العدد 4580 - الأحد 22 مارس 2015م الموافق 01 جمادى الآخرة 1436هـ

«داعش» توقظ النمرود من قـبره وتستبيح مدينة العرب الأولى

أحد مواقع مدينة نمرود الأثرية - AFP
أحد مواقع مدينة نمرود الأثرية - AFP

عاث التتار «الجدد» في الأرض مرة ثانية. هذه المرة، لم يُحوِّلوا نهرَيْ دجلة والفرات إلى أزرق نتاج الكتب المكبوبة في مياههما، بل بمحو الذاكرة الصلبة للبشرية، حيث حضارات بلاد ما بين النهرين. فقد حُطِّمت «التماثيل والمنحوتات النفيسة» التي يزيد عمرها عن آلاف السنين في مدينة نينوى العراقية وغيرها من الآثار، وجُرفت أراضٍ كانت دليلاً على ما كان فيها من بشر وحجر وبدا أن الإنسانية أمام اختبار صعب، وهي ترى تاريخها الذي صاغ هويتها منذ أزيد من 7 آلاف عام وهو يُدمَّر. «الوسط» تسلط الضوء على الآثار التي دمَّرتها داعش مؤخراً، وتفتح تاريخ حضارات ما بين النهرين في هذا الملف:

مدخل:

شَهِدَت أرض العراق وبلاد ما بين النهرين، بزوغ حضارات عظيمة منذ عصر ما قبل الميلاد بآلاف السنين، حيث كان لتلك الحضارات دور بارز في تطوير مفاهيم السياسة والحُكم والاقتصاد. ومن الدقة هنا أن نُحدد المساحة التي قررها الجغرافيون لمصطلح ما بين النهرين، كي نستطيع تصور المشهد التاريخي جيداً.

لقد ذكر الكسندر أداموف في كتابه «ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها» أن مصطلح ما بين النهرين يشمل «المثلث الذي يُكوِّنه المجرى الأوسط لنهرَي دجلة والفرات من جهة، وسفح هضبة أرمينيا من الجهة الأخرى، أي الإقليم المعروف عند العرب باسم الجزيرة. لهذا فإن ما بين النهرين لا يمتد إلى الجنوب من بغداد التي تقع تقريباً على الحدود بينها وبين بلاد الكلدانيين القديمة أي العراق العربي الذي يشمل بالإضافة إلى ولاية البصرة الأطراف الجنوبية لولاية بغداد أيضاً».

لكن هناك صورة جغرافية أكثر دقة للفصل ما بين النهرين عن العراق العربي عندما يذكر أداموف رأي الباحث التاريخي العقيد جيسني الذي يشير إلى أن «العراق العربي يمتد في الشمال إلى الموضع الذي كان يقوم به السور الميدي القديم الذي يتجه من صدر قناة الدجيل على دجلة حتى مصب قناة الصقلاوية في الفرات، أي إلى مايوازي مدينة سامراء الحالية».

بداية الاهتمام

لم يبدأ الاهتمام بالتنقيب الأثري بالنصف الجنوبي من بلاد النهرين إلا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر عبر «الكشف عن حضارات السومريين والأكديين، في مدن كيش وأور والوركاء ونفر ولجش ونيبور» كما يذكر عبدالعزيز صالح في كتابه الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق. وقد تطورت تلك التنقيبات باتجاه جنوب العراق وشماله مع دخول القرن العشرين. وتوخى بعضها «الطابع العلمي الدقيق في الكشف عن الآثار وقراءة النصوص وتحليلها، وصحبها اهتمام مماثل بآثار فجر التاريخ في العراق الجنوبي، في مثل العبيد وجمدة نصر، وفي العراق الشمالي في مثل تل حلف وجسونة»، كما يذكر صالح.

وتشير المصادر التاريخية إلى أن الحضارات التي نشأت هناك، لم تقتصر على منطقة ما بين النهرين بل امتدت إلى ما حولهما. «بل إن طائفة من أقدم المواطن الأثرية مثل العبيد وإريدو وأور، قامت غرب الفرات وليس فيما بينه وبين دجلة، كما قامت إشنونا وتل أسمر ونوزي شرق دجلة وليس فيما بينه وبين الفرات» كما جاء.

