العدد 4783 - الأحد 11 أكتوبر 2015م الموافق 27 ذي الحجة 1436هـ

فاجعة «منى»... تراجيديا الرمق الأخير

الحاج شفيق شيخ: حاولنا إنقاذ الحجاج رغم أننا نتشهد ونستعد للموت
الحاج شفيق شيخ: حاولنا إنقاذ الحجاج رغم أننا نتشهد ونستعد للموت

كان الحاج شفيق شيخ، وهو في السبعين من العمر، يكرر الشهادتين ويرى الموت أمام عينيه، ومع ذلك، كان يحاول النهوض برجل أمسكه من ساقه في مشهد فجيع مهول يوم «مأساة منى» التي وقعت فصولها الحزينة صبيحة عيد الأضحى (الخميس 24 سبتمبر/ أيلول 2015).

«بكيت... قلبي يتقطع وأنا في غمرة الخوف والهلع ورائحة الموت تنتشر في كل مكان... أمامك عدة مشاهد: أناس ماتوا... استسلموا للموت... أناس يحاولون ويجاهدون وفيهم رمق وتمسك وأمل بالنجاة... ولفيف ثالث، وأنا منهم، نجونا بأعجوبة، وهذا كله بفضل الله سبحانه وتعالى»... هكذا تحدث الحاج شيخ عندما التقيته في اليوم التالي للفاجعة في مخيم قريب من سوق العرب، على طريق 204 المتصل بالشارع رقم 23 الذي يلتقي بشارع الجوهرة المؤدي إلى الجمرات الثلاث.

بين أحضان الهلاك

حتى تلك اللحظة، وربما حتى الآن، لا يعلم الحاج شيخ ولا غيره ما هو السبب الحقيقي الذي أدى إلى وقوع تلك المأساة الفجيعة، ولعل الجميع في انتظار ما ستسفر عنه نتائج التحقيقات التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين لكي تتضح الحقيقة، ومع ذلك، ينوه الحاج شيخ إلى أن ذلك اليوم الكارثي، كان بمثابة تصوير (ليوم القيامة) - كما يرى هو من دروس مستخلصة - إلا أن الأهم أنه يشعر براحة تامة وقد أرضى ربه وأراح ضميره عندما حاول مساعدة من هو في رمقه الأخير من الحياة، فلا هو يعرف من أولئك الحجاج ولا هم يعرفونه، لكن لغة الإسلام والإنسانية كانت هي دافعه ودافع غيره ممن كانوا يرون الموت، وبدلًا من الهرب - وقد وجدوا فرصة لذلك - إلا أنهم آثروا أن يساعدوا قدر استطاعتهم... ترى، كيف يصف من كان بين أحضان الهلاك ونجا تلك اللحظات؟

الأيدي تلوح طلباً للمساعدة

التقيت بالشاب (عيسى إبراهيم) وهو حاج بحريني كان يرافق مجموعة من الحجاج البحرينيين الشباب الذين فاجأهم التزاحم الشديد المخيف فتفرقوا ولم يلتقوا ببعضهم البعض إلا مساء اليوم التالي... نجوا جميعاً بأعجوبة، مع أنه ظن أن من مجموعته من فارق الحياة في تلك الفاجعة... يحكي لنا الحاج عيسى ما رآه كشاهد عيان فيقول: «قضيت ما يقارب من 20 دقيقة وأنا في أحضان أكثر المواقف والمشاهد فزعاً في حياتي... رأيت رجالاً ونساءً وأطفالاً يموتون... وبقدرة الله سبحانه وتعالى استطعت الوصول إلى سياج أحد المخيمات... موجة التزاحم كانت قوية بصورة جعلتها ترمي بنا يميناً ويساراً... عندما وصلت إلى ذلك السياج الحديدي، تسلقت ولم أكن أحمل أملاً في النجاة... وقد رأيت أيضاً بعض الحجاج من كان يحاول تسلق السياج الذي لم يكن من السهل صعوده إلا لمن يملك القوة والقدرة... ومن أعلى السياج، قفزت على سطح إحدى الخيام وبالأسفل كنت أشاهد حالة من الهستيريا والصراخ والبكاء وحشد كبير من الحجاج كانوا يحاولون تسلق السياج».

