العدد 47 - الثلثاء 22 أكتوبر 2002م الموافق 15 شعبان 1423هـ

ذاكرتنا القصيرة... هل تسعفنا لحماية الديمقراطية؟

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

لم يبرع البحرينيون في كتابة الرواية مثلما برعوا في القصة القصيرة والشعر. ان الروايات البحرينية التي تعد على اصابع اليد مؤشر اول على هذا النقص. وعلى رغم ان غالبية هذه الروايات المحدودة تمتاز بتكثيف بارع للحوادث المرتبطة بشخوصها، إلا ان الزمن في هذه الروايات ليس ممتدا الى ما هو اكثر من بضع سنين. وهي بهذا ماتزال اسيرة تقنيات القصة القصيرة ذات اللحظة المكثفة المقتطعة من زمن اكبر ممتد وتميل إلى التجريد كما هو الشعر.

الرواية نتاج ثلاثة عناصر اساسية: الوثيقة، الذاكرة والمخيلة مثلما يرى الكاتب والقاص امين صالح، وبفقدان اي من هذه العناصر الثلاثة يصعب انجاز رواية ممتدة زمنيا وذات كثافة في الشخوص والعوالم الداخلية والحوادث والمخيلة حتى لو امتلكت امتيازا ما في اللغة والتقنيات.

غياب الوثيقة، تعبير عن النقص الفادح في حركة التأريخ. ان كتب التأريخ نادرة ولم تتدفق الا في السنوات الثلاث او الاربع الاخيرة وهي مازالت دون ان تؤسس لحركة تأريخ تجلو الكثير من صفحات تاريخنا الطويل. غير ان اشكالية التأريخ اشكالية سياسية بالدرجة الاولى، فالبحث في التاريخ وتوثيقة والكتابة فيه يبقى مرهونا بدرجة التسامح السائدة في اي وقت لأن قراءة التاريخ اشكالية مستمرة ومتجددة وهي اشكالية ملازمة للتأزم السياسي.

إن للمكان دوره الواضح ايضا، على رغم ان الامر هنا ينطوي على مفارقة عندما تدفع جغرافية الجزيرة الى الانفتاح على الآخر، لكنها لا تسعف اهلها في القدرة على معرفة الآخر جيدا ولا في توسيع الذاكرة الجغرافية بشكل حيوي بكل ما يعنيه ذلك من تراكم حصيلة معرفية.

ان ذهنية الجزيرة والبحر المفتوح تخلق دوافع مغامرة وهو ما أثمر لدينا سفنا وربابنة مهرة وتجارا، لكن الشخصية البحرينية ماتزال ثمرة مجتمع صغير بامتياز. وهي بهذا التشخيص تحيلنا على التأثير الواضح للجغرافيا مثلما يرى ادوارد سعيد في كتابه «الثقافة والامبريالية» عندما يربط ازدهار الرواية بالتوسع الامبريالي الذي اعطى الاوربيين ذاكرة جغرافية ممتدة ومفتوحة شرقا وغربا. وهو التفسير نفسه الذي يقدمه ف.ف.كوزينوف الذي يؤكد ان «الرواية لم تتكون قبل القرن الثامن عشر» في الفصل المعنون «الرواية ملحمة العصر الحديث» من كتاب «نظرية الادب» الذي اصدرته وزارة الثقافة العراقية العام 1980 مترجما عن مجموعة من الباحثين السوفيات.

على هذا، فان الذاكرة الجغرافية المحدودة كعنصر طبيعي واشكالية التأريخ باعتبارها عنصرا طارئا لأوضاع سياسية، أثمر بالنهاية ذاكرة وذهنية بحرينية تفتقد للامتداد بمعناه الحيوي بما فيه من تفاعل مع فضاء جغرافي اوسع وتراكم المعرفة وتحولها وصيرورة بناء وتطور مستمر من الابسط الى المركب الى الاكثر تعقيدا. وتبقى المفارقة قائمة عندما نجد اننا نحن ابناء هذه الجزر الجميلة المنفتحون على العالم بكل ما فيه مازلنا في مجمل حركتنا الداخلية نصدر عن ذاكرة غير ممتدة تميل إلى التبسيط.

