العدد 5085 - الإثنين 08 أغسطس 2016م الموافق 05 ذي القعدة 1437هـ

سِرْت الشّهيدة

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

هذه سِرْت الشهيدة، المدينة الليبية التي لم يخلُ عصر من التاريخ القديم، ولا الحديث إلا وعصف بها؛ بِبِنيتها التحيتة ومقدراتها الطبيعية، بتاريخها وحاضرها، بعبادها ونباتها. سِرْت الشهيدة تمرّ بأسوأ فترات تاريخها الحديث والمعاصر، سِرت تخاذَلَ عنها المتصارعون على السلطة بعد سقوط نظام معمر القذافي، فتكالب عليها الدواعش واستشروا فيها حتى صارت لهم قاعدة ممتدة الأطراف. وها هي قوات حكومة الوفاق الليبية اليوم تخوض معارك ضارية للقضاء على تنظيم داعش فيها بدعم جوي أميركي. فما حكاية مدينة سرت الشهيدة مع الماضي والحاضر؟

تُعَدُّ سرت من الحواضر التاريخية المُهمّة قديما؛ إذْ تركت الحضارة البونيقية والفينيقية والرومانية شواهد على مرورها بها؛ حيث كانت محطّة مهمّة على طريق القوافل بين برقة وطرابلس وبين إفريقيا. ولاتزال تحتلّ موقِعا استراتيجيّا؛ فهي تقع على بعد 300 كلم من الساحل الأوروبي وفي منتصف الطريق الساحلي بين طرابلس وبنغازي وعلى بعد 180 كلم من مصراتة في الغرب.

وقد نشأت مدينة سرت حوالي منتصف القرن الثامن الميلادي، وقد ذكر الرحالة والجغرافي ابن حوقل هذه المدينة: «وسرت مدينة ذات سور صالح كالمنيع من طين وطابية وبها قبائل من البربر، ولهم مزارع في نفس البرّ تُقصد نواحيها إذا مُطرت وتنتجع مراعيها...»

حديثاً، اغتصب الإيطاليون مدينة سرت في (31 ديسمبر/ كانون الأول 1912) وشهدت أهم معركة، معركة القرضابية، ضد الإيطاليين في (29 إبريل/ نيسان 1915) معركة اتحد فيها كل الليبيين والتي هزم فيها الإيطاليون بقيادة الجنرال أمياني وفيها عقد أول مؤتمر للوحدة الوطنية يوم السبت (22 يناير/ كانون الثاني 1922) أيام الجهاد ضد الغزو الإيطالي لليبيا.

وفي عهد نظام معمر القذافي حظيت سرت، التي ينتمي سكانها إلى القبائل الأربع الأكثر شهرة في المنطقة، وهم القذاذفة وورفلة والفرجان والمقريحة الأقرب والأشدّ ولاء للنظام السابق، بعناية فائقة؛ كونها مسقط رأسه، حيث نفذت مشروعات البنية التحتية، وأنشئت جامعة في المدينة التي ازدهرت بها حركة التعمير، وانتشرت المباني الحديثة، كما اكتسب ميناء سرت أهميّة أكبر مع تطور استخراج النفط البحري.

وجرى إنشاء «مركز واغادوغو» للمؤتمرات ذي القاعات الرخامية والذي يعتبر من أهم المراكز في المنطقة، وفيه تمّ إعلان الاتحاد الأفريقي في (9 سبتمبر/ أيلول 1999)، كما عقدت في قاعاته القمة العربية الثانية والعشرون. واختيرت سرت عاصمة للثقافة العربية في العام 2011. وتطل مدينة سرت بخليجها على البحر الأبيض المتوسط، خليج سرت الذي شهد مواجهات بين ليبيا وأميركا حتّى أطلق على المدينة إبان فترة حكم القذافي اسم «الرِباط الأمامي»، وسمّي خليج سرت وقتها للسبب ذاته باسم «خليج التحدي».

