العدد 4917 - الإثنين 22 فبراير 2016م الموافق 14 جمادى الأولى 1437هـ

الاستئذان الثالث والأخير لـ «الأستاذ»

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

أقبل أبناء جيلي على الدنيا وإمارة الصحافة العربية معقودة في شبه إجماع لـ «الأستاذ»، وقد نشأنا ومحمد حسنين هيكل (1923 – 2016) للعروبة كما كانت «الأهرام» لمصر الفرعونية، والقاهرة في ذلك الزمن الجميل «أم الدنيا» بـ «حق وحقيقي»، فيها كل شيء تقريباً، فيها الشعر والفن والغناء الملتزم والسينما والمسرح، فيها الأدب والقصة والأزهر الشريف وأم كلثوم والنيل الأزرق وفيها أيضاً الزعامة والكبرياء والإلهام الناصري والبريق النضالي الذي كان»الأستاذ» جزءاً منه، بل أحد أسبابه.

لقد غاب «الأستاذ» بلا «استئذان بالانصراف» هذه المرة، وربما كان محبو هيكل متهيئين له بحكم وطأة السنوات والتجاعيد المحفورة بقسوة على جبينه الأسمر. وكان مقدراً لهذا الاستئذان أن يكون الثالث والأخير لقيصر الصحافة العربية وعميدها بلا منازع؛ الاستئذان الأول كان في أعقاب حرب 1973 فلقد كانت الرؤية المشتركة لهيكل مع الرئيس أنور السادات (اغتيل 1981) هي أساس العلاقة بين الاثنين، وعندما تغير الوضع أصرّ هيكل على الانصراف الأول من مؤسسة الحكم رافضاً أن يكون صوتاً لسياسة لا يشارك في صنعها؛ لأنها تمثل خروجاً عن رؤيته، وبهذا الانصراف أكد أنه أكبر من أي منصب، وأن الصحافي الكاتب هو قلم قبل كل شيء وبعده.

أما الانصراف الثاني فقد حدث مع بلوغه الثمانين في (23 سبتمبر/ أيلول2003) حين كتب مقالاً مطولاً بعنوان: «استئذان في الانصراف» ترك أصداءً متفاوتة في كبريات الصحف العربية بين مُرحّب بهذا القرار ورافض له، ولقد تبين أن هيكل بعد الثمانين قد تقاعد عن الصحافة وليس عن الكتابة، فقد بدأ يظهر بشكل متكرر في قنوات تلفزيونية يستعرض فيها حصيلة خبرته الفائضة ويدلي بتحليلاته بشأن التحولات العربية والدولية في شكل استرجاعي لما كان قد أفاض في استعراض تفاصيله في كتبه التي تجاوزت الأربعين، وفي مذكرات حرص على كتابتها بشكل يومي التي من المتوقع أن يثير نشرها بعد رحيله الكثير من المفاجآت وردود الأفعال.

لقد قيل الكثير عن سر عظمة هيكل، قيل إنها الموهبة، وقيل بل هي صداقته لجمال عبدالناصر (ت 1970)، وقيل إنها مصر التي لا تعطي بلداً لكاتبها مثلما تفعل مصر، والأسباب الثلاثة - على اختزالها - صحيحة ولا شك، لكنني لا أميل إلى ربط المجد الذي بناه «الأستاذ» والشهرة والنجاح المنقطع النظير الذي شيده طيلة 75 عاماً من الكتابة السياسية المعمقة، والأداء الصحافي المبهر بعلاقته الشخصية بناصر؛ فهذه نظرة غارقة في الاختزال المجافي لحقائق الأمور؛ فلا يمكن أن يقتات المرء من شهرة أي زعيم ارتبط به حتى لو كان هذا الزعيم عبدالناصر لـ 46 عاماً من رحيله؛ بل يمكن الزعم برأيي أن البكباشي (مقدم) السابق استفاد من الصحافي الشاب بأكثر مما استفاد الصحافي «صائغ فكر الثورة» ومدبّج بياناتها التاريخية من «البكباشي» الظافر.

يستند نجاح هيكل في رأيي - إضافة إلى كل ما ذكرناه - إلى شغفه بترصد المعلومات ونجاحه الاسطوري في مدّ شبكة من العلاقات الواسعة العابرة للحدود والقارات، سياسيون وقادة وحكام وسلاطين وثوريون ورجال فكر من الشرق والغرب، وهو ما أتاح له فيضاً لا يتوقف من المعلومات والوثائق التي عزز بها روايته لكثير من الأحداث الواردة في كتبه؛ فهو شديد الاعتماد على البحث والمعلومات وإيراد الشواهد، وعندما أراد في خريف 1979 أن يكتب كتابه «آفاق الثمانينات» ذهب إلى الغرب كي يفهم مغاليق حقبة قادمة واستشراف آفاقها؛ كتب يقول: «من سوء الحظ - وهذا صحيح حتى اللحظة - أن ما هو متاح في الغرب أوسع وأكثر مما هو متاح في غيره. ذلك أنهم في الغرب بحكم تجارب كبيرة - بينها التجربة الامبراطورية - تعلموا جمع المعلومات وتوثيقها على نطاق غير مسبوق أو ملحوق إلى الآن في التاريخ، ثم أنهم بحكم تركيب المؤسسات وطبائعها لا يكفون عن الحوار مع أنفسهم ومع الآخرين، حتى الغرباء، إذا شعروا أنهم يستطيعون معهم أن يبادلوا نفعاً بنفع».

وأكد هذه الحقيقة: «لعلي أزعم دون مبالغة أننا نستطيع في الغرب أن نعرف عن الشرق أكثر مما نستطيع في الشرق أن نعرف عن الشرق».

وأما الجانب الآخر من ظاهرة هيكل، فيكمن في بيانه الساحر ولغته الرشيقة التي باتت معروفة لدى جمهور ضم هذه المرة «مشاهدين» بعد أن اعتاد عليها قراؤه ممن واكبوا تجربته الغنية في ما كتب وهو كثير.

الغور في اللغة واصطياد التعابير من بحورها وترصيع المقال بما يتلاءم مع المقام. فلا يجوز أن يخرج من بين يدي «الاستاذ» مقال عادي، كالذي يكتبه الآخرون، ولذلك كان له فريق يعمل ويدقق ويبحث، وكان هو بنفسه يتصل بأساتذة اللغة والترجمة ليفيد منهم في عبارة إضافية من أزهار البيان».

لقد كان شاهدا على الأحداث منذ عهد الملك فاروق، وجمال عبدالناصر، والسادات، ومبارك، والاخوان حتى حكم الرئيس الحالي، ومن بين كل ما حققه وشاهده وشارك في صنعه ظل هذا العجوز الأسمر يفضل دائمًا لقب «الجورنالجى»، وكان يتابع الأخبار وما خلف الكواليس كصحافي شاب إلى آخر يوم في عمره، كما بقي محتفظاً بمقدرة استثنائية على رؤية الأشياء بوضوح منقطع النظير قبل اكتمال تبلورها.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 4917 - الإثنين 22 فبراير 2016م الموافق 14 جمادى الأولى 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 11:34 م

      لقد أوضح موقفه من سوريا فهل من استمع له

      رجل خبير وقدير ولقد قال كلمته في سوريا التي دمرت من قبل الأشقاء فهل استمع له احد ممن يملك قرارا وانما تمت مهاجمته وشتمه وستبان نصائحه لهم بما يحدث حاليا من ارتداد للمشهد السوري على داعمي المسلحين ولكم بتركيا أنموذج رحمك الله فلم تبع قلمك للمال السياسي

اقرأ ايضاً