حضارة سومر

أولاً فإن الحديث عن أصل السومريين به عدة أقوال. فالبعض أرجعهم إلى «المرتفعات الشمالية والشمالية الشرقية التي تحف» بالعراق «عن طريق أرمينيا وإيران». والبعض قال إنهم «مما وراء القوقاز، أو مما وراء بحر قزوين». ورأي ثالث قال بأنهم «هاجروا من منطقة ما تقع فيما بين شمال الهند وبين أفغانستان وبلوخستان، واستقروا بعض الزمن في غربي إيران، ثم نزحوا منها إلى بلاد النهرين عن طريق الخليج العربي وجزيرة البحرين» كما جاء في المصادر التاريخية. وفي كل الأحوال، فإن السومريين طبعوا صبغتهم على منطقة بلاد ما بين النهرين، وشيَّدوا واحدة من أهم الحضارات العظيمة في التاريخ.

«ويذكر أحمد سوسه أن أقدم خريطة معروفة للعالم حتى الآن هي لوح من الطين المحروق تمثل منطقة الفتوح التى أنجزها سرجون السامي ملك أكاد (نحو 2300 ق. م)، وهي عبارة عن سهل مستدير يشتمل على بلاد بابل وآشور وتقع الجبال في جهة الشمال والأهوار في الجنوب. ويحيط بالدائرة البحر وعلى أطراف البحر جزر رُسِمَت على شكل مثلثات» كما جاء في المدخل إلى علم الجغرافيا والبيئة لـ محمد محمود محمدين.

ماذا دمَّرت داعش؟

بداية تجب الإشارة إلى أن قيام تنظيم داعش بتحطيم وتدمير الآثار والتماثيل في متحفي «الموصل والنمرود وحرق آلاف المخطوطات المهمة» ليس العمل الأول لذلك التنظيم في مسألة تدمير المواقع الأثرية في العراق، فطبقاً لتصريحات وكيل وزارة السياحة والآثار العراقية قيس حسن حسين لصحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية فإن داعش «سبق أن هرَّبت جزءاً كبيراً من آثار مدينة الموصل إلى إسرائيل ودول أخرى، لأجل تمويل عملياتهم الإرهابية» كاشفاً النقاب عن أن التنظيم يسيطر «على 1791 موقعاً أثرياً ودينياً في الموصل» ودمّر «أكثر من 30 موقعاً منذ يونيو/ حزيران 2014». وطبقاً لمحطة «سكاي نيوز» بشأن حالة التدمير والسرقة التي تعرضت لها آثار العراق، فإن 15 ألف موقع أثري قد تعرض للسرقة والنهب والتدمير بعد احتلال العراق سنة 2003م، و «تعرض المتحف العراقي الوطني في بغداد إلى أكبر عملية سرقة آثار في التاريخ» حيث «كانت في المتحف ما يقارب 220 ألف قطعة أثرية، سُرِقَ منها 15 ألفاً ودُمِّر ما صعب حمله، ولم يعد منها سوى 4000 قطعة فقط وما تبقى مجهول المصير حتى اللحظة» بحسب المحطة.

هنا، فإن من المهم تسليط الضوء على نوعية الآثار التي قامت داعش بتدميرها مؤخراً في الموصل، والتي تتمثل في «تدمير آثار النمرود جنوب شرقي الموصل» وأيضاً تدمير «بوابة (نركال) بأكملها التي تعود للفترة الآشورية» بالإضافة إلى «تماثيل للملك سنحاريب تعود لحضارات الآشوريين والسومريين والأكديين» ومدينة الحضر المتصلة بالعصور الهيللينستية ووجود العرب.

مدينة نمرود

يعود تاريخ تأسيس هذه المدينة إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد - بحسب عالم الآثار في جامعة ستوني بروك الأميركية حيدر الحمداني - وقد كانت عاصمة الآشوريين خلال العصر الآشوري الحديث. ورغم أن البعض لم يجعل لها صلة مع اسم النمرود المذكور في سِفْر التكوين، إلا أنني وجدت أن هناك ارتباطات تاريخية للفظة النمرود بأرض العراق. في كل الأحوال ارتبط اسم النمرود بملمحَين تاريخيين، الأول هو كونه أول مَنْ تأمَّر على ممالك الأرض، والثانية ارتباطه بالظلم والجبروت، وورود اسمه مع الحقبة التي وُجِدَ أبو الأنبياء إبراهيم الخليل.

