العدد 4791 - الإثنين 19 أكتوبر 2015م الموافق 05 محرم 1437هـ

تطهير عقل المجتمع

عباس المغني abbas.almughanni [at] alwasatnews.com

جابر، وما أدراك ما جابر، تم تعيينه كبير مهندسي إعادة تدوير النفايات بالمصنع، في الأيام الأولى كان يشعر برائحة كريهة، فبمجرد أن ينتهي العمل يذهب مباشرة للسباحة في البيت، لكن بعد أسبوع تعوَّد على الرائحة ولم يعد يشعر بها.

وبمرور شهر، بدل أن يذهب إلى البيت للسباحة، كان يخرج في القرية لقضاء وقت مع الأصدقاء. وبينما هو جالس معهم قال له أحدهم: «رائحتك كريهة؟». فرد جابر بصوت غاضب: «احترم نفسك، أنا لا أشم رائحة». فيرد صديقه: «ربما تشبع أنفك وتعود على الرائحة، ولهذا لا تشعر بها».

هذه قصة رمزية، لتوضيح آلية تعطل عمل الحواس وتظليل العقل، ويمكنك أنت أن تجرب، اشتر عطراً جديداً، وفي الأيام الأولى ستشعر برائحته الزكية، لكن بعد شهر سيحدث تشبع وتخدر، ولا تعود تشعر برائحة العطر، بينما المحيطون بك يشعرون بالرائحة وأنت الوحيد الذي لا تشم الرائحة.

وهذا بالضبط ما يحدث للعقل البشري، عندما تكون هناك فكرة سائدة يتعود عليها ويتخدر بها، فتصبح من المسلمات التي لا تقبل النقاش، مثل فكرة أن «الأرض مسطحة»، تخدرت عليها عقول المجتمعات لآلاف السنين، وتم إعدام من قال بكروية الأرض في تلك الأزمان.

ونحن أيضاً لدينا أفكار تسللت إلى عقولنا منذ ولادتنا حتى الآن، منها أفكار جميلة وأفكار غير جميلة، ومنها أفكار ذات رائحة زكية، وبعضها ذات رائحة كريهة، لكن نحن نتوهم أن جميع الأفكار التي في عقولنا جميلة، لا ندرك أفكارنا غير الجميلة؛ لأن عقولنا تخدرت عليها منذ صغرنا حتى كبرنا، وتوهمت عقولنا بأن هذه الأفكار هي أفكار جميلة وهي محل فخر واعتزاز، مثل «داعش» يفتخر بفكرة قطع الرؤوس وسلب النساء واغتصابهن.

ومن الرائع أن يحمل الفرد أفكاراً جميلة حتى لو لم يشعر بها؛ لأن هذه الأفكار ستجعله محل تقدير أينما ذهب، لكن المشكلة إذا حمل أفكاراً عفنة ولا يشعر بها، وبالتالي يصبح محل سخرية أينما ذهب، دون أن يدرك الحقيقة، ويتوهم أن الآخرين ينصبون له العداء.

جوهر المشكلة في العقل البشري، بتخدر حاسة الإدراك، وهذا التخدر يقل كلما كان الشخص مرناً متقبلاً لرأي الآخرين، ويزداد هذا التخدر كلما كان الشخص متعصباً ومتشدداً.

والحل، هو برعاية وتنمية ملكة النقد، فملكة النقد هي أهم آلية لتطور حاسة الإدراك، وعقل المجتمع لن يتطهر من الأفكار البالية إلا بتنمية ملكة النقد لدى أبنائه. فملكة النقد هي أهم عنصر لبناء المعرفة الصحيح، والمعرفة هي طهارة العقل، كما الماء والتراب طهارة الجسد، فملكة النقد هي نبع الماء الطاهر المطهر للعقل من دنس الأفكار.

وللأسف مجتمعاتنا، تخلت عن مسئوليتها الاخلاقية في بناء ملكة النقد لدى أبنائها، بل توجهت بعض النخب إلى القضاء على ملكة النقد، لخلق أتباع تتبع وتنفذ ما يقال لها من دون تفكير. ولهذا واقعنا سيئ، والمستقبل مخيف، وكثير من المفكرين والمثقفين منعزلون عن المجتمع؛ لأنهم لا يحبون النفاق والمجاملة، ولا يستطيعون ممارسة الانتقاد بسبب التشدد والتعصب المتنامي في المجتمع.

إذا قمع التشدد ملكة النقد انعزل المفكرون والمثقفون، وإذا انعزلوا فقد المجتمع حيويته في التطور. وملكة النقد هي هبة الله للارتقاء بوعي البشرية، ومدد الله للدفع بالبشرية نحو الإنسانية والأخلاق والقيم، وبناء مجتمعات مبنية على الفضيلة والخير والنور.

مجتمعاتنا بين خيارين، إما أن تستمر في شرب التشدد وتسكر في أفكارها البالية، وتسير نحو التخلف والدمار، أو تنمي ملكة النقد، لصنع ماء المعرفة لتروي المستقبل بالجمال، وتسير نحو التقدم والازدهار.

إقرأ أيضا لـ "عباس المغني"

العدد 4791 - الإثنين 19 أكتوبر 2015م الموافق 05 محرم 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 1:00 ص

      مقال رائع وفي الصميم

      التربية لا تقل أهمية عن العلم وأهم شئ زرع الاستقلالية في التفكير في أولادنا لنمو عقولهم واعتمادها على أنفسهم لسلك الطرق الصحيحة بدل ما تتقادفهم أمواج الغير

    • زائر 1 | 11:56 م

      حكايتك

      حكاية اول المقال ليس رمزيا. في بلد عربي كان لي صديق تم تعيينه نائبا في الادعاء العام. اول أيامه كان عصبيا جدا لا يطيق الكلام او المزاح. كان يشتكي من عمله في التحقيق مع موقوفين يحضرون أمامه في بؤسهم من شدة التعذيب الواضح علي اجسادهم. بمرور الأيام تعود و صار مشاهدة المعذبين و التحقيق معهم أمرا عاديا. ارتاح و عدنا الي جلسات مرحنا كالسابق.

اقرأ ايضاً