العدد 4579 - السبت 21 مارس 2015م الموافق 30 جمادى الأولى 1436هـ

إبراهيم العريض في مقالاته النقدية...ولقاء إذاعي العام 1966

صورة ضوئية لمقال «بقايا الغدران»
صورة ضوئية لمقال «بقايا الغدران»

ليست رؤية وتناولاً نقدياً مبكِّراً ذلك الذي صدر عن شاعر البحرين الكبير إبراهيم العريِّض، من خلال مقالاته في الفترة ما بين العام 1966 و 1972، فقد سبق ذلك رؤيته النقدية من خلال كتابه المهم الذي أشاد به نقاد كبار في العالم العربي «فن المتنبي بعد ألف عام: نظرة جديدة في الفن العربي»، عن «دار العلم للملايين»، في العام 1962 في 278 صفحة. ومن بين أشهر الذين تناولوا الكتاب الناقد التونسي عبدالسلام المسدي، وغيره من النقَّاد.

قراءته واستيعابه للتراث الشعري العربي الذي ينتمي له، لم يجعله بمنأى عن التأثر والالتصاق بتجارب وأسماء عالمية مثل: شكسبير وبيرسي شيلي وجورج بايرون ووالت ويتمان وت. س. إليوت، وإن كان بتتبِّع مصادر التأثير ومستوياتها تضعنا أمام حصة كبيرة للشاعر الإنجليزي إدوارد فيتزجيرالد. ذلك الاقتراب من التجارب العالمية، وتأثره ببعضها، أتاح له رؤية عميقة في النظر إلى الفنون الإبداعية نظرة شاملة لا تقتصر على رؤيتها من داخل البيئة الواحدة؛ بل توجُّهاً إلى نظرة البيئات الأخرى لتلك الفنون، وطريقة تفكيرها والآليات التي تتعاطى بها في تناولها.

وفي سياق زمنها يجب أن تُقرأ تلك «المقالات والتناولات النقدية» أو ما هو قريب منها. في سياق زمن لم يُتح للثقافة والمناهج النقدية ذلك التنوُّع والتعدُّد، والمقدرة وسهولة الوصول إلى المنابع الأخرى، ومن ثقافات في الطرف الآخر من العالم.

«بقايا الغدران»

يُمكن الوقوف على ثلاثة مقالات للعريِّض في مجلة «هنا البحرين»: «بقايا الغدران»، ونشر في العدد 166 العام 1965، و «مرايا»، ونشر في العدد 249 لشهر أكتوبر/ تشرين الأول 1972، و «النغم الحائر» ونشر في العام 1972، إضافة إلى لقاء إذاعي أجراه محمد غانم، ونُشر في المجلة في عددها 169 لشهر فبراير/ شباط 1966، ضمن أرشيف «هنا البحرين» الذي يغطي الفترة ما بين 1964 و 1964، وأعدَّه وقدَّم له الباحث والأكاديمي عبدالحميد المحادين.

في تناوله مخطوط ديوان جديد للشاعر الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة، عرَضَه عليه قبل أن يدفع به إلى النشر، نقف على بعض تلك التناولات النقدية التي أسَّس لها شاعر البحرين الراحل إبراهيم العريض في مقالاته المشار إليها، وإن مرَّ عليها مروراً دون أن يُشبعها تفصيلاً، ولم يتورَّط في المناهج والمدارس القائمة وقتها، مما له تأثير وتأثُّر ببعض المناهج والمدارس النقدية الغربية، تلك التي تسنَّى له الاطلاع عليها، بحكم إلمامه بأكثر من لغة؛ إذ كان العريِّض متمكِّناً، إضافة إلى لغته الأم، من ثلاث لغات أتاحت له ذلك الفضاء المتنوِّع والمتعدِّد الذي يستطيع من خلاله أن يُزواج فكرة هنا ويُلحقها بفكرة هناك ويتبعها بفكرة ثالثة هنالك؛ علاوة على ما كان يتمتَّع به من ثقافة عميقة ومتجذِّرة أتاحت له استلال فكرته الخالصة، ورؤيته النابعة من طبيعة الثقافة التي يتناولها، والفن الذي يعالجه برؤيته.