في الملمَح الأول فقد وجدتُ نصاً للمسعودي في التنبيه يقول فيه أن «أول مملكة كانت في إقليم بابل بعد الطوفان ملك نمرود الجبار» لكنه يشير في حديثه عن دمشق أنها كانت «دار نوح، ومن جبل لبنان كان مبدأ السفينة، واستوت على الجودي قبل قردى. ولما كثر ولده نزلوا بابل السواد في ملك نمرود بن كوش أول ملك كان في الأرض». وهو ما ذكره ابن العِماد الحنبلي في شذرات الذهب نقلاً عن ابن عبّاس من «أن أصحاب سفينة نوح كانوا ثمانين رجلاً، فلما كثروا مَلَكَهُم نمرود بن كنعان بن حام بن نوح».

وإذا ما ربطنا هذا بالصورة الأخرى للنمرود وتقابله مع إبراهيم الخليل، قد نقع في إشكال ترتيب الحقب، ما بين وجوده كأول ملك بعد الطوفان وبين معاصرته للنبي إبراهيم. لكن بالرجوع إلى قول المسعودي بشأن «أول مملكة كانت في إقليم بابل بعد الطوفان ملك نمرود الجبار» فإننا نجد أنه يقول: «ومن تلاه من النماردة» وهو ما يعني أن هناك عديداً من الحكام مَنْ تقلدوا هذا الاسم، ومنهم مَنْ عاصر نبي الله إبراهيم وغيره، وبذلك تكون مواءمة الفترة معه معقولة، وخصوصاً أن الآلوسي ذكر في الجزء 16 من تفسيره «بأن ذا القرنين مَلَكَ بعد نمرود» أيضاً.

وقد ذكرت العديد من المصادر التاريخية منطقة مُلك النمرود أنها ببابل، وأشار إلى ذلك البلاذري في فتوح البلدان والخالدي في القرائن والحسيني في الطراز. وقد كانت مملكة النمرود بقياس ذلك الزمان مملكة متطورة، فكان أوّل مَنْ «وضع سكك الدنانير والدراهم هو نمرود بن كنعان»، وكان صوغ الدنانير من علامات الأمم الراقية كما يشير المازندراني في العقد المنير ثم يضيف نقلاً عن اليعقوبي بأن «ملوك بابل ضربوا الدنانير» وأن «هؤلاء الملوك، ملوك الدنيا، وهم الذين شيدوا البنيان، واتخذوا المدن وعملوا الحصون، وشرفوا القصور وحفروا الأنهار وغرسوا الأشجار، واستنبطوا المياه، وأثاروا الأرضين، واستخرجوا المعادن».

وأمام ذلك الإرث والتاريخ، تكون الإنسانية أمام خسارة عظيمة، بعد التدمير الذي لَحِقَ بآثار النمرود على يد داعش.

مملكة الحضر

تعتبر مملكة الحضر في العراق من أهم الآثار العربية والمسيحية، جنوب غرب الموصل. وقد ظهرت هذه المملكة في القرن الثاني الميلادي وعمَّرت مئة عام. وهناك مَنْ يرجعها إلى مئة عام قبل الميلاد وربما أسبق من ذلك. وكان ما يُميّزها هو هندستها المعمارية الراقية، وما صاحبها من نقوش دقيقة وغاية في الروعة.

وقد أورد الحِمْيَري في الروض المعطار أنها «مدينة لطيفة بين دجلة والزاب من بلاد الموصل وهي على نهر الثرثار» قبل أن يغزوها ذو الأكتاف كسرى سابور. وقال ابن الأثير إنها «كانت بجبال تكريت بين دجلة والفرات». وكانت المملكة على درجة من الرخاء، حيث أشارت النُّضَيْرَةُ وهي بنت الساطرون أن أباها «كان يفرش لها الديباج ويلبسها الحرير ويطعمها المخ». وما يُدلَّل على أنها كانت محكومة من العرب ما أشار له الحِميَري بأن «صاحب الحضر يسمى الضيزن بن معاوية (الذي حكم بعد الساطرون)، وكان من تنوخ من قضاعة» وأن الساطرون هو «أبونصر جد عمرو بن عدي بن نصر الذي كان ملوك الحيرة من ولده، وكان الضيزن قد ملك الجزيرة وما يليها إلى الشام، وأقام سابور على حصنه أربع سنين وقيل سنتين».