يقال انه للحكم على شعب ما، ينبغي النظر الى فنونه وآدابه، ويمكن ان نضيف صناعاته ايضا. ويبدو افتقادنا للرواية كشكل ادبي مركب وبالغ التطور - والسينما ايضا باعتبارها رواية بصرية - مؤشر أول لشخصية تتسم بالتبسيط يضيف اليها افتقاد صناعاتنا الحرفية الى الزخارف المركبة والاشكال الهندسية المتكررة والمتوالية تأكيدا آخر لهذه البساطة.

هذه الذهنية والذاكرة المحدودة والتبسيط الذي تنطوي عليه شخصياتنا، هي نفسها التي تدفعنا دوما للتعامل مع قضايانا السياسية بمنطلقات آنية وراهنة ونفس يميل احيانا إلى التهافت واختزال الجدل دوما الى ابيض واسود، مع او ضد.

وعلى الرغم من ان الاختزال والفرز امر لا يمكن تفاديه في الحياة السياسية وسمة ملازمة للتعددية السياسية والاحتكام الى صناديق الاقتراع، فإن مجمل الجدل السياسي الذي ينشغل به البحرينيون منذ شهور مازال يعبر في اكثر من وجه عن هذا الطابع الآني والذهنية التي ماتزال غير قادرة على النظر الى ما خلف اي مشهد راهن الى ما هو ابعد من ذلك المشهد. وهي بدوافعها الآنية، تطرح القضايا والآراء والاجتهادات دوما على نحو نهائي غير قابل للمراجعة وتبقى اسيرة اللحظة بكل معاني الكلمة. وهي بهذا، تلج كل مرحلة جديدة بدافع متكرر دوما هو رد الفعل لانها لا تتمتع بأي حس مبادرة يمكن ان تعكسه في قدرتها على وضع اي تصور للمستقبل او ما يتعين عمله في المستقبل.

وفي مقاله المعنون «التطرف السياسي في البحرين وجذوره»، يلحظ الكاتب عبدالله خليفة اننا «... بلانهضة ثقافية طويلة وهي التي تعتمد على ظروف اجتماعية ملائمة كانتشار الصحافة والجمعيات الفكرية والتيارات السياسية المتجذرة، وغالبا ما تكون النهضة الفكرية - السياسية المشتركة عشر سنوات كمعدل عام». (اخبار الخليج - 7 اكتوبر 2002).

حال الانقطاع في النهضة الفكرية - السياسية المشتركة والتي لا تستمر اكثر من عشر سنوات، ربما تقدم لنا تفسيرا لهذا الاختلاط الهائل في المفاهيم والمسميات والتداخل بين الوطني والطائفي جراء حال التشظي التي لحقت بالهوية الوطنية الجامعة للبحرينيين لحساب هويات اصغر واكثر ضيقا، هويات طائفية وقبلية وعرقية. فالذهنية التي تتسم بقدر كبير من التعجل واللهاث، لا تحسن النظر الى المستقبل ولا تملك الصبر، هي تتحمل نصيبا وافرا من المسئولية عن عدم وجود خيط متصل من النهضة الثقافية والسياسية لأن «كل موجة تخرب سابقتها» مثلما يرى خليفة في المقال نفسه.

ومع هذا يمكننا النظر بشيء من الترفق لهذا الطابع الآني للجدل الدائر منذ فترة ولقصر النظر احيانا الممزوج بشيء من التهافت في تحليل المواقف وخلفياتها، لأن الكثير من المنغمسين في هذا الجدل ينسون الطابع الانتقالي للمرحلة التي نعيشها اليوم في البحرين. فالقلق وعدم اليقين واختلاط المقاييس وحتى نفاذ الصبر احيانا هي من سمات المراحل الانتقالية. على هذا فإن هذا الطابع الآني والمتعجل في التعاطي مع قضايانا في مقابل السعي الذي مازال في أوله لتأسيس مجتمع يقوم على التعددية السياسية والحريات والمشاركة، يعد مؤشرا لافتا على ذهنية ماتزال تتعاطى مع قضاياها برؤية محدودة.

