العدد 5008 - الإثنين 23 مايو 2016م الموافق 16 شعبان 1437هـ

الشأن المغاربيّ... فصل الدينيّ عن السياسيّ: حركة النهضة التونسية نموذجاً

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

شدّ المؤتمر العاشر لحزب حركة النهضة التونسية والمنعقد بتونس في الفترة 20 - 22 مايو/ أيار 2016، الانتباه إليه لأسباب عديدة؛ لعلّ أبرزها السياق الوطني والإقليمي والدولي الذي ينعقد فيه هذا الحدث المهمّ في تاريخ الحركة بتونس.

وقد شدّت الوفود الإقليمية والشخصيات الدولية الرحال إلى تونس لحضور هذا المؤتمر الذي حضره أيضاً رئيس الجمهورية التونسية الباجي قايد السبسي، فضلاً عن شخصيات سياسية، قديمة وجديدة، من الساحة السياسية التونسية.

وقد انقسم المحللون في الحكم على أهمية هذا المؤتمر؛ إذْ نفخ فيه البعض واعتبره منعرجاً حاسماً في تاريخ الحركة، حتّى شبهوه «بالزلزال الذي يتخطى في تداعياته محيط الحركة الضيق ليمسّ المشهد السياسي في تونس عموماً، وتجربة الإسلام السياسي بصفة أعمّ». في حين اعتبره آخرون عادياً بل ومجرد تغيير «لوك» ولا يختلف عن المؤتمرات السابقة إلا في كونه الثاني الذي يُعقد في العلانية وتحت الأضواء الكاشفة.

إنّ دخول النهضة إلى الحياة السياسية بشكل علني وقانوني بعد الإطاحة بالرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ثم دخولها السلطة من بوابة الانتخابات أواخر العام 2011، جعل تجربة الإسلام السياسي تحت المحك، ولم يكن من الهيّن في بلد مثل تونس أن تعانق هذه التجربة النجاح بسهولة، لا لعدم نضجها ووضوح برامجها فقط، وإنّما لضغوطات المرحلة اقتصادياً واجتماعياً وفكرياً في تونس بعد الثورة، فضلاً عن التعددية الفكرية والسياسية التي ميزت الحياة السياسية منذ 2011، دون أن نغفل عن الضغوطات الإقليمية والدولية.

لكن رغم ذلك استطاعت هذه الحركة أن تصمد، على رغم سقوط «الإخوان المسلمون» في مصر بعد أن وصلوا إلى السلطة أيضاً. بل واستطاعت المنافسة في الاستحقاقات الانتخابية 2014 وكانت القوة السياسية الثانية، بل ها هي تتحوّل بسبب تشتّت خصومها إلى قوة سياسية أولى برلمانياً، عقب تفكّك كتلة «نداء تونس»، وعلى رغم ذلك آثرت أن تظهر بثوب المتعفّف عن السلطة والراضي بأطر خريطة القوى السياسية الناتجة عن انتخابات 2014 دون فرض تعديل عليها.

في هذا السياق المرتبك، يأتي المؤتمر العاشر ليطرح حزمةً من الإصلاحات لعلّ أهمّها فصل الدَّعوي الدينيّ عن السياسيّ المدنيّ، وقد جاء هذا صريحاً على لسان رئيس الحركة الأستاذ راشد الغنوشي في افتتاح المؤتمر: «ندعو إلى التحييد الكامل للمساجد عن الخصومات السياسية والتوظيف الحزبي لتكون مجمّعةً لا مفرّقة». وبناء على هذا الفصل فإنه من المنتظر أن تشهد الحركة تطوراً بحيث لن يكون الدين معياراً للانضمام إلى الحزب الجديد، فالحركة تطمح إلى الانتشار والانفتاح على بقية مكونات المجتمع التونسي؛ بل وربما حتى المصالحة مع بعض رموز النظام القديم والذين عادوا إلى الحياة السياسية تدريجياً في إطار مصالحة وطنية عامة.

