العدد 4727 - الأحد 16 أغسطس 2015م الموافق 02 ذي القعدة 1436هـ

عيسى بن محمد... شاهد على عصره

رضي السماك

كاتب بحريني

لعل الفقيد الراحل الذي غادر دنيانا قبل أيام الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة والذي تولى حقيبتي وزارة العدل ثم العمل والشئون الاجتماعية خلال العقد الأول من استقلال البحرين هو الوحيد من وزراء البلاد الراحلين الذين حرصوا على كتابة مذكراتهم، إن لم تكن كاملة فعلى الأقل تشكل سطوراً مهمة منها، وهذا ما وثقه الأخ هشام عبدالوهاب الشيخ في المجلد الأنيق الذي أعده تحت عنوان: «عيسى بن محمد... قصة نجاح» والذي صدر قبل أربع سنوات من رحيل الفقيد وخصني رحمه الله بنسخة منه. إن رحيل أي شخصية مؤثرة لعبت دوراً مهماً في حياة وطنها دون أن تترك ولو سطوراً من مذكراتها لهو خسارة لا تُعوض مصدر مهم من مصادر تدوين تاريخ البلاد.

ربطتني بالراحل علاقة عمل أثناء توليه وزارة العمل والشئون الاجتماعية في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي والتي أعتبرتها، كما جاء في مقال لي ضمه المجلد المذكور، من أخصب فترات هذه الوزارة بالنظر لما تحقق تحت قيادته من انجازات، ومما قلته في المقال أيضاً: «لعل أبرزها انضمام البحرين الى منظمة العمل العربية وإلى منظمة العمل الدولية العام 1977، واستطاعت الوزارة أن تتغلب على التخوف من عدم قبولها في هذه المنظمة الأخيرة المعروفة باشتراطاتها المتشددة في مدى صحة تمثيل أطراف الانتاج الثلاثة: الحكومات، وأرباب العمل، والعمال. وعلى الأخص التمثيل العمالي لما هو معروف بعدم وجود نقابات بحرينية علنية مشروعة حينئذٍ». وما كان لهذين الانجازين أن يتحققا بسلاسة وبسرعة قياسية لولا حرص الوزير الراحل منذ توليه حقيبة وزارة العمل العام 1975 على الالتزام، ولو بالحدود الدنيا التي لا يستطيع أحد انكارها، في جعل معيار الكفاءة من المعايير الاساسية لاختيار وضم الكوادرالمؤهلة في تولي وظائف ومناصب الوزارة العليا. وبفضل هذه الخاصية ساهم الجهاز الفني المختص والمتمثل على وجه التحديد في قسم العلاقات القانونية والدولية برئاسة مراقبه السابق الأخ كامل الصالح حينذاك، والمرحومة فاطمة البحراني، فضلاً عن مستشار الوزير عزت عبدالنبي في التحضير والإعداد للانضمام إلى تلكما المنظمتين بالدراسات والرؤى القانونية والدولية، وكان لكاتب هذه السطور شرف إعداد بعض تلك الدراسات. ومن آيات هذه الخاصية أن الوزارة خلال فترة توزره اياها كانت من اكثر الفترات خصباً في تمثيل ألوان الطيف لنسيجنا الوطني ببعديه الديني والتعددي السياسي، هذا، رغم اقتراب الفقيد المعروف والذي لا ينفيه من واحد من أكبر تيارات الاسلام السياسي العربي، ولذلك لم يجعل من وزارته حكراً على تيار بعينه. ومن هنا فقد تميز ذلك العصر الذهبي لوزارة العمل بتدني دور المتزلفين والوشاة للإيقاع بالصاحب بل وأقرب الاصحاب من زملائهم في العمل كواحدة من الوسائل الوضيعة للتسلق الإداري السريع إلى أعلى المراتب عوضاً عن تدني الكفاءة أو عدم الاختصاص الأكاديمي. وكنت شخصياً آنذاك وتحديداً سنة 1976 واحداً من اكبر دفعة جامعيين بحرينيين تم توظيفها فور تخرجهم، وبعدما يقرب من ثلاث سنوات من التحاقي بالوزارة عينني الفقيد الراحل رئيساً لقسم العلاقات الدولية، ورافقته بعدئذٍ في العديد من المؤتمرات العربية والدولية خلال توليه الوزارة والتي كان لي مع زملائي المعنيين شرف المساهمة في كتابة الدراسات والتحضير لموضوعات أجندتها، وحيث كان الراحل أيضاً من ابرز الوزراء المشاركين بفعالية في المساجلات المطروحة في تلك الموضوعات فضلاً عن الاقتراحات والمشاريع المقدمة باسم دولة البحرين في تلك المؤتمرات.