وكانت سرت خلال ثورة 2011 هدفا لهجمات الثوار بعدما تركزت القوات الموالية للقذافي فيها، بينما جعلها ابنه المعتصم منطلقاً لشن هجمات على الجبهتين الشرقية والغربية ما عرّضها لدمار كبير حوّل شوارعها إلى ركام. وفيها اعتقل القذافي العام 2011 وقتل بعد أن لجأ إليها إثر سقوط طرابلس.

وفي الوقت الذي تعاظمت فيها الضربات الجويّة على مناطق نفوذ تنظيم (داعش) في سورية والعراق، كانت سرت ترزح تحت نَيْرِ التهميش والانشقاق بين السلطات الجديدة إذْ هي خارج سيطرة المتنازعين على السلطة في ليبيا حتى اعتبرت المدينة المنسيّة، فتحوّلت إلى ملاذ لتنظيم (داعش) ووقعت تحت سيطرته في (يونيو/ حزيران 2015). وجعل التنظيم من سرت قاعدة خلفية له تستقطب المقاتلين الأجانب الذي يجرى تدريبهم على شن هجمات في الخارج.

وقد وجد التنظيم فيها ضالته؛ حيث تضم المدينة ميناء على البحر المتوسط، ومطارا دوليا وقاعدة جوية. كما تضم جامعة حكومية، ومستشفى، ومصارف، ومجمعاً للمؤتمرات (مركز واغادوغو) اتخذه التنظيم مقرا لعملياته العسكرية. وكان قربها من منطقة «الهلال النفطي» إلى الشرق وراء تغذية أطماع تنظيم «داعش» الذي يهدف الى السيطرة على منافذ التصدير والموانئ النفطية.

كما أن موقع سرت في الوسط الساحلي الليبي يجعلها تشرف على كل السواحل الليبيّة وتمتد قرب العمق الإفريقي في اتجاه مصر، وفي العمق المغاربي في اتجاه الجزائر عبر تونس، هذا الموقع أغرى الدواعش ليُحوّلوها إلى كابوس عسكري وأمنيّ لدول الجوار.

وقد كان يعيش في مدينة سرت أكثر من 120 ألف شخص قبل سيطرة (داعش) عليها لكن 75 في المئة منهم فروا ولم يبق سوى 30 ألف مدني؛ فقد قطعت الأيادي في هذه المدينة الشهيدة، وأعدم الناس في الساحات، وفي شوارعها الرئيسية رفعت رايات التنظيم السوداء، ومنعت النساء من مغادرة منازلهنّ من دون محرم.

وفي الآونة الأخيرة، استطاعت قوات حكومة الوفاق منذ انطلاق عمليات البنيان المرصوص في (مايو/ أيار الماضي) دَحْر داعش في مدينة سرت ومحاصرة مقاتليه. وفي (9 يونيو) دخلت قوات الوفاق الليبية إلى المدينة وباتت تحاصر الجهاديين فيها. ويمكن الإقرار بأنّ العد التنازليّ لداعش بدأ في الشرق الليبيّ عبر طرد التنظيم من درنة نهائيًّا، حيث أصبحت هذه المدينة منذ (20 إبريل 2016) محرّرة. وها هي سرت على خطاها تسير. كل هذا تحقّق دون وجود قيادة عسكرية موحّدة بين حكومة الوفاق المعترف بها دوليّا وقوات الجنرال حفتر في بنغازي. فما بالك لو استطاعت هذه القوى أن تضع اليد في اليد من أجل مصلحة ليبيا.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 5085 - الإثنين 08 أغسطس 2016م الموافق 05 ذي القعدة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 9:14 ص

      ليبيا ملف شائك يحتاج إلى جهود داخلية وخارجية متداخلة لكن قد يكون القضاء على داعش فيها بوابة المصالحة والوحدة الوطنية

    • زائر 1 | 6:11 ص

      شكرا على المقال وهذه الخاتمة أبدعت فيها: "كل هذا تحقّق دون وجود قيادة عسكرية موحّدة بين حكومة الوفاق المعترف بها دوليّا وقوات الجنرال حفتر في بنغازي. فما بالك لو استطاعت هذه القوى أن تضع اليد في اليد من أجل مصلحة ليبيا."

اقرأ ايضاً