من أعلى الخيمة رأيت أشد اللحظات فزعاً! فقد كانت هناك حشود من الحجاج في اتجاهين متعاكسين... حشد يتقدم وآخر يتراجع ليصطدم الجميع مع بعضهم بعضا ويتراكمون أجساداً على أجساد... لا أعلم ما الذي حدث بالضبط لتقع تلك المأساة المحزنة، إلا أنني كنت في لحظة ما قريباً من الهلاك عندما قبض أحد الحجاج المصريين على قدمي وأنا أحاول التسلق ما جعلني أشعر بثقل شديد قد أسقط بسببه، وكنت أحاول توجيه الحاج لكي يمسك قضبان السياج ويصعد لكنه كان كحالي وحال كل الحجاج... منهك القوى والحر الشديد والعطش وارتفاع درجة الرطوبة جعلت الناس تتهاوى سريعاً... ومن تطأه الأقدام يفارق الحياة بلا شك».

وهناك بالفعل من خاطر بحياته من الحجاج كما يقول عيسى... إن من الصعوبة بمكان أن تنخفض لتمسك بيد حاج أو حاجة لترفعه محاولاً إنقاذه... مجرد الانخفاض قليلًا يعني الهلاك بلا ريب، ومع ذلك، كان بعض الحجاج من الشباب والرجال الأقوياء، وفي شدة الموقف الذي يمكن أن نصفه بالقول: «نفسي نفسي»... كانوا وهم يحاولون النجاة، ينظرون إلى من هو بالقرب منهم ممن يمكن مساعدته... كم كان مشهد أيدي الحجاج الذين ما زالوا على قيد الحياة وهي ترتفع وتلوح طلباً للمساعدة... ثم ما هي إلا لحظات حتى ترى تلك الأيدي وقد تنكست وخمدت أنفاس صاحبها.

جثث على بعضها البعض

عوداً إلى الحاج شفيق شيخ الذي كان يحكي لمجموعة من الحجاج ما شاهده ... كان الحزن الشديد يرسم ملامح وجهه، فهو يبكي تارةً ويكمل الحديث، ومن بين ما أشار إليه من مواقف، أن المكان الذي وقعت فيه الفاجعة كان يشهد ضغطاً متصاعداً ذلك لأن هناك آلاف الحجاج القادمين من مزدلفة لرمي الجمار التحموا أيضاً بمن كان في طريق سوق العرب أو بين خيام الحجاج المصريين وحجاج الدول الإفريقية غير العربية، وكان هناك أعداد كبيرة من حجاج إيران وتركيا وباكستان والعديد من الدول، ولأننا لا نعلم ماذا حدث بالضبط، وأي سبب كان وراء ما جرى، إلا أن شدة التزاحم والتدافع كان كفيلاً بقتل الكثير الكثير من الحجاج، حتى العدد القليل من رجال الشرطة والعسكريين والمسعفين، لم يتمكنوا من فعل أي شيء، ولا تنسى أن وصول سيارات الإسعاف والهلال الأحمر والدفاع المدني تأخر كثيراً، وأعتقد أن السبب في ذلك هو أن كل الطرق المؤدية إلى موقع الحادثة كانت تشكل صعوبة... كلنا رأينا الجثث على بعضها البعض... إنه يوم مأساة لم أشهد لها مثيلاً في حياتي.