كما أنّ الحركة قد استوعبت الدرس وفهمت عقلية الناخب التونسي الذي يميل اليوم إلى عدم الخلط بين الدين والسياسة، وهو ما ينص عليه الدستور. كما أنّ عدم ارتياح بعض القوى الخارجية، غربيةً كانت أو عربيةً، إلى مشروع الإسلام السياسي يفرض على النهضة، إن أرادت لعب أدوار في الحياة السياسية، أن تكون حزباً سياسياً مدنياً ديمقراطياً حتى تكون عند مستوى انتظارات الرأي العام الوطني والدولي. لذلك اختارت أن تترك الجانب الدعوي والعمل الثقافي للجمعيات وتتفرغ بذلك للحياة السياسية بكلّ إكراهاتها.

والحقيقة أنّ هذا القرار يكشف عن عقل سياسي براغماتي يمارس السياسة بحسابات ومناورات وتنازلات؛ حيث استبعدت النهضة كل رموزها الدعوية والمتشددة عن المشهد السياسي في انتخابات 2014، كما أنّ وجوهها البارزة لا تمارس أيّ نشاط دعوي، وحتى خطيبها ونائب رئيسها عبد الفتاح مورو، لم يعد يخطب في المساجد، وتقتصر مشاركة رئيس الحزب في المنتديات العالمية بأوراق فكرية. بل لم تعد الحركة في السنوات الأخيرة تنتج خطاباً دينياً يلقى اهتماماً لدى الشباب، هذه الفئة التي نجحت التيارات السلفية بأنواعها في استقطابها وهنا تكمن أهمية هذا القرار؛ فالمناخ العام الذي تمر به المنطقة العربية راهناً في ظل تصاعد حركات التطرف، يدفع الحركات ذات المرجعية الإسلامية نحو التغيير والتأقلم إلى ما يشبه الأحزاب «الإسلامية المُعلْمنة»، خاصةً وأنّ التطرف بات أكبر تهديد يواجه وجود الحركات الإسلامية نفسها.

لكن يبقى على النهضة رهان آخر، ألا وهو إثبات مصداقيتها في الفصل بين الدعوي والسياسي، ومدى قدرتها على أن تكون حزباً وطنياً ليس له أجندات خارجية، يعتمد الديمقراطية والشفافية ممارسة وسلوكاً ويهتم بالشأن السياسي والاقتصادي كأولوية لخدمة الشعب.

إن ما تُقْدِمُ عليه حركة النهضة التونسية، وهي تجدّد ثقتها في رئيسها الحالي راشد الغنوشي وتعيد انتخابه في نهاية أشغال المؤتمر، ليس بالأمر الهيّن؛ إنها قضية جوهرية لأن تغيير هوية حزب عقائدي لا يمكن أن يتمّ في سنوات قليلة بل يقتضي عقوداً أحياناً، لأن الخيارات الفكرية الكبرى لا تناقش خلال يومين، بل إنّها تتطلب نقاشاً داخلياً وخارجياً في العمق حتى تنضج الفكرة، وهذا النقاش لا نتصوّر أنه حصل في غضون هذه السنوات القليلة المزدحمة بالعمل السياسي في السلطة، لذلك نرجو أن لا يكون ما حصل مجرد تقسيم للأدوار فحسب.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 5008 - الإثنين 23 مايو 2016م الموافق 16 شعبان 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 3:41 ص

      خطوة مهمة في اتجاه تصحيح المسار السياسي لهذا الحزب

    • زائر 2 | 2:19 ص

      أذكر يا استاذ أن بيان السابع من نوفمبر عندكم كان لا "يشقّ له غبار" في الوعود الورقية (النظرية)
      نتمنى أن تؤكد حركة النهضة هذه الوعود بالعمل على تجسيمها على ارض الواقع
      ولا ننسى أن نشكرك أستاذنا على متابعتك الدقيقة لكلّ ما يحدث في دول المغرب العربي الكبير.

    • زائر 1 | 12:22 ص

      جميلة الخاتمة يا أستاذ أحسنت
      إنها قضية جوهرية لأن تغيير هوية حزب عقائدي لا يمكن أن يتمّ في سنوات قليلة بل يقتضي عقوداً أحياناً، لأن الخيارات الفكرية الكبرى لا تناقش خلال يومين، بل إنّها تتطلب نقاشاً داخلياً وخارجياً في العمق حتى تنضج الفكرة، وهذا النقاش لا نتصوّر أنه حصل في غضون هذه السنوات القليلة المزدحمة بالعمل السياسي في السلطة، لذلك نرجو أن لا يكون ما حصل مجرد تقسيم للأدوار فحسب.

اقرأ ايضاً