طبيعة الشعر وتناولاته

يستهل العريِّض مقاله «بقايا الغدران»، بتناوله ماهية وطبيعة الشعر من حيث تناولاته، ووقوفه على بعض الحقائق، وتوظيفها التوظيف الذي ينأى بها عن المباشرة والاكتفاء بالتسجيل فقط، بعيداً عن استلهام اللغة الخلَّاقة، والإلهام والخيال الذي يتجاوز الصورة القائمة، والتناول السطحي إلى العميق من الوقوف عليها. وفي المقال يبدأ بالقول: «فأما الشعر، وأعني به ما هو جدير بأن يُسمَّى شعراً، فيتميَّز - أو يجب أن يتميَّز - بثلاث صفات، فهو دائماً يتمتَّع بسَعَة الأفق لأنه يتناول قضايا إنسانية لا تقتصر على عصر دون عصر، ولا أمة دون سواها. والحقائق الكبرى التي تتعلَّق بالإنسانية لا تتغيَّر على مدى الأيام...».

ينبِّه العريِّض إلى حال تكاد تكون شائعة لدى كثير ممن يكتبون الشعر ليس في زمنه فحسب؛ إذ يمتدُّ ذلك إلى الأزمان التي تلتْه وستأتي، بذلك الفقر في القاموس الذي من المفترض أن يكون ثريَّاً ومتنوعاً، ومتحرِّكاً، باعتبار اللغة عنصراً أساسياً في بنية ذلك الفن ومضمونه في الوقت نفسه. هنا يدخل في الصفة الثانية للشعر كما يراها، ضمن الأدوات التي أُتيحت له، مع التذكير أن تناوله ذاك، لا يُمكن فصْله عن السياق الزمني. وهنا يدخل في مساحة أكثر تفصيلاً بالقول: «والصفة الثانية التي يتمتَّع بها الشعر هي غزارة المادة، فهذه الغزارة التي تتعلَّق بمفردات اللغة وآدابها وما تتقلَّب فيه مفردات اللغة وآدابها من تطورات منذ نشأتها الأولى، إذا ظهرت في شعر شاعر دلَّتْ على رسوخ قدمه في قضايا قومه، واتصاله الماس عبر التاريخ بكل ما يتعلَّق بهذه القضايا حسبما تناولها من بني قومه من الشعراء الآخرين».

حدود التجربة... قصْد البيان

يتناول العريِّض «اجترار المعاني»، ومبعث ذلك قصور التجربة والحدود التي وقفت عندها، باكتفاء أصحابها بتلك الحدود، وكأنها القصوى في ما حققوه وأنجزوه، ولذلك تناوله بتفصيل أكثر «ومن هنا يتطرَّق النقص إلى كثير من هذه المحاولات التي ينشرها أصحابها باسم الشعر - وليس به - رغم قدرة بعضهم على النظم، لأنهم لا يُحسنون الوقوف في حدود التجربة وما يليق بها من قصد البيان. فلا عجب أن يبقى عملهم اجتراراً للمعاني وحشرها ضمن قوالب لفظية... لا خلقاً فنياً يُقصد به وجه الحقيقة أو الحياة».

الشعر... المرآة

في مقاله الثاني «مرايا»، ونُشر في المجلة نفسها في أكتوبر/ تشرين الأول 1972، في العدد 249، يذهب العريِّض في التوصيف عميقاً، متخذاً من المرآة مدى أوسع وأكبر للنظر إلى الشاعر وتجربته، وانعكاس كل ذلك على بُنْيَة نصه والمضمون.

«فالشاعر مرآة - رضينا أو كرهنا - يلمح فيها الناظر خيال العصر الذي نشأ فيه واضحاً جليِّاً، بكل العوامل التي يكون الشاعر نتاجها، بحيث تظهر هذه العوامل في فلتات الشاعر وسقطاته، وتتراءى في بدائعه وحسناته، كما يظهر في المرآة ما تعكسه من أشعَّة وظلال، وبمقدار حاسَّة الشاعر الفنية في التمثيل يكون وضوح الصورة المعنويَّة يشخِّصها للعيان».

وفي وقوفه على الحاسَّة الفنية، يُوغل العريِّض في النظر إلى الحقائق مقابل الحاسَّة، ومن بينهما المرآة، وضمن مساحة توصيفية عميقة، ولا يبرح بذلك التوغُّل موضوع تناوله مراتب وطبقات وإمكانات الشعراء، لا باعتبارهم أبناء زمنه، بل باعتبارهم أبناء الزمن كل الزمن. «قلت (الحاسَّة الفنية)، وذلك لأن المرآة في ميزان الحقائق بعض المعدن، وليس كل معدن مرآة، وكذلك الشعراء على كثرة من يتمتَّعون بهذا اللقب، فما أقلَّ عدد الذين يجود لهم الشعر بريِّقه وبرضاهم عليه من القيِّمين. وهذا هو الفارق بين النظْم في صورته المألوفة، والشعر - حراً أو غير حر - الذي مورده الطبيعة الحية ومسرحه الخيال المحلِّق...».