ربما قوتي البدنية ساعدتني كثيراً في النجاة رغم كبر سني، وهذا فضل ونعمة من الله سبحانه وتعالى، لكننا في موسم حج عظيم، وبالتأكيد، لن يطيعك قلبك أن تهرب وفي مقدورك المساعدة، ولله الحمد، كم كان مشهد بعض الشباب والرجال مشرفاً وهم يواجهون الموت في أي لحظة ومع ذلك كانوا يرمون بزجاجات الماء ويرشون المياه من أعلى الخيام على الحجاج، فيما البعض الآخر يهديء الناس حتى أنني رأيت مجموعة من الحجاج الإيرانيين وهم يصرخون: «سكينة... سكينة»، وبالمثل كان بعض الحجاج المصريين والجزائريين ينادون بالحجاج :»إن الله مع الصابرين... الله معنا... توكلوا على الله ... لا تخافوا ... «... حتى هدأ الكثير من الحجاج... وبدأ التدافع يهدأ شيئًا فشيئاً... وهرع العديد من الشباب بعد أن خفت درجة التدافع في الانتشار في الموقع ومساعدة الحجاج الذين هم في الرمق الأخير... والكل يبكي بصورة مفزعة تماماً... فيما كان البعض يحاول سحب جثة والده أو شقيقه أو قريبه من تحت الجثث.

ابحثوا بين الناجين

لم يكن العامل الآسيوي محمد كمال يعمل لحظة الواقعة في ذات الطريق، بل كان في طريق آخر، لكنه عندما رأى سيارات الإسعاف وفرق العمل والمسعفين ورجال الدفاع المدني والكشافة يركضون نحو ذلك المكان، علم أن في الموضوع خطب كبير، وبعد ذلك علم من خلال فريق عمله أن حادثاً كبيراً وقع وأن أعداداً كبيرة من الحجاج يموتون... وعندما وصل مع فرق العمل بصعوبة إلى المكان، كانت رائحة الموت - كما يصف - منتشرة في كل مكان، وفي الحقيقة، لم نكن نعلم ماذا حدث بالضبط وكيف مات هذا العدد الكبير من الحجاج؟ لكن رأيت الموت بعيني، وكنا نحمل كميات كبيرة من المياه ونحاول تنظيم عملية وصول سيارات الإسعاف التي لم تكن قادرة على الوصول بسبب الحشود البشرية الضخمة وكذلك انتشار الجثث في كل مكان.

ويضيف كمال: «تولى أحد الشباب مسئولية التنظيم وكان يخبرنا بالقول... ابدأوا بالحجاج الذين لا يزالون على قيد الحياة... ابحثوا بين الجثث عن ناجين... رأيت حينها امرأة كبيرة في السن... رأسها وجزء من يدها ظاهراً وهي بين الحياة والموت... سارعنا نحوها وأبعدنا الجثث من حولها وأخرجناها فأغمي عليها في الحال وظننا أنها فارقت الحياة... وتم نقلها إلى الإسعاف ولا أعلم ما إذا كانت لا تزال على قيد الحياة أم أنها التحقت بالرفيق الأعلى».

ذلك اليوم كان عصيباً ومحزناً للغاية بالنسبة لنا جميعاً... فكل فرق العمل التي جاءت فيما بعد، وبعدها وصل إلى الموقع بعد حوالى ساعتين أو ثلاث ساعات، وبدأت المسعفون في نقل الجثث ومعالجة المصابين والناجين، وأكثر ما أثر في نفسي هو أنني رأيت ثلاثة من الشباب الهنود يعملون بجد طوال ساعات وهم ينقذون الحجاج ويقدمون المساعدة للناجين مع أن الغالبية العظمى من الناس كانت تبحث عن مهرب من ذلك المكان المخيف.

رسالة لكل من ضحى بحياته

ويروي لنا يوسف أخلاق، وهو عضو في متطوعي الهند ما يعتقده من سبب الحادثة، وهو اصطدام أعداد كبيرة من الحجاج مع بعضهم البعض... فقد كان البعض يعود أدراجه في طريق 204 فيما حشود أخرى كبيرة تدخل الطريق فحصل التدافع، لكنني أتساءل: «ما الذي جعل الحجاج الذين كانوا متوجهين إلى منى أن يعودوا من جديد؟ ربما بعد انتهاء التحقيق في الحادث سنعرف التفاصيل وهو الأمر الذي يلزم محاسبة كل من تسبب في هذه الكارثة محاسبةً شديدة بلا تهاون.

