العدد 4977 - الجمعة 22 أبريل 2016م الموافق 15 رجب 1437هـ

فاقد الشيء يعطيه

سوسن دهنيم Sawsan.Dahneem [at] alwasatnews.com

عن طريق صدفة محضة تعرفت على شاعرٍ أذهلتني لغته فاستعذبتها، قرأتُ نصَّه بكثيرٍ من الفرح والحماس، وأنا لا أعرف عنه سوى اسمه وحرفه، قبل أن أفاجأ بأنه كان أصم أبكم حين لفت انتباهي لذلك أحد الأصدقاء، وقرأتها في مقدمة الكتاب الذي كنت أقرأه له، والتي تخطيتها كما أفعل دائماً مع الكتب التي أقرأها!

الشاعر السوري رياض الصالح الحسين، توفي وهو لم يتجاوز الثامنة والعشرين من عمره، عاش وهو يحمي نفسه من الفضوليين، فلم يعرف أحد عنه الشيء الكثير، منها أنه اضطر لترك المدرسة وهو في الصف السابع بعد أن ساءت حالته الصحية التي أدت إلى قصورٍ كلويٍّ حادٍّ، وفقد بعد إجراء عملية جراحية سمعه وقدرته الطبيعية على الكلام.

كان فاقداً للسمع؛ لكنه بكل تأكيد كان يشعر بالأصوات من حوله بجميلها وقبيحها، كما لم يشعر بها سامع، وكان غير قادر على النطق بطريقةٍ سليمةٍ؛ لكنه أنجب كلاماً كثيراً في دواوين ثلاثة طبعت قبل وفاته، وديوان شعري رابع طبع بعد وفاته التي كانت تراجيدية؛ إذ استطاع أحد أصدقائه أن يعثر عليه متكوماً في سريره، وهو يصارع الموت والعطش قبل أن ينقل إلى المستشفى ويتوفى بيوم واحد فقط!

لم يكن راضخاً لشيء، وهو ما يثبته اعتقاله وتعذيبه كما يروى عمن جايلوه، ولم يرغب أبداً أن يعرف أحدٌ بأمر قصور سمعه ونطقه كما كتب «منذر مصري» في مقدمة كتاب الأعمال الكاملة الصادر عن دار المتوسط، وهو بذلك كحال غيره من ذوي الإعاقة السمعية: يعطي أكثر مما يأخذ.

دائماً ما نقول عبارة: «الله ياخذ ويعطي» حين نقف عند تجربة أحدٍ من ذوي الإعاقة، وننسى أننا نقف أمام إرادةٍ صلبةٍ أرادت أن تتخطى الصعب والمستحيل. أن يكون الأصم الأبكم شاعراً، هذه بحد ذاتها قصيدة وملحمة، ولولا أن نراها أمامنا لما صدقناها، تماماً كحين نقول إن الأصم موسيقيّ يمكنه أن يؤلف سيمفونيات ستصبح خالدة ما بقيت البشرية كبيتهوفن الذي ضرب مثالاً على قهر المستحيل.

في حياتنا العديد من التجارب التي تؤكد لنا أن فاقد الشيء يعطيه، وما رياض الصالح وبتهوفن إلا مثالان اثنان ضمن عددٍ كبيرٍ من الأمثلة التي قد تُضْرَب في ذات السياق في مجال الإعاقات الجسدية والعقلية، فكيف بنا في مجال سواهم؟

كثيرٌ من الآباء فقدوا الشعور بالحنان والمحبة بعد أن فقدوا آباءهم في سنٍ مبكرة، لكنهم اليوم قادرون على منح أطفالهم أضعاف ما كانوا يظنون وما يحتاجون.

كثيرٌ من الآباء والأمهات لم يكملوا تعليمهم المدرسيّ أو الجامعيّ ، لكنهم علّموا أبناءهم حب الدراسة وحب التعلم، حتى تفوقوا وواصلوا دراساتهم العليا.

كثيرٌ من الآباء والأمهات لم يشعروا يوماً بالشبع والرفاهية والسعادة في طفولتهم وشبابهم، ولكنهم استطاعوا أن يوفروا حياةً كريمة لأبنائهم، تقيهم الحاجة والعوز ولم يورثوهم الجوع والتعب. وهكذا فإن فاقد الشيء يكون أحياناً أكثر قدرةً على العطاء؛ لأنه شعر بغصة الفقد ولا يريد أن يعممها على غيره.

إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"

العدد 4977 - الجمعة 22 أبريل 2016م الموافق 15 رجب 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 6:06 م

      فعلا اختي سوسن كلامك صحيح فاقد الشيء يكون أكثر عطاءا .فالأم اليتيمة تكون أكثر عطاءا لاسرتها لأنها تشعر بالاحتياج لدفء الأسرة المفقود في حياتها.والاب الغير متعلم يكون أكثر حرصا على تعليم أبناءه .لأنه يعرف قيمة التعليم وأثار الجهل والشخص الفقير حريصا على أن يبني مستقبله ويطوره عن الشخص الذي انولد غنيا لا يعرف قيمة المال .

    • زائر 5 | 3:00 ص

      احسنتي

      شعرت كأنني ارى مسلسلا فيه الواقع الجميل الذي نغفل عنه وانا اقرا المقال
      شكرا على التعريف بهذا الشاعر سنقرأ له

    • زائر 4 | 2:58 ص

      مقال محفز

      شكرا استاذة على جرعة الامل التي تهدينا اياها مع كل مقال
      بالفعل انت سوسنة الامل
      الصم قادرون على العطاد دائما ونحن ايضا قادرون

    • زائر 2 | 1:04 ص

      نعم اوافق وبشده فاقد الشي يعطيه

      انا فقدت الحنان من صغري واعطيته بكل قوة لعائلتي واختي فقدت العلم واعطت ابناءها دفعة قوية لحب العلم حتى اصبحوا جميعا اطباء ومدرسين

    • زائر 3 زائر 2 | 1:36 ص

      كلام جميل..

      طبعاً المقصود الحقيقي للمثل "فاقد الشيء لا يعطيه" هي الأشياء المادية وليست المعنوية.. ففاقد الحب والحنان يستطيع أن يعطيها لغيره.. ولكن فاقد الأشياء المادية لا يستطيع إعطائها حتى يحصل عليها.. وشكراً

    • زائر 6 زائر 2 | 6:59 ص

      الشكر

      تستحق الشكر انت واختك لما بذلتماه لعائلتكما، رغم الحرمان الذي واجهته انت واختك الكريمه.

    • زائر 1 | 12:57 ص

      عش رجب تري عجب .. مقال رائع !!

اقرأ ايضاً