ومن الخصال الإدارية التي تميز به الراحل انفتاحه على الافكار والاقتراحات، بصدر رحب، فمع أنه كان بصفته وزيراً للعدل عضواً في برلمان 1973 شاهداً على واحدة من أشهر المعارك البرلمانية والتي دارت حول مشروع كتلة الشعب (يسار) لجعل أول مايو/ أيار من كل عام عيداً للعمال تُعطل فيه الشركات والدوائر الحكومية وحيث انتهت المعركة بإجهاض المشروع لاشتباه عدد من النواب بأن هذا العيد خاص بالدول «الشيوعية»، ويتناقض مع أعياد وتقاليد البلد الإسلامية، إلا أنه بعد حل البرلمان وتعيينه وزيراً للعمل تم عرض الاقتراح عليه مجدداً من قِبل اللجنة العمالية لإتاحة الفرصة لعمال البحرين للاحتفال بعيدهم ولو من دون إجازة، فإن الوزير الراحل تسلّم هذا الاقتراح بصدر مفتوح، وبعد تدارس وتشاور مستفيضين داخل وزارته تمكن من الحصول على موافقة القيادة السياسية عليه، ثم أمكن لاحقاً غداة اعلان المشروع الاصلاحي لجلالة الملك في اوائل العقد الفائت من جعل أول مايو واحداً من الأعياد الرسمية الذي تُعطل فيه المؤسسات الرسمية والخاصة على السواء.

ويكاد الراحل عيسى بن محمد أن يكون الوزير الوحيد الذي يُعفى من منصبه، بناء على طلبه، أياً كانت الأسباب التي حدت به إلى ذلك، في بلدٍ ظل على مدى ما يقرب من 45 عاماً منذ استقلاله لم يشهد وزيراً قدم استقالته طوعياً، بل تشبثاً بالكرسي ولو بالأسنان. ومن المزايا التي عاينتها في الراحل حُبه في كسر روتين العمل عن مرؤسيه المسئولين من خلال تعليقاته الطريفة المقتضبة على التقارير التي يحيلها عليهم. كما يُحسب للراحل تأسيسه لصحافة متميزة باسم الوزارة منفتحة على الرأي الآخر ولا تقتصر على البروباغندا الفجة، وهذا ما لمسته شخصياً من خلال المقالات المنشورة في مجلة «العمل» وهي في تقديري التجربة الصحافية الأنضج لمؤسسة رسمية منذ الاستقلال إلى يومنا هذا.

ولعل هذه الخاصية في الانفتاح على الرأي الآخر وعدم الضيق به ذرعاً أياً تكن شدة خلافه معه هي التي تفسر علاقاته وتعاطيه المنفتح مع رموز الوطن الإصلاحية، ومنهم على سبيل المثال العلامة المجاهد المرحوم الشيخ عبدالأمير الجمري أحد أبرز رموز الحركة الاصلاحية السلمية في تاريخنا المعاصر. بقي أن أشير هناك الى مواقف انسانية للراحل تتصل ببعض الظروف السياسية التي مررت بها ضمّنت الإشارة إليها في مقالي بالكتاب المجلد الخاص بحياة الراحل المشار إليه، ولا يتسع المقام في هذا الحيّز لإعادة ذكرها.

وإذ استعرضنا جوانب من مناقب الراحل فكم هو وطننا في أمسّ الحاجة وهو يمر بظروفه الراهنة إلى أمثاله أو من يستلهمون خصاله في تولي المسئولية... رحم الله أبامحمد وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه الصبر والسلوان.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 4727 - الأحد 16 أغسطس 2015م الموافق 02 ذي القعدة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 4:46 ص

      السنية

      ألف شكر للاخ العزيز رضي السماك ، مقالك رائع ، بروعة نفسيتك ، فالشيخ عيسى بن محمد من المخلصين لهذا البلد وانا اجزم اننا لن نرى شخص من العائلة الحاكمة في عظمته ووطنيته وقلبه الطاهر ، أعطي البحرين عندما كان وزيراً للعمل والشؤون الاجتماعية كل ما يستطيع باخلاص ، محب لجميع الاطياف ، الف رحمة تنزل على روحك الطاهرة ، ومثواك الجنة .والله يصبر محبيك على فراقك .

اقرأ ايضاً