وقد ذُكِرَ في المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام في الجزء الرابع أن الكتابات الإرمية التي عُثِرَ عليها في الحضر سنة «1951م أكدت الرأي «القائل بأن الذين أسسوا هذه المدينة هم قبائل عربية؛ وذلك لورود أسماء عربية فيها مع أسماء إيرانية وإرمية. وقد وجد أن نسبة الأسماء العربية تزيد على نسبة الأسماء العربية في كتابات مدينة تدمر، وهي مكتوبة بلغة بني إرم كذلك، وهذا مما يدل على وجود جالية عربية قوية في الحضر».

وكانت مملكة الحضر تمثل عمقاً اقتصادياً مهماً في تلك الفترة، لما كانت تشكله من طريق آمن للقوافل التجارية. وكان لذلك تأثير على علاقاتها الخارجية، وبالتحديد مع الدولة الرومانية. لكن تقديرات الحضريين عند نشوب الصراع ما بين الساسانيين والفرثيون جعلهم لقمة سائغة لـ أردشير الأول بعد هزيمته للفرث، حين اعتبر موقف الحضريين مماثلاً لدولة الفرثيين. لكن الحقيقة هي أن الحضر قد استمدوا تطورهم وازدهارهم من علاقتهم بالفرث كما تذكر المصادر التاريخية.

أما عن صور تطورها وعمرانها فقد ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان أنها مدينة «مبنية بالحجارة المهندمة بيوتها وسقوفها وأبوابها، ويقال كان فيها ستون برجاً كباراً، وبين البرج والبرج تسعة أبراج صغار، بإزاء كل برج قصر وإلى جانبه حمام، ومرّ بها نهر الثرثار، وكان نهراً عظيماً عليه قرى وجنان، ومادته من الهرماس نهر نصيبين، ونصب فيه أودية كثيرة، ويقال إن السفن كانت تجري فيه».

ولحد الآن، لم تكشف الجهة المعنية بالآثار في الحكومة العراقية حجم الدمار الذي طال آثار هذه المدينة التاريخية المهمة.

الملك سنحاريب

تُزامن المصادر التاريخية فترة الملك الآشوري سنحاريب ملك بابل (ويُسمَّى ملك الموصل) بأحد أقوام بني إسرائيل وبالتحديد شعياء بن أمُصيا «وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى وشعياء الذي بشَّر بعيسى ومحمد» كما جاء في تفسير الطبري. أصل تلك المزامنة هو وصول سنحاريب ملك بابل إلى بيت المقدس «ومعه ستّ مئة ألف راية» كما جاء. وعندما نريد التدقيق في الفترة التي وُجِدَ فيها سنحاريب فيمكن تقريبها بـ 689 ق. م لأنه العام الذي انتصر فيه على بابل وأصبح ملكاً عليها.

ومن خلال الوثائق يظهر أن سنحاريب والآشوريين بصورة عامة كانت لديهم ثقافة مع الأرض التي يدخلونها والممالك التي يهزمونها، وهي أنهم يأخذون أبناء الملوك أو بناتهم المهزومين ويؤهلونهم تأهيلاً آشورياً ثم يعيدونهم ملوكاً على أرضهم. حدث هذا مع دومة الجندل والأريبيين حين «استسلمت الملكة تلخونو للآشوريين» و «أخذت الأميرة تبؤة أسيرة إلى عاصمة آشور؛ لتربى هناك تربية يرضى عنها الآشوريون، ولتُهَذَّب تهذيباً سياسيّاً خاصّاً يؤهلها أن تكون ملكة على أريبي» كما جاء في المفصل. وحدث ذلك أيضاً مع «الملكة العربية تاربوا التي تذكر المصادر أنها نشأت في قصر سنحاريب، فعينها الملك الآشوري أسرحدون «680 - 669 ق. م ملكة على العرب. وهو أمر يعطينا خيطاً لطبيعة العلاقة التي كانت تربط سنحاريب بالعرب، والتي تعددت صورها مرة مع تاربوا ومرة مع حزائيل وياتع وملك مدينة يادع وبازو وكلهم ملوك من العرب. لكن لا نعلم هل استمرت هذه العلاقة أم أنها ساءت بعد أن ساندت قبائل عربية من الوركاء ونفر وكيش وسبار بدعم مردوخ بلادان الذي ثار على سنحاريب لكنه لم ينجح.