ولأن الديمقراطية «لا تولد كائنا كاملا في أية ارضية اجتماعية بل انها لا تبلغ الكمال ابدا... فكل جيل يضيف اليها من تجاربه فيعلو البناء طبقة فوق اخرى» مثلما يرى الدكتور محمد جابر الانصاري (الايام - 7 سبتمبر/ ايلول 2002)، فإن الصبر والمثابرة يبدوان هما الخصلة المفقودة، تماما مثلما يرى عبدالله خليفة في مقاله المشار اليه آنفا ان حالات الانقطاع الفكري - السياسي وحلول التعميمات الطبقية محل التعميمات القوموية والشعارات الطائفية مكان الطبقية ناتج عن «اشكال من وعي واحد لفئات برجوازية صغيرة فاقدة للوعي الفكري الوطني العميق والصبر الاقتصادي والسياسي».

ان الانصاري وخليفة محقان تماما فيما يخص افتقادنا للصبر، وفقدانه سمة اخرى للذهنية الراهنة والآنية والشخصية التي تميل إلى التبسيط. وبترفق اكثر لربما كان ذلك سمة المراحل الانتقالية المرادفة دوما للقلق، غير ان خصلة الصبر ليست سوى المقابل الآخر للمستقبل، ومن يملك الصبر ويتمثله، هو ذلك الذي امعن النظر مليا في المستقبل وحدد اهدافا ما يعمل من اجلها ولبلوغها في المستقبل.

وفي نهاية المطاف، إن افتقاد ادبائنا (وهم كتاب رائعون على اية حال) للنفس الطويل والمثابرة لإنجاز عمل روائي كلاسيكي، سيعكس نفسه بشكل آخر في الكم الهائل من المقالات التي تعج بها صحافتنا المحلية منذ اكثر من عام ونصف. ينتابني القلق واحيانا شيء من الفزع عندما لا اجد في هذه الغالبية العظمى من هذه الكتابات اي حديث او اشارة او تساؤل عن المستقبل. ان هذا الالحاح على الانغماس في الراهن والقضايا الوقتية يفزعني لأنه مؤشر على فقدان خصلة الصبر، وهو مفزع ايضا عندما يغيب عنا ونحن في مرحلة انتقالية ان حماية الديمقراطية وترسيخها بعد ميراث اكثر من عقدين من غياب المشاركة والتأزم السياسي، تتطلب اعادة صياغة شاملة للكثير من المفاهيم التي اختلطت وتلك التي لحقها التخريب والتشظي وهي مهمة اكبر واكثر شمولا من ان تعالج بمثل هذا النفس اللاهث والمتعجل وتتطلب شيئا من الصبر وبعد النظر.

حسنا، اليكم بعض الامثلة: الهوية الوطنية الجامعة للبحرينيين في مقابل التشظي الذي لحق بها طيلة العقدين الاخيرين من القرن العشرين المنصرم...؟ كيفية التعامل مع اعباء الماضي التي ماتزال تثقل كاهلنا وهو سؤال يفرضه الطابع الانتقالي للمرحلة؟... آفاق الاصلاحات؟ متى تصبح الاصلاحات برنامجا مكتمل الملامح ومنهجا معمما في الاجهزة الرسمية؟ الاصلاح الاقتصادي وتحسين مستويات المعيشة، هل هو مسئولية الحكومة فقط؟. اختم هذه التساؤلات بسؤال اخير: كيف نحمي الديمقراطية والحريات؟ بالحس السياسي ام بالحس القانوني أم بمزيج من الاثنين، أم بالايدلوجيا والمقولات الحصرية؟ ام بذاكرة مثقلة من التاريخ؟

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 47 - الثلثاء 22 أكتوبر 2002م الموافق 15 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً