العدد 4623 - الإثنين 04 مايو 2015م الموافق 15 رجب 1436هـ

المنظّرون الداعشيون الثلاثة وتجفيف منابع الإرهاب

رضي السماك

كاتب بحريني

نشرت صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية في عددها الصادر في 23 فبراير/ شباط الماضي، بحثاً تحليلياً للباحث المصري المتخصص في الحركات الأصولية هاني نسيرة تحت عنوان «المثلث الشرعي لداعش: البنعلي الشنقيطي الأزدي»، يعلوه عنوان فرعي: «الجيل الثالث من مشرعي الفظاعة تغلب عليه حداثة السن». ويكتسب هذا البحث أهميته كونه يتناول بالأسماء أبرز ثلاثة عناصر قيادية مُنظّرة خطيرة في هذا التنظيم الإرهابي الذي بات يشغل العالم أجمع ويملأ وسائله الإعلامية.

فمن يضع يده على موطن الداء يمكنه أن يحدد الدواء، بل والأهم أن يحصّن الشباب الغر في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ويقوّي مناعتهم الثقافية مسبقاً من عدوى هذه الأفكار الفتاكة، وذلك من خلال ما اعتادت وسائل الإعلام والثقافة العربية السائدة على تسميته «تجفيف الينابيع»، من دون أن يكون لهذا التجفيف أثر ملموس رغم مضي ثلاثة عقود على إطلاق هذا المصطلح وترصيعه بكل ديباجات وقرارات المؤتمرات والندوات والملتقيات والورش والدراسات التي عُقدت جميعها تحت عنوان «مكافحة الارهاب»، فيما كثير من الأطراف العربية الرسمية ضالعةٌ في صنع وحفر ينابيعه إعلاماً وتعليماً، دع عنك دعمها الحركات والمجموعات التي ترتوي منها.

يدرج الباحث السيرة الحركية، أو الترجمة الشخصية كما يسميها، لكل من المنظّرين الثلاثة، فيبين بإيجاز ظروف انتماء كل منهم إلى القاعدة أو النصرة وصولاً لـ «داعش»، ويعرض إسهاماتهم «الفكرية الفقهية» المضللة التي يمكننا القول إنها براقة العناوين بسجعها وأوزان جناسها التي هي على شاكلة مؤلفات أئمة السلف الأوائل في الفقه واللغة، بما يجعلها سهلة الانطلاء على الشباب الغُر غير المحصنين جيداً بصحيح الدين السمح والثقافة الإنسانية المعاصرة. وفي هذا السياق يفرد الباحث لإنجازات المنظّر الأول التأليفية (البنعلي) حيّزاً كبيراً من بحثه يبلغ ضعفي ما أفرده للثاني (أحمد الشنقيطي) والثالث (أبو الأحسن الأزدي). وتتوزع تلك الإنجازات بين رسائل وكتب اُلفت للترويج للفكر الداعشي المفرط في الغلو والتطرف وكراهية الآخر واستباحة دمه وعرضه وماله ونسائه وأطفاله، تحت مسوّغات فقهية مجتزئة أو مبتسرة من سياقاتها الشرعية الأصلية، ناهيك عن إيرادها بمعزلٍ عن الظروف الزمانية والمكانية والأوضاع والحالات التي يستوجب تطبيقها، وبين الرد على خصومهم الفكريين من الجماعات الأخرى الإرهابية المنشقة عن القاعدة أو الانقلاب على بعضهم بعدما كانوا نبراساً وقدوةً لهم.

وحسب الباحث نسيرة، فإن كُتيّبات ورسائل أولئك المنظّرين الثلاثة، أو كما يصفهم «المثلث الشرعي لداعش»، انصبت على تشريع خلافة أبي بكر البغدادي وصحتها، وشرعية تنظيمه وبيعته معاً، وتغلب عليهم جميعاً المحاججة والتبرير الايدولوجي للتنظيم. كما يشير أيضاً إلى أن كتاباتهم ما هي إلا ردود وسجالات لتبرير «الفظاعة» أكثر مما هي اسهاماتٌ في التنظير الفقهي المعمق. وإذ يصف «داعش» بالتنظيم المنكمش نظرياً، فإن ذلك كله لا يشكل البتة إشكالية للمثقف أو الإنسان السوي ذي الخبرة والملكة العقلية الرصينة والقدرة على التمييز بين الغث والسمين، ومن ثم اكتساب المناعة في صد مثل هذه الجراثيم الفكرية الفتاكة، بقدر ما تشكّل من خطورة على العقول الشابة الغضة التي يمكن حشوها بسهولة بتلك السفاسف «الفقهية» الضارة بما تنطوي عليه من تجويز وترغيب، من خلال اجتثاث الآخر المختلف مع آرائهم، كائناً من كان هذا الآخر، ليس اجتثاثاً فكرياً أو دينياً بل وبكل ما للاجتثاث من معنى حرفي.

