العدد 4574 - الإثنين 16 مارس 2015م الموافق 25 جمادى الأولى 1436هـ

نصف قرن على مسيرة الحقوق المدنية الأميركية

رضي السماك

كاتب بحريني

احتفلت الولايات المتحدة قبل أيام قليلة، بمرور نصف قرن على انطلاقة مسيرة الحقوق المدنية السلمية للسود في شتاء العام ١٩٦٥، والتي جرى قمعها بوحشية بالغة. وألقى الرئيس باراك أوباما، وهو أول رئيس من هذه العرقية، كلمةً بهذه المناسبة اعترف فيها بأن «ظل التاريخ العنصري في هذا البلد مازال يخيّم علينا». وفي إشارة مبطنة لعدم عدالة التصويت الانتخابي المتكافئ، أقرّ أيضاً بأنه «مازالت هناك قوانين وُضعت في أنحاء البلد لجعل التصويت الانتخابي أكثر صعوبةً».

وعلى الرغم من أن ذلك القمع الدموي الذي جرى لمسيرة الحقوق المدنية كان بمثابة الضريبة التي دفعها السود ومناصروهم من البيض لحمل النظام الأميركي على سنّ قانون في صيف ذلك العام يقرّ الحقوق المدنية كافةً للسود، ويحظر مصادرة حقوقهم الانتخابية، إلا أن الواقع المرير يؤكد صحة اعتراف أوباما بأن التاريخ العنصري مازال يخيّم على البلاد. فالنوازع العنصرية يصعب استئصالها من النفوس بين عشيةٍ وضحاها، وإن جرى حظر التمييز على ورق القوانين والدستور أو في الشعارات وعلى الألسن. ولعل أحداث الصيف والخريف الماضيين خير شاهدٍ على نوازع الشرطة البيض وعدم عدالة القضاء الأميركي المنحاز لهم.
وتعود قصة التاريخ الدامي الممتهن لكرامة الأميركيين السود إلى ما قبل خمسة قرون، بعد اكتشاف أميركا بعشر سنوات، حينما رست أول سفينةٍ على الساحل الغربي لأميركا محملةً بالعبيد، وسرعان ما توالت الشحنات بأعداد مهولة، ولاسيما مع اشتداد التنافس التجاري الأسباني الانجليزي الفرنسي الهولندي، على تصدير هذه «البضاعة»، تجارة بيع الإنسان لأخيه الإنسان بإهدار كرامته وتقييد حريته بكاملها. وبسبب هذا التنافس التجاري الرأسمالي الوضيع قامت كل شركة من الشركات الأوروبية المتخصصة في هذه التجارة بكي أماكن محددة في أجسام عبيدها المعدين للتصدير كعلامات تجارية مميزة (Trade Marks). وظلت تجارة الرقيق لقرون، تدر أرباحاً هائلة حتى بزوغ عصر الاحتلال والنهب الاستعماري الممنهج لثروات بلدان العالم الثالث التي أخضعت شعوبها لنوع آخر من الاسترقاق السياسي والاقتصادي والثقافي.
في وصفه للمحنة الدامية التي يتجرعها العبيد في عملية الشحن التجاري لتصديرهم من أفريقيا، كتب الباحث الاقتصادي المصري الراحل رمزي زكي في كتابه «الليبرالية المتوحشة»: «وحينما تأتي السفينة يُقذف بهم إلى داخلها وهم عراة، ونظراً لارتفاع تكلفة الرحلة التي تستغرق عدة أسابيع وهي تجتاز الأطلسي، فقد حرص ملاك السفن على صناعتها على هيئة مخازن ذات رفوف، يُرص فيها العبيد وهم مصفّدون في الأغلال، بعد فصل النساء عن الرجال. وكان شكل السفينة أشبه بعلبة السردين، وكان أهم ما يشغل قبطان السفينة قبل الإبحار، هو إمدادها بالماء العذب (200- 250 لتر للعبد الواحد)، وبثمار الموز والليمون لمكافحة مرض الاسقربوط، وبزيت النخيل لمعالجة الأمراض الجلدية. وكانت لحظة الشحن والإبحار الأكثر عذاباً وإيلاماً للنفس، فها هم ينتزعون من أوطانهم بالقوة، وستختفي حالاً من أمام عيونهم شواطئ بلادهم إلى الأبد، ولن يروا أقرباءهم وأحبائهم بعد ذلك».
وحتى حينما تم حظر هذه التجارة، لم يكن ذلك لأسباب ذاتية كوخزة ضمير مفاجئة، بل لعوامل موضوعية في المقام الأول، تتمثل في تطور وسائل الإنتاج غداة الثورة الصناعية وتحرير الإنسان الأوروبي من رقّ الإقطاع وشعوذات الكنيسة المتحالفة معه على إثر الثورات الأوروبية، وفي مقدمتها الثورة الفرنسية، حيث فرض هذا التطور حظر تلك التجارة الوضيعة، والمناداة بتحرير العبيد، نظراً لاحتياجات الرأسماليين الجُدد الكبيرة للقوى العاملة الرخيصة من أجل ضخّهم مجدّداً مع سائر المهمّشين الآخرين في قاع المجتمع في ماكنة رقٍّ آخر باستغلال قوة عملهم لساعات عمل طوال في المؤسسات والمصانع الجديدة التي يملكها في الغالب نفس أساطين تجارة العبيد أو أحفادهم.
وعلى الرغم من أن النزعات ورواسب الثقافات العنصرية مازالت كامنةً في النفوس المريضة لدى شرائح واسعة من البيض الأميركيين، وخصوصاً الطبقات العليا، فإن ما يُحسب للولايات المتحدة أنها غدت اليوم على الأقل متصالحةً مع تاريخها، بإقرار هذه الجوانب المظلمة من وقائعه، فليس هناك من يجرؤ على تحقير هذا المكوّن العرقي إعلامياً أو في مناهج التاريخ التعليمية التي توثّق تلك الوقائع، ولا تموّه عليها أو تخفيها أو تبرر ظلامية السود، ولا يوجد من يُتهم بالتحريض العنصري أو الفتنة العرقية لمجرد أنه نادى بهذه الحقوق، أو تظاهر بعدم كفاية ما تحقّق منها.
ولقد كان الكاتب حسن منيمنة محقاً حينما شبّه المسألة الطائفية في الدول العربية بالمسألة العرقية في الولايات المتحدة بمفرداتها وتفاصيلها، حيث تسود الآن لغة التكابر والأهواء وغياب التسامح حيال جماعةٍ ما، ونفي كل حق عنها بحيث تبقى الآفة الطائفية جرحاً نازفاً لا يندمل («الحياة»، 30 نوفمبر 2014). ولعمري لعل هذا أهم الدروس المستفادة عربياً في تجربة رحلة الأميركيين السود التاريخية الطويلة الشاقة نحو تحقيق كامل حقوقهم المدنية تشريعاً وتطبيقاً، وصولاً إلى مجتمع جديد متآخٍ خالٍ من التمييز والاضطهاد لأيٍّ من مكوّناته.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 4574 - الإثنين 16 مارس 2015م الموافق 25 جمادى الأولى 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 12:20 ص

      نجد ان القوانين في البحرين تشجهع على التمييز والطائفية

      وابسطها خلو المؤسسات العسكرية والامنية من مكون رئيسي من الشعب كما ان الوظائف العليا في الزارات تكاد تخلو منهم

اقرأ ايضاً