العدد 4947 - الأربعاء 23 مارس 2016م الموافق 14 جمادى الآخرة 1437هـ

جورج طرابيشي يترجل ويترك نقد العقل العربي وحيداً

يوسف مكي (كاتب بحريني) comments [at] alwasatnews.com

كاتب وباحث بحريني

على امتداد أكثر من نصف قرن، كان جورج طرابيشي (1939 - 2016) يمثل حالة فكرية ثقافية سجالية مستمرة. فهو في نتاجه الفكري والثقافي مثل مؤسسة في شخص، بمعنى أنه أنجز لوحده ما تنجزه مؤسسة بحثية. أما إنجازه الثقافي فيكاد يكون شاملاً مختلف مجالات الثقافة والفكر. فهو أديب وناقد أدبي، وهو مثقف موسوعي، وهو مفكر صاحب مشروع فلسفي، وألف في ذلك أبحاثاً في الأدب والنقد والفلسفة والتحليل النفسي، هذا فضلاً عن ترجمته عشرات من عيون الكتب والمؤلفات الغربية، من بينها على سبيل المثال «الموسوعة الفلسفية» و«تاريخ الفلسفة الغربية» و«الطوطم والتابو» و«موسى والتوحيد» لفرويد، وهي ترجمات أثْرت المكتبة العربية بوجه عام.

في الجانب النقدي الأدبي يعتبر طرابيشي من المثقفين العرب الأوائل الذين طبقوا منهج التحليل النفسي في قراءة ونقد النتاجات الأدبية، ويتجلى ذلك في مؤلفه «الروائي وبطله: مقاربة للاشعور في الرواية العربية»، وكتابه «أنثى ضد الأنوثة، دراسة في أدب نوال السعداوي في ضوء التحليل النفسي»، و«عقدة أوديب في الرواية العربية».

لكنه تحول فيما بعد عن النقد الأدبي إلى شئون الثقافة العربية عموماً والشأن الفلسفي خصوصًا، واستمر في ذلك طيلة ثلاثين سنة الأخيرة.

والتحول في مسيرة الراحل على الصعيد الموضوعي (القضايا والمواضيع التي يتناولها) كان مصحوبًا بتحولات فكرية رافقت مسيرته منذ تخرجه في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق في مطلع الستينات من القرن الماضي.

فقد بدأ ذا نزعة قومية لينتقل إلى الفكر الاشتراكي / الماركسي لينتقل إلى التأثر بوجودية سارتر إلى التحليل النفسي، إلى الليبرالية بروحها النقدية.

هذا وعلى رغم الكثير من المؤلفات التي أثرى بها طرابيشي المكتبة العربية منها على سبيل المثال «مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام»، و«مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة»، و«المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي»، و«رمزية المرأة في الرواية العربية»، و«هرطقات» بجزءيه و«الرجولة وإيديولوجيا الرجولة في الرواية العربية» و«شرق وغرب، رجولة وأنوثة». أقول على رغم أهمية هذه المؤلفات، فإن الأهم في انجاز طرابيشي كما نعتقد يتمثل في خماسيته التي تحمل عنوان: «نقد نقد العقل العربي». وهي موسوعة فكرية نقدية يتناول فيها الكيفية التي قرأ بها الجابري التراث العربي الإسلامي. وقد استغرقت منه هذه الموسوعة الفكرية زهاء عشرين عامًا.

تتكون الموسوعة النقدية من خمسة أجزاء، كل جزء مخصص لما يقابله من مؤلفات المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري. فالجزء الأول من الخماسية يحمل عنوان: «نظرية العقل»، والجز الثاني بعنوان: «إشكاليات العقل العربي»، والجزء الثالث «وحدة العقل العربي الإسلامي»، والرابع بعنوان: «العقل المستقيل»، واخيرا الجزء الخامس وهو بعنوان: «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث».