وفي رؤيته الغالبة في كثير مما كتب، يشدِّد العريِّض على أولوية وضرورة الخروج على المباشر من تناول ما يُعتقد أنها حقائق، بروح الخيال المفتوح، دون أن يُلزم ذلك التناول - ضمن الرؤية - الناس كل الناس في اعتبار الحقائق التي يمسك بها أحدهم على أنها مُطلقة ولا تقبل الاستجواب.

«كذلك الشعراء، فإن منهم من يصوِّر لنا حقائق الأشياء كما هي، فنتلقَّى الأحكام منه كأنها قواعد الحياة الكلية، لا مجال لإنكارها ولا أثر للتحامل فيها - كما فعل شكسبير - فنجعل شعوره أو بالأحرى شعور من يصوِّرهم ميزاناً لأهواء النفوس».

وفي المقال نفسه، يتناول الصورة في الشعر، والتفاوت الذي ينشأ جرَّاء تمكُّن الشعراء من أكثر من لغة. ذلك التمكُّن يتيح فضاء أرحب للوقوف على تدرُّجاتها وعمقها، وتناولاتها في الوقت نفسه. مثل ذلك التمكُّن لاشك يتيح مجالاً للصورة في الشعر للإمساك بها، والأخذ بها إلى مساحة جامعة بين البشر، وإن اختلفت اللغات، لكن الوصول إليها، وخصوصاً بالانتقال إلى الترجمة، تكون قادرة على أن تكون جامعة في تلقِّي المخيَّلة البشرية لها.

يقول العريِّض: «ولذلك فإن الصور الشعرية تختلف باختلاف الأمم. والشعراء قلَّ ما يُحسنون النظْم في غير اللغة التي ينشأون على النطق بها. لا إحسانهم في لغتهم تلك، ولا إحسان أهل الأجنبية فيها... اللهم في أحوال نادرة كما وقع لطاغور».

«النغم الحائر»

في مقاله «النغم الحائر» الذي تم نشره في «هنا البحرين» العام 1972، يُقدِّم العريِّض مقاربته لتجربة شاعرين من كبار أسماء العربية في الشعر، ومن كبار وفرسانها أيضاً، عنترة بن شدَّاد، وأبوفراس الحمداني، وتفصل بينهما ثلاثة قرون، كتب العريِّض «النغم الحائر»، وإن تناول جانباً من خصوصية شعر كل منهما، إلا أنه ذهب في تأملات ومقاربات نقدية أيضاً تناولت الشعر ليس باعتباره أساليب وقدرة على استدعاء اللغة، بقدر ما هو موقف في الحياة أيضاً ومعبِّر عنها. نقف على تلك المقاربة «مضى على ذلك الشعراء - أكاد أقول كلهم - منذ وعيهم البطيء للتاريخ في قضايا مصيرية (وتلك مأساتهم ومأساتنا معاً) إلى اليوم، باستثناء شاعرين كان لهما شأن آخر، فقلَّ أن تعثر على لسان في آدابنا العربية كلها ينهج نهجهما في الإحاطة بالتفاصيل، لم يسلم مثلهما من العَثار، ويكون لوصفه ذلك الحظ من الإبداع».

مستشهداً بشيخ نقاد العرب (ابن الأثير) الذي عرَّف الأول بالقول: «إذا خاض معركة كان لسانه أمضى من نصالها، وأشجع من أبطالها، وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها...» وذلك هو أبو فراس الحمداني. وأما الثاني عنترة بن شدَّاد فقال عنه العريض: «وأما الثاني ففارس جاهلي سبقه بأكثر من ثلاثة قرون، بينه وبين شاعرنا شبَه عظيم في النظر إلى الحوادث والناس. فقد كان يرى أن الحياة حرب ضروس لابد من خوض غمارها كالأبطال لتحقيق غرضها الأسمى...».