ويعبر عن حزنه الشديد من أن بعض الناس كان بإمكانه المساعدة لكن لم يفعل فيقول: «ربما أنا أعذرهم في ذلك... الموت... المكان كله موت... والمحظوظ من ينجو فيهرب بعيداً، ومع ذلك، لا يجب أن ننسى ما قام به بعض الحجاج من كل الجنسيات... صدقني، كان البعض يهرب من الموت فيما بعض الشباب كان يرتعشون من شدة الحر والعطش ورأيناهم كيف يظللون على الناجين ويسقونهم الماء، والبعض الآخر يحمل مع صاحبه حاجاً في رمقه الأخير، وآخر يحضر قطع السجاد والصناديق الورقية فيعمل منها مظلة تحمي الحجاج من الشمس... هذه الصورة الإنسانية الرائعة هي صورة الإنسان المسلم الحقيقي... ماذا يعني الحج ومناسكه إذا كان المسلمون يفتقدون للإنسانية والرحمة... لم نشهد في حياتنا أناساً يموتون بهذا العدد... أنا حزين جداً لأنني فقدت زملاء وحجاج من بلادي... لكن هذه مشيئة الله سبحانه وتعالى، وإذا كان من رسالة فهي الكلمة التي أود قولها لجميع من ضحى بحياته لينقذ من ينقذ من الحجاج... أنتم بعملكم هذا تعلمون الجميع معنى الإنسانية والتراحم والبذل والعطاء من منظور الإسلام... ومنظور الحج الصحيح وأهدافه ومقاصده».

***

القلوب والألسن تلهج بالدعوات لأن يرحم الله سبحانه وتعالى الحجاج... ضيوف الرحمن... الشهداء... الضحايا... وأن يكتب الشفاء العاجل لكل من نجا... ولابد من أن يعمل الجميع على ألا تتكرر مثل هذه الحوادث المفجعة، ولعل الرسالة التي نختم بها موجهة إلى تلك الأيدي الكريمة والضمائر الحية التي كانت بين أتون الهلاك لكنها آثرت أن تقدم المساعدة والحياة فنقول: «أنتم صورة الإنسان الرائع الذي قدم للناس في موسم من أقدس المواسم معنى نكران الذات وإيثار الآخرين... بوركتم».

العدد 4783 - الأحد 11 أكتوبر 2015م الموافق 27 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 1:28 ص

      كان يوم مصغر جدا ليوم الحساب .

      حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم . الله يرحم الشهداء .

    • زائر 2 | 12:38 ص

      اه قلبي

      مأساة منى وراءها أكبر مصيبة وهي سكوت دول عن جثث قتلاهم

    • زائر 1 | 12:32 ص

      فاجعة منى.. كشفت الكثير

      حتى الآن الله أعلم بما حدث.. هو تدافع كبير وتزاحم شديد جدًا لكن ليس هذا فقط.. هناك سبب خفي.. هناك أمر وقع في المقدمة.. هناك شيء جعل الحجاج يتزاحمون وإلا فإن الطريق رغم زحمته من سوق العرب دخولًا إلى شارع الجوهرة في اتجاه الجمرات كان مكتظًا وكل عام الحال ذاته.. لكن التدافع لم يحدث هذا العام من تلقاء نفسه.. الحلقة المفقودة ياأستاذ سعيد محمد التي نركز عليها هي.. ماذا حدث في مكان ما ليحدث التدافع؟ ليت حكومة خادم الحرمين الشريفين تطلعنا..
      أم نواف - الخبر

اقرأ ايضاً