وعندما نصف هذه الأجزاء الخمسة التي يجمعها عنوان واحد هو نقد نقد العقل العربي، فإننا نقصد المعنى الحرفي للموسوعة، فهي أولا بحجمها وعمقها الفكري وأفقها الواسع زمنيا ومعرفيا إنما تنم عن قدرة معرفية يتمتع بها طرابيشي، وقدرة على استيعاب المنجزات الفكرية العربية والإسلامية منذ ظهور الإسلام حتى الآن. وهي موسوعة لأنها تطرقت إلى مختلف أبعاد التراث العربي الإسلامي، من الفقه إلى الكلام، ومن القرآن إلى الحديث إلى الأدب إلى الأخلاق إلى الفلسفة إلى التصوف. وفق رؤية نقدية تستهدف قراءة منجزات محمد عابد الجابري المسماة «نقد العقل العربي» بأجزائه الأربعة الذي صدر ابتداءً من 1982.

فهو - طرابيشي - يتقصى في هذه الموسوعة بالنقد العلمي طروحات الجابري، ومظانه، ومراجعه الفكرية، وانتحالاته سواء كانت عربية أو أجنبية غربية تحديدا، ومسلطا الأضواء على كثير من أفكار وطروحات الجابري غير العلمية ومصححا طريقة التشطير التي قام بها للفكر العربي الإسلامي المتمثلة في عقلية البيان والبرهان والعرفان، وكذلك مفندا فكرة عصر التدوين باعتبارها مرجعية للفكر العربي الإسلامي، وهي مجرد وهم من أوهام الجابري كما يرى. ومشيرا إلى أن عصر التدوين في الإسلام أسبق بكثير مما يقترحه الجابري.

لكن الشيء الأهم أن طرابيشي ليتمكن من انجاز هذه الموسوعة / المشروع فإنه لم يقتصر على استيعاب الثقافة العربية الإسلامية في مختلف تجلياتها؛ بل دعمها بثقافة معمقة في التراث الثقافي اليوناني والروماني وثقافة العصور الوسطى إلى الثقافة الأوروبية / الغربية الحديثة وخاصة في البعد الفلسفي منها، بحيث يمكنه الرد على فكرة الجابري في نقده العقل العربي، والمتمثلة في قوله إن معجزة اليونان هي الفلسفة، في حين أن معجزة الثقافة العربية الإسلامية هي الفقه ليدحض هذه الفكرة جملة وتفصيلا.

إن ما قدمه طرابيشي للثقافة العربية المعاصرة سيظل محل اهتمام المفكرين والمثقفين العرب، ولاشك أن لدى طرابيشي الكثير مما يقدمه؛ لكن فيما يبدو وبسبب تدهور حالته الصحية حديثا حالت دون مواصلة مشروعه، ثم بوفاته أصبح المشروع متوقفا، وبات على الأحياء أن يستكملوه أو أن ينقدوه، جريا على عادة طرابيشي نفسه في تأكيده أن النقد هو السبيل الوحيد لقدح شرارة العقل، والانتقال بالفكر إلى مراتب أعلى.

مع ذلك سيظل طرابيشي محل نقاش وسجال فكري في مماته، كما كان في حياته، وهذه هي حال أصحاب المشاريع الكبرى في التاريخ. يموتون لكنهم يظلون يحومون على رؤوسنا بأطيافهم وبأفكارهم، ورؤاهم. تبقى الإشارة إلى انه برحيل طرابيشي تكون الثقافة العربية فقدت أحد أعمدتها المهمين، كما أن رحيله سيترك فراغا في الثقافة العربية الحديثة لابد من ملئه.

رحم الله الفقيد وعزاؤنا هو ما تركه من إنجاز ثقافي فكري متميز، بحاجة هو الآخر إلى قراءة نقدية لمعرفة أماكن الضعف من أماكن القوة.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"

العدد 4947 - الأربعاء 23 مارس 2016م الموافق 14 جمادى الآخرة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً