العدد 4595 - الإثنين 06 أبريل 2015م الموافق 16 جمادى الآخرة 1436هـ

الكتابة المتأنية في زمن متسارع

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

قبل أيام قصدتُ مكتبة تجارية في العاصمة لأشتري «مؤونتي» الشهرية من الكتب، وصادفتُ هناك صديقاً من «أهل الكار»، من أولئك الذين لهم مؤلفات وحضور ثقافي واجتماعي ملحوظ، وبعد حديث قصير كالذي يجري عادةً بين أي صديقين يجمعهم هم مشترك ويتفقان على «هواية» واحدة، قال بامتعاض وضيق: «ما يؤسف له أن عدد المشتغلين بالكتابة اليوم يفوق عدد القرّاء واختلط الحابل بالنابل حتى بتنا نعاين يومياً نماذج لا تُحصى من الطرح الساذج، والأفكار التافهة، والكتابات الرخيصة».

وعلى رغم ما في كلام الصديق من مبالغة لا يُخطئها السمع، إلا أن فحوى إدانته والمتعلق تحديداً باستشراء ظاهرة استسهال الكتابة والعدد الكبير الذي يدخل هذا العالم بلا جدارة وموهبة.. صحيحٌ نوعاً ما. ولكني، رغم ذلك؛ رحت أتأمل وجه الاعتراض وقلت متسائلاً: ولما لا؟ أليست الكتابة ظاهرةً ايجابية؟ ألا يُشكّل تزايد عدد حملة الأقلام والإعلاميين والباحثين وأصحاب الرأي وأهل الاختصاص نتاجاً طبيعياً للتقدم الحاصل في مختلف مجالات الحياة المعاصرة، بما ذلك الجانب الذي يمس مخرجات التعليم ووسائل التواصل الاجتماعي وطرق النشر الحديثة؟

لا أخشى من الكاتب الرديء، لكني أتخوّف من القارئ اللئيم الذي يقرأ وعقله مشحونٌ بالاتهامات والفهم المعطوب والاستعداد الناقص. الكاتب الرديء يمكن كشفه وملاحظته بيسر، وعاجلاً أم آجلاً سيخرج مهزوماً في زحام المنافسة التي يخوضها مع الموهوبين، ثم يتضاءل تأثيره ويتلاشى إلى الأبد. باختصار ستتكفل موهبته المحدودة في قتل سمعته وسحق مصداقيته، أما القارئ اللئيم فتكمن مشكلته في غموضه واستتاره، فهو شبيه بالـ «فايروس» النشط الذي يتخفّى في أوساط الناس كلص «مندس» بين جمع من الشرفاء والمهذبين.

الكتابة حياة، البعض يكتب ليضمّد أوجاعه، كما تلعق القطط جراحاتها الطرية، والبعض الآخر يكتب ليجيب عن أسئلته، وآخر يكتب ليجيب عن أسئلة القراء. هناك من يكتب من أجل الوظيفة، وآخر يكتب لأنه يجد في الكتابة وسيلةً فضلى من وسائل التعبير عن التوتر الإبداعي القابع في داخله، وعند هذا الصنف من الناس تتساوى الكتابة مع الرسم والشعر والأدب والتصوير والموسيقى باعتبارها فنوناً إبداعية تختلط فيها رشحات اليقظة والصفاء العقلي بالأحاسيس الدفينة للنفس البشرية.

وعندما كتب الروائي البريطاني جورج أورويل (ت 1950) مقالته في خمسينيات القرن الماضي «لماذا أكتب؟» وضع فيها أربعة دوافع عظيمة للكتابة، حدّدها في التالي: «الأنانية المطلقة» وهي أن يتم التحدث عنك، أن يتم تذكرك بعد الوفاة، ثم «الحماسة الجمالية» وتتمثل في مسرة تأثير وقع صوت على آخر في إطار فن نثري أو قصة جيدة. ثم هناك «الدافع التاريخي» الذي يتمثل في الرغبة برؤية الأشياء كما هي، والعثور على الوقائع الحقيقية وحفظها من أجل الأجيال القادمة، وأخيراً هناك «الغرض السياسي»، والذي يراه أورويل واحداً من مقاصد رسالة الفن في الحياة.

