العدد 4676 - الجمعة 26 يونيو 2015م الموافق 09 رمضان 1436هـ

أهلاً يا مولانا

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

للصالونات الأدبية تاريخ عريق، منذ زمن وَلاّدة بنت المستكفي في الأندلس وحتى قبل عقود قليلة، في مصر والشام والعراق. ومن أشهر تلك الصالونات التي ترتبط في الذاكرة العربية برباط عذب، مُبْتلٍّ بندى أسماء شاعرية رفيعة، هو صالون مي زيادة في القاهرة. فلقد كانت مي أديبة تهافت على صالونها كبار المفكرين والأدباء كالإمام محمد عبده، وأحمد لطفي السيد، ومصطفى صادق الرافعي، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، وغيرهم من الأسماء اللامعة في ذاكرتنا العربية.

واستمر صالونها طيلة ربع قرن، عاصر خلالها أزمات سياسية، ونشوء حركات اجتماعية وفكرية، وكان يوم الثلاثاء في القاهرة هو يوم مي زيادة. ومن أجمل ما قيل فيه قول الشاعر إسماعيل صبري:

روحي على بعض دور الحي حائمة

كظامئ الطير تواقاً إلى الماءِ

إن لم أُمتّع بِمَيٍّ ناظري غداً

لا كان صُبحُكَ يا يومَ الثلاثاءِ

وإلى جانب صالون مي كان صالون العقّاد، الذي كان أشبه بكلية للآداب والمعارف الإنسانية. كتب عنه الراحل أنيس منصور كتاباً سمّاه «في صالون العقّاد كانت لنا أيام» يحمل القارئ في آلة زمن عبر ذكريات ومحطات جميلة، يبدؤها منصور بجملة لطيفة تصف الفرق بينه وبين أستاذه فيقول: «أنا صاحب قلب، وهو صاحب عقل. أنا أتنقل وهو يتقدّم. أنا أنبهر وهو يضيء. أنا أتغنى وهو يخطب... كنتُ أمسكُ في يدي شمعةً، أما هو فيمسك النجوم والشموس في يديه».

وكان الناس يجتمعون عنده صباح كل جمعة وحتى الثانية ظهراً، وكلما دخل الصالون ضيفٌ قام إليه العقاد «بالبيجاما والطاقية والكوفية» -هكذا يصفه أنيس منصور- ليحييه، صغيراً كان أم كبيراً، قائلاً له: «أهلاً يا مولانا»، فلا يعرف الزائر كيف يردّ على هذا الاستقبال اللطيف إلا بالفرح. ثم يجيء الليمون والقهوة، ويبدأ الحضور بالحديث والأستاذ، أي العقاد، يحاورهم أو يحدّثهم، أو يقوم ليردّ على الهاتف، أو ينزوي جانباً مع أحد الضيوف ليتحدّث معه في أمرٍ ما. ثم يصف أنيس منصور ثقافة العقاد بجملةٍ باذخةٍ في الجمال: «وكان التاريخ والأدب والفن والفلسفة والسياسة والنكتة كلها أصابع بيانو يلعب عليها معاً في وقت واحد».

عندما أقرأ عن الصالونات الأدبية في الشرق والغرب أتساءل: لماذا غابت هذه العادة الجميلة من مجتمعاتنا؟ أعرف أن «السوشيال ميديا» وانشغال الناس بحياتهم وأعمالهم لهما دور كبير في غياب هذه اللقاءات الأدبية، ولكن لوجود هذه المُلهيات الكثيرة نحتاج لعودة الصالونات بيننا. ففي تلك التجمعات تتشكل ذائقة المجتمع، وتتبلور ثقافته، ويتحسس المثقفون والكتاب والفنانون أوضاع المجتمع الفكرية والاجتماعية، فينزلون من أبراجهم العاجية، ويتفاعلون معها، كُلٌّ بما تجود به صَنْعَتُه.