صحيح أن الثلاثة، كما وصفهم الباحث تغلب عليهم حداثة السن نسبياً، والتصلب في الرأي، وتقديم المصلحة على السياسة الشرعية، والشدة على الخصوم اتهاماً وتفسيقاً وإخراجاً بما يتماهى مع ممارسات تنظيمهم، إلا أن من الصحيح أيضاً أن هذا التنظيم هو تنظيم ضارب بالغ الخطورة ليس على صعيد العمليات القتالية والإرهابية فحسب، بل الأخطر من ذلك على صعيد ما يملكه من قدرات فريدة في استدراج مجاميع شبابية عربية وإسلامية غير قليلة لإيقاعها في حبائله الفكرية، وبما يعزل هؤلاء الفتية والشباب ويحصنهم تحصيناً فولاذياً عن أي تراجع ذاتي عن الفكر المشوّه الذي تم حقنهم به، ومن ثم يعزلهم تماماً عن أية مؤثرات لعالمنا المعاصر بكل تلاوين أفكاره وثقافاته ودياناته ومذاهبه. بحيث يبدأ فهم الإسلام وينتهي بما يفتوون هم به أو خليفتهم، ككلام لا يأتيه الباطل من خلفه أو بين يديه، ومن يقول بخلاف ذلك يعتبرونه مرتداً أو كافراً يُحل جز رقبته. حتى امتدت قدراته حتى لإغواء الشباب من البلدان الأوروبية الديمقراطية، سواءً ممن ينحدرون من أصول شرقية أو من الأوروبيين أنفسهم.

وهنا بالضبط نصل إلى مربط الفرس في انتصاب المهام الآنية الملحة لكيفية وشروط تجفيف مثل منابع الأفكار الإرهابية وانتشارها الخطير في مجتمعاتنا العربية، فبهذا التجفيف وحده نغادر الحالة الكارثية الذي ابتُليت بها مجتمعاتنا، لكن هذه الشروط تتطلب تحولات جذرية ما فتئت معظم الأنظمة العربية تناور حولها عاجزةً عن المقاربة الصريحة، لأنها لا تملك إرادة حقيقية جادة لإجرائها، وذلك لمراهنتها على الحلول الأمنية وليس سواها، حيث تخشى الإصلاحات الديمقراطية الحقيقية الشاملة لا الشكلية، والتي تقتضي تجديد أو إعادة بناء أجهزة الدولة التي نخرها الفساد نخراً، على الرغم من أن هذه الإصلاحات هي وحدها الكفيلة بتجفيف ينابيع الإرهاب الذي لا تتكون جماعاته وتنظيماته السرية إلا في أجواء مثل تلك المجتمعات الشمولية المغلقة التي تُصادر حرية التعبير وسائر الحريات العامة وكل أشكال الجدل المجتمعي الحر في الهواء الصحي الطلق، من دون حظر أو وصاية أو تضييق. ومثل هذه المجتمعات هي أفضل المجتمعات مناخاً وتربةً لتفقس تلك التنظيمات والجماعات وتمددها ونموها السرطاني الخطير المدمر.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 4623 - الإثنين 04 مايو 2015م الموافق 15 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 11:45 م

      حساسية أو خوف

      الموضوع ممتاز من حيث الأهمية والطرح ومن حيث إن الكاتب لم يتفرد برأيه؛ بل جمع لرأيه رأيا صائبا، غير أن الحل الأمثل لما تقوله الصحافة او الإعلام تجفيف، قضاء، محاربة.. كلها مسميات أو مفاهيم عائمة لم تزل تحوم حول الحمى ولا تكاد تلامس الواقع بشيء يذكر.. في البحرين يقتل الأطفال لأنهم تظاهروا فقط.. اما الأرهابي الخطير فتراه يتجول في أهم الأماكن وأخطرها على الوطن ولا من معير.. فشكرا لكاتبانا العزيز المخضرم السماك..

اقرأ ايضاً