرحمش ياجدتي

      جميل ..الجدات هم بركة البيت ..الله يرحمش يا حاجه سلامه ويرحم جدتي ويحفظ جميع جدات المومنين والمومنات

    • زائر 2 | 11:24 م

      الأصل

      الله يرحمها برحمة رحمة الأبرار والله يخليكم خلف لها اصيل محرد يقدر يغير الحقيقيه

    • زائر 1 | 11:05 م

      عشت رمزا لهذا البلد

      اهلًا. بابن الوطن الأخ علي الديري. ،، ومن لا يعرف علي الديري. ؟؟. أبناء الوطن. باقون. لهذا الوطن. وإن. غيبهم الزمن لفترة. بسجن او منفى ًً،،. أحبائي أبناء المرحوم. حمندي أحباب وإعزاز من علي. الى يوسف. ومحمد. وحسين. وأخيهم المرحوم. عبدالله ومن لا يحضرني اسمه

اقرأ ايضاً