ومما جاء عن تطور هذه الدولة التي حكمها سنحاريب نجد ابن العبري يتحدث في المختصر عن أن «سنحاريب جدد عمارة مدينة طرسوس».

وهذه الآثار النفيسة، هي أيضاً لم يتم الكشف عن تفاصيل التدمير الذي طالها على يد تنظيم داعش.

آثار العراق المهَدَّدة

الحقيقة، أن كل أرض العراق، لا تكاد تخلو من آثار مهمَّة عمرها آلاف السنين. بل إن الكثير من علماء الآثار، مازالوا يعتقدون بأن هناك ما لم تتوصل إليه البعثات التنقيبية لحد الآن، وبالتحديد في مناطق الجنوب. هنا، نستعرض بعضاً من تلك الآثار في العراق والتي تعتبر إحدى صور التاريخ الإنساني الزاخر.

طَيْسَفُونُ

وهي مدينة تقع على نهر دجلة وبالقرب من المدائن. وقد اتخذها الساسانيون والفرثيون عاصمة لهم وتضم قصر كسرى. وقد ذكر الحموي في معجم البلدان أنها «مدينة كسرى التي فيها الإيوان، بينها وبين بغداد ثلاثة فراسخ».

وقد شهدت هذه المدينة تحالف العرب مع لليانوس والروم في محاربة الفرس وسابور، وكان ذلك في سنة 363م كما جاء في المفصل. ومما جاء في تسمية المدينة بهذا الاسم أنه عائد لـ زاب بن بودكان بن منوشهر بن ايرج بن نمروذ الفارسي حين هزم فراسياب «وعمد إلى المدن والحصون التي هدمها فراسياب، فأعاد بناءها، وحفر الأنهار والقنى التي كان طمّها، وأصلح كل ما كان فراسياب أفسده، وجرى بالعراق أنهاراً عظيمة سماها الزوابي، اشتق اسمها من اسمه، وهي الزابي الأعلى، والزابي الأوسط، والزابي الأسفل، وابتنى المدينة العتيقة، وسماها طيسفون» كما ذكر ذلك الدِّينَوري في الأخبار الطوال.

حصن الأخيضر

من الآثار المهمة في العراق هو حصن الأخيضر صاحب الأسوار المرتفعة (17 متراً). والحقيقة، أن بعض الباحثين قد أرجع هذا الحصن الواقع في الصحراء (جنوب غرب العراق) إلى العصر الأموي، في حين أنه يرجع إلى عصور أسبق من ذلك بكثير.

حيث تشير تلك المصادر إلى اهتمام المناذرة بالهندسة والمعمار «لا سيما القصور والأديرة والكنائس» كما يشير توفيق برو، الذي يعتقد بأن «قصر السدير هو حصن الأخيضر المعروف الآن في العراق». كما أن القصور القديمة، التي سبقت الإسلام «بنيت لملوك نصارى وقد تولى بناءها مهندسون نصارى ذكروا أحدهم وهو رجل رومي يقال له سنمار بنى الخورنق للنعمان الكبير» كما ذكر لويس شيخو.

وعندما كان يتم الحديث عن زيارة المستشرق لويس ماسينيوس قبل 107 أعوام والآنسة مس قبل 105 أعوام كان حصن الأخيضر يوصف على أنه «بناء عظيم ذو طابقين تدل بقاياه الجليلة على عظم شأنه أما اسمه الاخيضر فقد اختلفوا في أصله ولعل أصح ما قيل في ذلك أنه تصحيف الأكيدر صاحب دومة الجندل».