لو فكّرتَ يوماً أن تذهب إلى مكان في مدينتك للاستفادة المعرفية، فأين ستذهب؟ وإذا أردت أن تسمع شعراً، أو تناقش فكرةً، أو تشارك في نقد كتاب، أو تسأل عن حركةٍ فنيّةٍ ما، فأين ستذهب؟ مع من ستتحاور؟ وإذا أردت أن تجلس فقط، دون أن تقول شيئاً، تستمع وتنبهر وتبتسم وتفكّر، فأين ستذهب؟

عندما أرسلت الدولة العثمانية سفيرها سليمان آغا، إلى فرنسا في العام 1669 حمل معه كميات كبيرة من القهوة، وكان يصنعها لزوّاره في بيته في باريس كل يوم، في جو شرقي غائرٍ في العذوبة والشجن، فبدأت القهوة بالانتشار هناك، وكان المثقفون والفنانون يفدون عليه ليتذوّقوا ذلك المشروب العجائبي، وليُبحروا في عوالم الثقافة، فصار بيته أشبه ببلاط ملكي ولكن للآداب والفنون. وبعد أن أصبحت القهوة شراباً شهيراً في حياة الفرنسيين، افتُتِحت المقاهي التي كانت مجمعات لثنائي عجيب: القهوة والأدب. وافتُتِحَ أشهر المقاهي الثقافية في أوروبا، مقهى «بروكوب»، في العام 1689 الذي مازال قائماً حتى اليوم في أحد أحياء باريس. حيث كان يرتاده روّاد التنوير الأوروبي، كفولتير وروسّو وديدرو، ومن بعدهم فيكتور هيوغو وأوسكار وايلد وغيرهم، حتى وصف المؤرخ الفرنسي الشهير جول ميشيليه ذلك المشهد بقوله: «لقد صارت باريس كلها مقهىً رَحْباً». ولا شكّ أن حضور فلاسفة التنوير واختلاطهم بالناس كان له أثر بالغ في الارتقاء بالذائقة الشعبية للمجتمع في ذلك الزمن.

يقول أنيس منصور إنهم عندما كانوا يمشون في الشارع المؤدّي إلى مصر الجديدة، حيث صالون العقاد، كانت الأعلام مرفوعةً فوق ثكنات الجيش والمؤسسات الحكومية، فكانوا يشعرون بأن تلك الأعلام مرفوعةٌ من أجلهم؛ لأنهم يتردّدون على بيت العقاد، فليس بعد ذلك شرفٌ لأحد من الناس. ثم يختم الكتاب مُقارناً بين جيله وبين مايكل أنجلو الذي قال عن نفسه إنه لا يصنع شيئاً عندما ينحت وإنما يكشف عن التمثال المدفون في الحجر، وكذلك كان جيل أنيس منصور من الكتاب والأدباء... يكتبون ليكشفوا عن العقاد المدفون بداخلهم.

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 4676 - الجمعة 26 يونيو 2015م الموافق 09 رمضان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 7:22 ص

      خوش مقال ممزوج بالقهوة ..

      التي نعشقها

    • زائر 4 | 2:20 ص

      خوش مقال!

      استاذ حارب .. مقالاتك تنمّ عن شفافية عذبة و ذائقة راقية .. وربما اصبح مقالك اليوم هو ملطّف الجو الذي هدّأ اعصابنا من بعد قراءة كثرة الأخبار والمقالات الجافة والحزينة و المضجرة ..
      الف تحية ..

    • زائر 3 | 2:15 ص

      انه الفن والتسامح واتساع الأفق

      عندما تتمشي في شوارع قرطبة القديمة وتمر على قبر ابن زيدون تجد الأبيات التالية لولادة بنت المستكفي منحوته على رخام قبره ،،أغار عليك من عيني ومني ....ومنك ومن زمانك والمكان ولو أني خبأتك في عيوني ....إلى يوم القيامة ما كفاني ، نفحة الجمال تلك كانت ايام الانفتاح الحضاري . المجالس الأدبية تنشأ وتزدهر عندما النفوس هادئة ومستقرة و منفتحة على الاخر

    • زائر 2 | 1:59 ص

      تحياتي للكاتب العزيز

      حبذا لو تطلعنا على نماذج مما كتبه رواد النهضه في اوربا لان ليس الكل مطلع او لديه الوقت لقراءه كتب هؤلاء مع الشكر الجزيل

    • زائر 1 | 11:54 م

      جميل جدا

      اكثر وربك مثل هذه المواضيع..بارك الله فيك

اقرأ ايضاً