العدد 4968 - الأربعاء 13 أبريل 2016م الموافق 06 رجب 1437هـ

كنزٌ مكنونٌ... تحفظه السنون ولا تنساه العيون فما هو؟

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل تسعة عشر يوماً من الآن، غيَّبَ القَدَر شمساً كانت تضيء لِيَ الدُّروب. ليس لي فقط بل لأسرة مُركّبة ضمّت البنين والبنات والأحفاد ومَنْ دخل عليها من زيجات. إنها جدَّتي لأمي رحمها الله، التي أسلَمَت روحها في الساعة الخامسة وسبعٍ وعشرين دقيقة فجر يوم السابع والعشرين من شهر مارس/ آذار الماضي، مُخلِّفة ألماً وحسرة عند كلّ مَنْ خالطها، سواء من أسرتها أو من جيرانها ومعارفها.

حَمَلَت هذه المرأة الطيّبة لقب جدَّة منذ الـ 19 من شهر أبريل/ نيسان 1975. ولأن لكل عنوان من عناوين الحياة مستويات في الأداء، فقد شَهِدَ الفعل لها قبل أيّ رأي وتقييم من أحد، أنها نالت مرتبة متقدمة جداً في حَمْل ذلك اللقب في رعايتها المزدوجة لأبنائها وأحفادها على السوّاء.

عندما كانت قادرة على الحركة لم تكن تترك عملاً منزلياً إلاَّ وأنجزته. وعندما تسلَّلت الأمراض لجسدها ظلّت تُكابد ألاَّ يظهر عَرَضُها أمامنا فنخاف. وعندما أقعَدَها المرض بعد أن تغوَّل في عظامها وقلبها ورئتيْها وكِلْيَتَيْها، ظلّت تمنحنا بلسانها (رغم الألم) كلاماً عطوفاً عذباً لا يفقه مدى شفافيته إلاّ سامعه.

مع الآخرين كانت «إنسانية» الطبع والسلوك. ولأنني كنتُ واحداً ممن عاشوا بالقرب منها، فقد رأيتُ أن أكثر ما كانت تحرص عليه في علاقاتها الاجتماعية، هي عيادة وتعزية وتهنئة الفقير أكثر من غيره. كانت تقول: «لأنهم فقراء لا أحدَ يعودهم ولا يُعزيهم ولا يُهنئهم؟!». وقد وجدتها في يومٍ قائظ، وقد ارمَعَلَّ جبينها بالعَرَق، وتردُّ تنفَسَها وتُخرِجه بصعوبة، بعد أن قامت بما تراه واجباً عينياً تجاه إحدى الأسر. أذكر هذا لا تطرُّباً بِنَسَب، بل كي أتعلّم ذلك الفعل من امرأة كَهْلَة ومريضة.

اليوم وبعد رحيلها أتلمّظ كثيراً لفظة جَدَّة وجَدّات، وجَدٍّ وأجداد. ما أدفأ هذه الكلمات، وما أكثر الدلالات فيها. فليس معنى الجَدّ هو والد الأب بالضرورة. وليس الجَدّة والدة الأم حتماً كذلك. فما جاء في معنى لفظة الجَدّ أنه البَخْتُ والحَظْوَةُ والحظُ والرزقُ والعظمة. يا الله... كم هذا العالَم في خير وفيه يعيش أزيد من 126 مليوناً ونصف المليون نسمة تجاوزت أعمارهم الثمانين عاماً، بينهم أجدادٌ وجدَّات، تُبارك أنفاسهم ومشاعرهم حياتنا.

هنا، يمكنني أن أشرح شيئاً عن العلاقة مع الأجداد والجدَّات والتي عادة ما تكون مختلفة عن أية علاقة أخرى. كيف؟

في العلاقة بين الأحفاد والجدَّات طعم خاص. فهي علاقة خالية من رُعب التربية والتزاماتها التي تُولِّدها عادة علاقة الآباء والأمهات بالأبناء. وعندما يغيب الإلزام بالشيء تصبح محبَّته «طوعية»، لذلك تتحوّل تلك المحبة إلى اقتناع بها فتبدو أكثر جمالاً وترسّخاً في النفس. وهي معادلة تنطبق على كثير من الأشياء في حياة الناس، من طلب العلم إلى حيث العلاقات الاجتماعية وخلافها.

هنا، تنشأ علاقة مفتوحة، وخالية من الرسميات. فالأحفاد لا يَرَون في معاملاتهم مع جدّاتهم (أو أجدادهم) أنها قائمة على جَلِبَة الأسرة الصغيرة، التي يختلط فيها الخلاف بين مكوِّناتها في مشوار التربية، سواء بين الإخوة أنفسهم أو بين الأبناء والأبوَيْن، فضلاً عن التنافس والصراع من أجل البقاء عبر خَوضِ تجربة الحياة بتحدٍّ وجِدِّيّة. كل هذه الأشياء تغيب في علاقة الحفيد بجدَّته (أو جدَّه).

ما يجمع علاقة الحفيد بجدَّته أنهما يلتقيان في زاوية واحدة وهي الوهن. فالحفيد ينشأ صغيراً يحيطه الضعف البَدَني والعقلي من كل مكان. وفي طورِ نموِّه هذا، تسير الجدَّات انحداراً بالمقدار ذاته نحو ذلك الضعف مُكوّنة منطقة اشتراك في الشعور مع الحفيد، تقوم على حاجة الأخير إلى مَنْ يكبره وهي الجدّة، وعلى خوف الأخيرة على الحفيد وهي تتلمّس خطورة الوهن الذي وصلت إليه.