كثيرون هم من يكتبون لكن التاريخ لا يحفظ ويفخر إلا بجلائل النصوص العظيمة، وهذه النصوص تأتي في العادة بعد عمل شاق وجهود مضنية وسنوات من السهر والعمل المتواصل.

لقد اضطر المؤرخ الأميركي ويل ديورانت (ت 1981) أن ينفق - بمعاونةٍ وإسنادٍ من زوجته - خمسين عاماً في كتابة موسوعته «قصة الحضارة» في أحد عشر مجلداً والتي حظيت ومازالت تحظى بتقدير وإطراء قراء العالم، والتي قدّم فيها إطلالةً شاملةً ومتكاملةً على ما يربو على مئة وعشرة قرون.

ولكن من سيقرأ أحد عشر مجلداً اليوم وإيقاع الحياة شديد السرعة وسيل المعلومات ينزل علينا كوابل من الأمطار وتغرقنا في كل حين وتلاحقنا حيثما كنا؟ لقد بات الناس يفضّلون المعارف العامة التي تقدّم لهم بشكل أكثر إيجازاً بعدما كانت تفضل الكتب الضخمة. فلم يعد لدى الناس متسعٌ من الوقت لمطالعة المجلدات الضخمة التي باتوا ينظرون إليها كفرائض تثبط الهمة أكثر منها ينبوعاً لمتع تُرتشف على مهل.

رغم ذلك، فالكتابة تظل طقساً جميلاً من طقوس الحياة، وتبقى تمثل أبلغ مثال على مدى قدرة البشر على الاحتفاء بجمال الحياة والتلذّذ بمباهجها الرائعة. ويبقى الحكم والفيصل هو القارئ الذي يمنح النصوص قيمتها.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 4595 - الإثنين 06 أبريل 2015م الموافق 16 جمادى الآخرة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 5:13 ص

      توصيف بحق القارئ

      أشكرك أستاذي على مقالك الشيق واضح تحاملك على القارئ الذي سميته رديئًا و هل لك حق فهو ينطلق من ما يتبناه من فكر وعقيدة ورؤية فإن جاءت انتقاداته للكاتب فهي تُعبر عن فهمه ولابد أن يحترم الكاتبُ فهمَ القارئ

    • زائر 5 زائر 4 | 6:27 ص

      القاريء له ما له كما الكاتب

      صديقي زائر رقم 4 .. القاريء له ما له وعليه ما عليه شأنه في ذلك شأن الكاتب الذي له انحيازاته ومصالحه وفهمه للاشياء من حوله.. الفكرة الاساسية هي في التأكيد على ان الكتابة شيء جميل ينبغي الحفاوة به وتشجيع حملة الاقلام على الكتابة وليس ذم القرّاء وهجوهم.. تحياتي

    • زائر 2 | 2:00 ص

      سلمت يمناك

      أستغرب أكثر من أولئك الذين يضعون عمرا محددا للقراءة، فالطفل لا يجب أن يقرأ و الشيخ الكبير تعب من الحياة فلا يجب أن يقرأ أيضا
      بينما القراءة كإسير الحياة، تغذي الطفل وتنميه و ترجع الشيخ كهلا.

    • زائر 1 | 1:16 ص

      هذا ما أراه

      ان مقالاتك يا اخ وسام تحتوي على كم هائل من المعلومات المفيده والنافعة. بوركت وبارك الله في قلمك

    • زائر 3 زائر 1 | 4:49 ص

      الشكر لك

      الشكر لك صديقي ..اعتز برأيك

اقرأ ايضاً