المقال المشار إليه بدأه العريِّض بالنظر إلى واقع العرب الراهن استجلاء للتاريخ أيضاً، بالفتن والأحداث التي ضجت بها مجتمعاتنا في تاريخها البعيد والقريب، وحتى يومنا هذا وفي ذلك يشير إلى أنه «من عجائب المفارقات في تاريخنا الطويل أنه لم يخْلُ عصر - منذ الجاهلية إلى يومنا هذا - من أحداث وفتن داخلية وغزوات وحروب خارجية قديماً في أوْج السلطان العربي، وما أثاره الاستعمار وأعوانه من الملاحم ضد العروبة والإسلام في العصور الحديثة... ومع هذا كان وصف كل هذا الالتحام - كما هو الشأن في جميع ما ينظمه الشعراء في مواضع أخرى - مثالياً يجري على نسق واحد، بوحي من التقليد أكثر منه واقعية يهتم بالدقائق الزمنية التي تبيِّن الأحوال وتفرُّقها، خلقاً وتجديداً».

قبل ترجمة رباعيات الخيَّام

خيراً فعلت «هنا البحرين» حين قامت بنشر جانب من الحوار الذي أجراه المذيع بإذاعة البحرين محمد غانم مع الشاعر العريِّض، وتحديداً في العدد 169 فبراير/ شباط 1966، وتناول في جزء منه موضوع الترجمة عموماً، وتجربته في ترجمة رباعيات الشاعر الخيَّام خصوصاً، والتي لم تصدر وقت إجراء اللقاء؛ إذ أوضح بالقول فيما يخص تجربته «أما من ناحيتي فقد كنت مطَّلعاً على التراجم العربية كلها، وكذلك التراجم الإنجليزية كلها، وفي الوقت نفسه، كنت مُلمَّاً بالأصل الفارسي».

وفي ما يتعلَّق بالترجمة عموماً، بيَّن العنصرين اللذين تقوم عليهما الترجمة، وإن لم يُشر نصاً، إلاَّ أنه كان يقترب من المذهبين اللذين يجب مزاوجتهما في الترجمة: المذهب الحرفي والمذهب التفسيري، ذلك الذي لا يكتفي بالمعنى الحرفي، اقتراباً من تفاصيل قد تكون مرتبطة بالمفردة أو الشطر عموماً «بالنسبة إلى الشعر، لا يمكن أن يقال، إن محاولة المترجم قد تمَّتْ بنجاح؛ لأن الشعر يقوم على عنصرين، عنصر المعنى أولاً، والعنصر الثاني هو ما نستطيع أن نسمِّيه الجو الذي يكتنف المعنى، وهذا الجو يخلقه الوزن والعَروض والموسيقى، والأشياء الأخرى التي يُبنى عليها الشعر، فعندما نترجم الشعر إلى النثر، كما جرى فعلاً بالنسبة لعمر الخيَّام من قبل الصرَّاف (العراقي أحمد حامد الصرَّاف) والآخرين، يقتصر على ترجمة المعنى، ويمكن أن تكون الترجمة دقيقة جداً لكنها تضحِّي في سبيل هذه الدقة بكثير من الألوان التي تكتنف المعنى، وتخلق الجو الذي أشرت إليه، فهنا يصبح المجال مفتوحاً لأولئك الذين يحاولون ترجمة الشعر إلى الشعر، ولكن عندما يفعلون ذلك، إنما يحاولون أن يخلقوا في اللغة التي يترجمون إليها جوَّاً مُشابهاً للجو الذي أنِسوه في الأصل الذي يترجمونه، وهنا مجال التوفيق يختلف أمام الشعراء المختلفين، بالنسبة إلى إمكانيات كل منهم».

مشروع الصوتيات والمرئيات

خطوة مُهمَّة تلك التي اتخذتها وزارة شئون الإعلام بإصدار أرشيف مجلة «هنا البحرين»، وستكون خطوة أهم أيضاً لو بادرت الوزارة إلى نشر اللقاءات الإذاعية والتلفزيونية إذا توافرت، مثلما فعلت مع مقابلة العام 1966 في إذاعة البحرين؛ إذ ستكون إضافة وجانباً من مشروع كبير يستحقه شاعر البحرين، وأحد روَّادها الأوائل. نرجو أن تجد هذه الإشارة أذناً صاغية.

 صورة ضوئية لمقال «النغم الحائر»
صورة ضوئية لمقال «النغم الحائر»
إبراهيم العريِّض
إبراهيم العريِّض

العدد 4579 - السبت 21 مارس 2015م الموافق 30 جمادى الأولى 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً