العدد 4989 - الأربعاء 04 مايو 2016م الموافق 27 رجب 1437هـ

تفاصيلنا الصغيرة... حياة أخرى

سوسن دهنيم Sawsan.Dahneem [at] alwasatnews.com

في التفاصيل تكمن حياة أخرى لا يمكن لأي شخص يرى الأمور بشكلها المجمل العابر أن يعيشها.

التفاصيل الصغيرة ترسم المشهد الكامل، فألوان اللوحة والخطوط المستخدمة في رسم المحتوى وإحساس الفنان إضافة إلى شكل الإطار أو عدم وجوده ومكان اللوحة، يكوّنون المشهد النهائي لها، ولا يمكن لأي متذوق للفن ألا يلتفت إلى أي من هذه التفاصيل الصغيرة، مثلها مثل أي أغنية تمر بنا... لحنها، كلماتها، صوت مغنيها وأداؤه ونَفَسه ووقفاته هي التي تحتم علينا حب الاستماع لهذا أو النفور من ذاك.

كذلك هي الحياة، جميلة بتفاصيلها التي كثيراً ما نغفلها، ولا نهتم بها لكونها صغيرة أمام المهام الكبرى والأهداف المعقدة التي نسعى إليها فنضيع على أنفسنا الكثير من المتعة.

متعة فرح أب برسالة صاغتها طفلته وبقيت وقتاً طويلاً تحاول زخرفة ورقتها، متعة انتظار زوجة عودة زوجها من عمله لاستقباله بابتسامة، متعة أن تستقبلك زوجتك بابتسامة وهي تنظر إليك بسعادة، متعة توصيل الأطفال إلى المدرسة والأحاديث البسيطة التي تدور بينهم وبين آبائهم طوال الطريق. متعة الهواء النقي الذي يستنشقه أي منا وهو واقف على ساحل البحر، أو رائحة القهوة لمحبيها وهم يرتشفونها على مهل، أو متعة انتظار الشاي وهو «يخدر»، ومتعة أكل وجبة انتظرها أحدنا طويلاً ووجدها أخيراً على المائدة، أو متعة استنشاق رائحة الورق وتحسس الأحرف في كتاب نقرأه بشغف.

هذه التفاصيل التي باتت تمر بنا مروراً سريعاً وغير ملتفت إليه، تشكل جزءاً كبيراً من السعادة المفقودة؛ إذ لم نعد ننظر إليها إلا باعتبارها روتيناً أو واجباً لابد وأن نقوم به لتستقيم الحياة من غير الاستمتاع بها، وكأننا لا نحقق السعادة إلا بتحقيق الأهداف الكبرى.

إحدى الصديقات كانت تشعر بالمتعة عندما تستيقظ فجراً لتفتح نافذتها وتسمع صوت العصافير وهم يلهون في عشهم الذي بنوه على حافة مكيف غرفتها. كانت ترقبهم كل يوم منذ بداية بناء العش قشة قشة، وصولاً إلى وضع البيض وفقسه، وانتهاءً بطيرانهم بعد ذلك إلى وجهة غير معروفة، تجد متعتها وهي تراقبهم وتأخذ لهم الصور وترسلها بكل سعادة لنا تذيلها بعبارة: مشاهداتي لجيراني هذا اليوم!

أخرى تجد متعتها في استيقاظها وبحثها عن رسالة صديقتها المغتربة وتفقدها لحالة الطقس في بلادها الجديدة كل يوم كي تعرف أجواءها التي تعيشها وتتخيل ماذا سترتدي.

وشاعر ينتبه لأدقِّ التفاصيل في الصور التي ترسلها حبيبته له، فيكتب القصائد عن إصبعها الذي ظهر في الصورة بشكل غير مقصود أو عن حبة خال في وجهها لم ينتبه لها من يرونها كل يوم!

هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تشكل الحياة، وكما يقول الفيلسوف باشلار في أحد التسجيلات: لا يمكن لأحد أن يحصرني في صورة فيلسوف بعيداً عن تفاصيل الحياة اليومية فأنا أستمتع بقطعة الجبن وبالطبخ وبالذهاب إلى الجزار والبستنة، هذه التفاصيل هي التي تشعرني بالحياة».

إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"

العدد 4989 - الأربعاء 04 مايو 2016م الموافق 27 رجب 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 3:25 م

      النفوس الجميله

      ياريت كل الناس كانت تمتلك هذه النفوس الجميله المتفتحه والرقيقه والشفّافه كما أنتي عزيزتي..

    • زائر 4 | 6:35 ص

      تكتبين دائما ما نريد أن نقوله فشكرا لانك تعبرين عن مشاعرنا

    • زائر 3 | 2:24 ص

      جميل جميل جميل
      الحياة لا تستقيم الا بهذه التفاصيل التي تجلب السعادة

    • زائر 6 زائر 3 | 3:30 م

      وأنت أجمل

      مختصر مفيد

    • زائر 2 | 12:26 ص

      هذه النعم المفقود التى لا يستشعرها الانسان وييحث عن الاشياء التى لا يمتلكها وفى النهايه عدم الحمد والشكر

    • زائر 1 | 9:54 م

      هامان

      مقال رائع استاذتي الجليله الجميله

اقرأ ايضاً