العدد 4602 - الإثنين 13 أبريل 2015م الموافق 23 جمادى الآخرة 1436هـ

محمد بحر العلوم... الرحيل والآمال الباقية

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

لي بالنجف الأشرف غرامٌ أصيل وصداقةٌ مؤكدة، وقد أحببتها قبل أن أراها بعشرين عاماً، وكنت خلال هذه العشرين أقرأها في الكتب وأتابع شئونها: تاريخها وسير أعلامها، بيوتاتها العلمية وحوزاتها وأساتذتها العظام، شعرها الكثير وأدبها المجهول وحتى طرائفها التي حجبتها عنا سنوات البعث العبوسة. وكان أكثر الكتب التي شدّتني إليها شدّ الطالب المريد لشيخ طريقته كتاب الأديب النجفي جعفر الخليلي (ت 1980) الذي قرأت كتابه «هكذا عرفتهم» ذا الأجزاء الستة وأنا على مدارج الدراسة الثانوية، فتعمّق بذلك ولعي بهذه البقعة المباركة من بلد السواد، وزاد كلفي بها، وسحرتني أجواؤها العلمية وأماسيها الأدبية التي كان المعمّمون وغيرهم، شباباً وشيوخاً، يقضونها بالمعارضات الشعرية متحلقين حول السماور تلفّهم جدران تغطيها كتب عتيقة صُفّت بتأن.

واليوم... برحيل ابن النجف الأشرف، عميد أسرة آل بحر العلوم، السيد محمد بحر العلوم (1927– 2015) الذي طالته المنية الثلاثاء الماضي (7 أبريل/ نيسان 2015) تكون هذه المدينة العريقة، والعراق الجديد، قد فقدت رمزاً إصلاحياً من رموزه الدينية والوطنية.

وأسرة آل بحر العلوم، أسرة علمية ارتبط بها هذا اللقب في القرن الثامن عشر الميلادي في عصر السيد محمد مهدي الطباطبائي، الذي كان له الدور الفاعل في حركة النهوض العلمي في النجف الأشرف من العام 1756 حتى لقّب بـ «بحر العلوم»، وقد حملت أسرته من بعده راية العلم والفكر والأدب حتى يومنا هذا.

ولقد التقيت بالسيد بحر العلوم عندما زار مملكة البحرين في فبراير/ شباط 2004، عندما كان عضواً بمجلس الحكم الانتقالي وعضو هيئة الرئاسة فيه، وقد وجدته كما قرأت له وعنه، عراقياً يبحث عن حريته واستقلاله، مستقيماً وواضحاً ومتعدلاً، دافئاً وذا بصيرة نافذة، أنضجته التجارب وغرس المهجر الطويل نصله القاسي في ناحية طرية من قلبه المتعب؛ فليس سهلاً أن تبقى 35 عاماً غريباً في تيه المنافي بين الكويت ولبنان وسورية ومصر وإيران، ثم الاستقرار الأطول في لندن، يطاردك شبح الموت، ويطلب رأسك نظامٌ عُرف بشراسته ويده التي اعتادت البطش واستهداف المناوئين وتصفيتهم جسدياً.

رحت أترصد ملامحه الوقورة وهو يتحدّث في لقاء جمعنا ساعةً كاملةً انقضت سريعة، وطافت في خاطري أشياء تتعلق بمفارقات الأقدار، فمن أجلس بجانبه - عملياً - هو رئيس العراق الجديد الذي كان صدام حسين قد أصدر حكماً بإعدامه، فيما الأخير مطلوبٌ فارٌ من وجه العدالة بالأمس، سجيناً ينتظر المحاكمة اليوم بعد أن عاش مختبئاً لسبعة أشهر في جحر بائس، وتلك حكمة التاريخ.

ورغم سنوات الاغتراب الطويل تلك، ظلّ السيد بحر العلوم شعلةً من النشاط أينما حلّ، يقرأ ويكتب، يدّرس ويحاضر، ويعمل على كافة الأصعدة الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية والحقوقية، حتى تحوّل إلى مظلة أبوية راعية للعراقيين المغتربين في المهجر، وتوفر الحاضنة المتسامحة التي يجتمع عليها الفرقاء بمختلف انتماءاتهم السياسية والفكرية. هكذا أسس مركز أهل البيت الإسلامي في لندن العام 1980، كما أسس معهد الدراسات العربية والإسلامية، كما أسس منظمة الإغاثة العراقية لرعاية المهجرين واللاجئين العراقيين. وكان بحر العلوم في كل هذه الأدوار يستند على فكر مستنير، وطموح جسور، وإرادة صلبة تتحدى.

لقد كان من أوائل العلماء الذين تصدّوا للعمل السياسي مع السيد مرتضى العسكري (ت 2007) والسيد محمد باقر الصدر (اغتيل 1980) والسيد مهدي الحكيم (اغتيل 1988)، وبعد أن حُكم بالإعدام غيابياً في العام 1969 على خلفية نشاطه المناهض لحكم البعث غادر وطنه العراق.