كما يُثار تساؤل هنا: كيف يمكن أن نُرجِع حصن الأخيضر إلى حقبة الأمويين والتاريخ قد سجَّل لنا بأن عرب الأنبار والحيرة وعين التمر وغيرها من الأماكن كانوا «يحتمون بأبنية محصنة يقيم بها ساداتهم، وتكون مواضع دفاعهم أيام الخطر» رابطين ذلك بتاريخ فتح خالد بن الوليد لـ عين التمر، وهو ما يعني أنها حقبة تسبق الأمويين بكثير.

لنحفظ تاريخ العراق

الحقيقة، أن ذلك التاريخ الذي عَبَثَ به أؤلئك الأوباش لا يخص العراق فقط، بل يخص الإنسانية كلها. حيث إنه علامة على وجودنا الحقيقي، وجوهر اتصالنا بالتاريخ وعمارة الأرض. نعم... قد يكون العزاء الأكبر هو للعراقيين، الذي شَهدت أرضهم انبلاج الحضارات الأولى في التاريخ. أور الأولى والثانية والثالثة، واتصال الأخيرة بسومر وأكَد وآشور الشمال عبر عظمة مُلك أورنمو ونجله شوجلي.

لقد كان العراق وعبر دولة أور منذ آلاف السنين قد أضاف «تجديدات في آفاق السياسة والتشريع ومجالات الصناعة والفن» وكان مؤسسها أورنمو «من أقدم مُصدِّري التشريعات المكتوبة المعروفة في تاريخ العراق بعد تنظيمات أوروكاجينا حيث عثر على أجزاء من نسختين لتشريعه كتب إحديهما طالب في مدينة أور، وكتب الأخرى، طالب من مدينة نفر بعد وفاة أورنمو بنحو ثلاثة قرون، مما قد يعني أن هذا التشريع جاوز صيغته المحلية وطُبِّقَ في مدن أخرى ولفترة طويلة» كما جاء في كتاب الشرق الأدنى.

لقد منحت حضارة العراق العالم «المواد الأولى من تشريع أورنمو العبارات المعتادة عن سعي صاحبه إلى ضبط الأوزان والمكاييل وتوحيدها، ورغبته في تخليص المواطنين ممن يستغلون ماشيتهم وأغنامهم ودوابهم، وإلى أن يمنع وقوع اليتيم فريسة للثري ووقوع الأرملة ضحية للقوي وألا يكون مالك الشاقل ضحية صاحب المينه (تساوي المينه ستين شاقلاً). وكان كل من المينه أو المينا، والشيقل أو الشاقل، قطعة معدنية ذات وزن معلوم تقوم مقام العملة وليست منها. وتختلف قيمتها الحقيقة باختلاف نوع معدنها.

وأقرّ قانون أورنمو دفع غرامات على الجروح التي لا تفضي إلى الوفاة، فجعل غرم جرح الساق عشرة شواقل من الفضة، وغرم كسر العظام مينة من الفضة، وغرم قطع الأنف ثلثي مينه من الفضة، وغرامة كسر السن شاقلين من الفضة. وجعل التشريع العوض عن الجالية مثلها أو عشرة شواقل من الفضة أو ما يساويها من المقتنيات. وجعل حلوان إعادة العبد الآبق والجارية إلى مالكهما شاقلين من الفضة» كما جاء في المصدر.

الأمل يحدو الجميع، ألا تصل أيدي أؤلئك العابثين إلى كل هذا المخزون التاريخي الذي لا يُقدَّر بثمن.

العدد 4580 - الأحد 22 مارس 2015م الموافق 01 جمادى الآخرة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 12:50 ص

      اين العالم من هائولاء البربر

      والله لو كان معبد هندوسى اقدم هائولاء الحثاله السلفيين التكفيريين الرجعيين من مسه لمسحوا بهم الارض من فوقهم وتحت ارجلهم ولم تبقئ لهم باقيه وافنوهم من العالم اجمع ولكن لاحوله ولا قوه من يدعون الاسلام فى سبات عميق والاكثر المأ ان بعض هاده الانظمه الرجعيه العربيه هي من مول وسلح هائولاء الحثاله الساقطين قتلوا البشر ولم يرحموا لا صغير ولاكبير اغتصبوا النساء هدموا مساجد العباد واخيرا وليس اخر نسفوا كل ما له علاقه بتراث وتاريخ وحظارات ما قبل اوبعد الاسلام جيوش عربيه وامكانات هائله من التسلح لا نراها ال

اقرأ ايضاً