ومن الأشياء العجيبة أن هذه العلاقة تتبدَّل لاحقاً لتصبح معكوسة تماماً. فبعد أن يدخل الشَّيْبُ على الجدَّات (والأجداد) وتبور العافية، ويتلوّى الوجه تحت سياط التجاعيد، وتصبح الأحاسيس زجاجية رقيقة يصبح الكهل كالطفل الذي لا يقوى على شيء، بل ربما يلجأ إلى البكاء للتعبير عن حاله، ويَهْجر بكلام لا معنى له كالطفل الصغير. هنا يتمثّل الحفيد (فضلاً عن الولد) في موقع العَوْن، لمن كانت في يوم ما سَنَداً تحميه عندما كان صغيراً، وكأنه تاريخ يُعاد ولكن على أثير المسئولية.

هناك حالة من المشاعر الخاصة تجمع الأحفاد بجدّاتهم (وأجدادهم) وهي التي تسمَّى بالحب المضاعَف. فالأحفاد جزءٌ من كلٍّ أصيل أولَدَته الجدّات. لذلك فهو يحمل الثيمات العاطفية ذاتها، بل يزيد عليها كونها تحمل اللحظات التي ترى فيها الجدَّات أنفسهنّ بأنهن للتو يُرزقن بأبنائهن. وهو ما يجعل العلاقة تعمل كساقية الماء، حين ترتد رافعتها إلى النقطة ذاتها.

أكثر ما هو مريح في هذه العلاقة أنها غير خاضعة لمنطق العصر الممل، القائم على الشغل الدائم وأخباره المزدحمة، ومصائبه الدامية. عندما كنتُ أجلس مع جدّتي رحمها الله كنتُ أشعر أنني لا أنتمي إلى لحظات هذا الزمن. فهي لا تتحدثّ إلاّ لماماً عنه، ليبقى جلّ حديثها عن الزمن المنصرف، وما كان فيه، وما دار حوله، حلوه ومرّه، وبالتالي لا تجد نفسك في صراعٍ مع الحدث والتزاماته، بل في سباحة حرّة في الماضي. كان ذلك شيئاً جميلاً جداً، من شاهدة عيان ولكن بطريقتها البسيطة والعميقة معاً.

الحقيقة، أن العلاقة مع الجدّات لها تلمّظ خاص كما ذكرت، كونها علاقة يكتنفها الكثير من الحنان. أختم بقولٍ جميل سمعته من أحد الأساتذة الكبار في الجامعة. كان يقول إن جدّته لأمه كانت تحنو عليه كثيراً عندما كان صغيراً. وعلى رغم أنه اليوم يطوي عقده السابع إلاّ أنه لايزال يشتاق إلى جدته فهي: كنزٌ مكنونٌ تحفظه السنون ولا تنساه العيون. وهو أجمل وصف لجدّاتنا.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4968 - الأربعاء 13 أبريل 2016م الموافق 06 رجب 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 14 | 9:46 ص

      رائع جداً،، رحم الله اجدادنا واسكنهم فسيح جناته

    • زائر 13 | 11:06 م

      الموضوع جميل جدا و مميز و الكتابة راقية و نسال الله ان يتغمد ارواح المؤمنين بالرحمة و فعلا الاجداد و الجدات كنز .. شكرًا للكاتب

    • زائر 12 | 8:10 ص

      الله يرحم جدتك

      ما شفنها و لا ندري من وين لكن الجدات الطيبات ما أحد ينساهم. ..الصبر زين.

    • زائر 10 | 7:00 ص

      الهمَّ ارحمها برحمتك واغفرلها

      واحسن لها ولجميع موتي المسلمين

    • زائر 9 | 6:51 ص

      وصفت فأجدت يا ابا عبدالله. رحمها الله كانت نعم المرأة مؤمنة حالها حال الأمهات و الجدات في ذلك الزمن الجميل حيث كانت الأم/الجدة مكافحة مجدة صابرة في اطار بيت الزوجية ترعى الزوج وأهل الزوج و العيال و ابناءهم و لا تنسى حقوق القرابة و الجيرة. رحمهم الله كانوا خير النساء في ذلك الزمن

    • زائر 8 | 5:11 ص

      أفتقد جدتي

      الجدتي الحنان والحب
      اللهم ارحم أموات المؤمنين والمؤمنات

    • زائر 6 | 4:51 ص

      كانت لي جدة واحدة فقط من امي ولم اهنأ بها اذ توفيت وانا صغير. اما الباقي فلم ارهم مطلقا.

    • زائر 7 زائر 6 | 5:11 ص

      هي تستحق

      استمتع بذكراها عبر مواجهة نسيانها

    • زائر 5 | 3:37 ص

      ضدهم
      اللهم ارحم موتانا وموتى جميع المسلمين بحق محمد وال محمد الطيبين الطاهرين

    • زائر 4 | 1:29 ص

      كتبت فأجدت ..

      حفظ الله جداتي وأطال اعمارهم ..

    • زائر 3 | 12:24 ص

      لذلك قالت العرب في شعرها قديماً: بَنُونَا بَنُو أبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا ... بَنُوهُنَّ أبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعِدِ

    • زائر 11 زائر 3 | 8:08 ص

      نعم .

      مو حلو المثل

    • زائر 2 | 12:16 ص

      الله يرحم جميع موتى المسلمين

    • زائر 1 | 9:57 م

      الكاسر

      رحم الله جدتي هاشمية الف رحمة وأسكنها فسيح جناتة وغفر لها ما تقدم وما تأخر
      رحم الله من قرا سورة الفاتحة وأهداها لجميع جداتنا وأجدادنا

اقرأ ايضاً