ينتمي السيد بحر العلوم إلى جيل متميز لامع، ظهر في حوزة النجف قبل أكثر من نصف قرن، ضمّ نخبةً من رجال الدين الأدباء المثقفين المستنيرين. وفضلاً عن تكوينها الحوزوي التراثي في المعارف الإسلامية وعلوم اللغة العربية؛ تواصلت هذه المجموعة المثابرة من هذا الجيل مع الأدب الحديث، والكتب والدوريات الجديدة الصادرة في القاهرة وبيروت، وانفتحت على الصحف والمطبوعات العراقية في بغداد والنجف.

وكان لاعتدال مرجعية السيد محسن الحكيم (ت 1970) الأثرُ الكبير في تأمين غطاء للعلامة بحر العلوم وتيار الثقافة والأدب في حوزة النجف. كما إنهم كانوا محظوظين برعاية أبوية لأساتذة مبرزين كان منهم: الشيخ محمد رضا المظفر (ت 1963) والسيد محمد تقي الحكيم (ت 2002) اللذين عُرفا بتكوينهم التراثي العميق، وثقافتهم الحديثة، وحرصهم على إعادة بناء النظام التعليمي في الحوزة، وتأسيس منتدى النشر، وكلية الفقه، ورفد مقرراتها بالعلوم الإنسانية الحديثة.

في هذا الفضاء الحوزوي والأكاديمي والأدبي والثقافي نشأ وتكوّن بحرُ العلوم. وواصل تكوينه الأكاديمي في الدراسات العليا؛ الماجستير في جامعة طهران، والدكتوراه في جامعة القاهرة العام 1979. وشارك بفعاليةٍ في الحياة الأدبية العراقية، وكان عضواً مؤسّساً في جمعية الرابطة الأدبية في النجف الأشرف، وتدرج حتى أصبح رئيساً لها العام 1962 حتى مغادرته الوطن. وكان عضواً في اتحاد الأدباء العراقيين وشارك في الكثير من مؤتمراته.

اهتم هذا الجيل الواعد، الذي برز فيه بحر العلوم، بمطالعة ونشر نصوص أدبية، ومقالات متنوعة في النشرات والدوريات النجفية الخاصة، حين صدرت: البذرة، الأضواء، النجف، الإيمان وغيرها. كذلك انخرطت هذه الجماعة في فعاليات المنتديات الأدبية الثقافية النجفية، مثل جمعية منتدى النشر، جمعية الرابطة الأدبية، جمعية التحرير الثقافي، أسرة الأدب اليقظ... وغيرها.

وليس من المستغرب بعد ذلك أن نعرف أن له أكثر من 50 مؤلفاً في التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية والفقه الإسلامي والسياسة والأدب. وكان آخر كتاب طُبع له تحت عنوان «آفاق حضارية في النظرية السياسية في الاسلام»، وله تحت الطبع كتاب «لمحات من تاريخ الصراع السياسي في الإسلام»، كما صدر له ديوان شعر تحت عنوان «ديوان الغربة».

وكان من أبرز ما تركه بحر العلوم إلى جانب هذا التراث العلمي والنضالي؛ حلم حياته القديم (معهد العلمين) الذي يسعى لتأهيل خبراء في علوم السياسة والقانون والإدارة، إيماناً منه بأن النهوض بتأسيس دولة حديثة في العراق، يتطلب خبرات مهنية تستوعب المعارف الجديدة في بناء وإدارة الدولة.

رحل بحر العلوم والعراق لم يشف تماماً. قسوة الأقدار جعلت من بغداد الحضارة العريقة والمجد المسربل بالألم تعاني من ظلمتين: جحيم تحاول الهرب منه وحاضر أليم تصارع من أجل الخلاص منه، ويبقى الحلم الذي ظل يتمسك به العراقيون لأكثر من نصف قرن - ومعهم بحر العلوم - مشروعاً للمستقبل والأمل الباقي.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 4602 - الإثنين 13 أبريل 2015م الموافق 23 جمادى الآخرة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 9:13 ص

      رحم الله سيدنا محمد بحر العلوم

      وشكر جزيل موصول للكاتب الفاضل الأخ وسام على مقالاته المفيدة ولقد ذكرتني بالنجف الأشرف التي سكنت فيها. ...

    • زائر 1 | 5:11 ص

      رحم الله السيد

      محمد بحر العلوم و كان ظريفا صاحب نكتة كنا نحضر مجالسه نحن العراقيين في سورية ثمانينات القرن الماضي فكانت تخفف عنا هموم الغربة . كان كثير الصمت يؤمن بان الصمت حكمة لا يجيب الا بقدر السؤال لانه يعرف ان الاطالة مملة و تبعد السائل عن المعرفة و تنفره .

اقرأ ايضاً