العدد 5162 - الإثنين 24 أكتوبر 2016م الموافق 23 محرم 1438هـ

جليل العطية... ضيق «القصة» وسعة «التراث»

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

في أكتوبر/ تشرين الأول 2015 أتيح لي أن ألتقي بالمحقق العراقي الكبير جليل العطية، أطال الله في عمره على هامش المؤتمر السنوي الدولي الثاني لحفظ التراث المخطوط الذي أقامته العتبة العباسية المقدسة في مدينة كربلاء. عرفت العطية مُحققاً، أخرج للمكتبة العربية عدداً من نفائس المخطوطات التي ظفر بها في مكتبات العالم المتعددة، خصوصاً في باريس، مقرّ إقامته منذ 1978، والمدينة التي احتضنت أحلامه، وأنهى تعليمه العالي في دكتوراه الدولة من أعرق جامعاتها (السوربون)، عن رسالته بشأن «تطور المجتمع العراقي بين الحربين العالميتين».

وقد توفّر الوقت الملائم خلال أيام المؤتمر لمجالسته والاستئناس بحديثه الشيق، وخبرته الواسعة في الحياة، ورحلته الشاقة والغنية مع الأدب وكتابة القصة القصيرة، ثم التوجه بشأن ما يصفه بـ«الينابيع»، التراث العربي، قارئاً ودارساً ثم مُحققاً للنفائس الفريدة.

كنت قد اقتنيت واطلعت قبل أن ألتقيه على بعض أعماله منها «القيان» و«النساء الشّواعر» لأبي الفرج الأصبهاني، و«أخلاق الملوك» لمحمد بن الحارث الثعلبي، و«تُحفة العروس ومُتعة النفوس» لمحمد بن أحمد التجاني، وتابعت له من الأعمال «الجواهري شاعر من القرن العشرين»، و«فندق السعادة»، وكنت أتابع باهتمام خاص كتاباته المنتظمة في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، والتي كانت تدور في مجملها عن مخطوط أدبي ذي قيمة تاريخية، أو شخصية من التراث العربي والإسلامي، أو كتاب تراثي نُسب خطأً لغير مؤلفه، ولازلت أحتفظ ببعضها في مكتبتي، وعلى ذلك ترسّخت في ذهني شخصية العطية، الكاتب المحقق، ذي النتاج الرصين.

وحين التقيته وجدته يشبه نصوصه، أو لنقل وجدتُ نصوصه انعكاساً أميناً لشخصيته، أدب وافر ووقار لا تكلف فيه، واضح وسلس، ويستخدم الكلمات بجمالية الأديب، ومكنة الشاعر، ودِقّة العالِم.

سألته عن البدايات فقال: نشأت في أسرة علمية زادها الأدب والثقافة والتراث، وطالعت الكثير من القصص والروايات وسواها مما وجدته في مكتبة الأسرة، ومكتبة ثانوية الكوت للبنين حيث درست، والمكتبة العامة في الكوت.

وأدين بالتوجه للممارسة الكتابة إلى ثلاثة أشخاص، أخي وأستاذي خليل العطية، وأستاذي أحمد محمد الشحاذ، والشاعر الأديب محمد جواد خضر. وكان الحصاد نشر نحو ثلاث عشرة قصة قصيرة نشرتها ما بين 1956 – 1963.

وعندما سألته عن سبب ارتحاله إلى التحقيق، وهجر القصة القصيرة قال: السبب يعود إلى اعتذار مجلة الأدب البيروتية عن نشر قصة لي أعجب بها صديقي القاص الراحل نزار عباس، وكان ذلك نحو 1966. لقد شعرت يومذاك أنني مشدود إلى واقعية جيل الخمسينات، والأفضل لي العودة إلى الينبوع: التراث العربي الزاخر بكل طريف ولذيذ، أما الصحافة فكانت وسيلة العيش، وطريقةً للخدمة العامة وللتعبير أيضاً.

وكان لأخي خليل دورٌ كبيرٌ في ارتيادي طريق تحقيق التراث الشائك، وذلك بعد أن كلّفني سنة 1962 تصحيح ومراجعة كتابه الأول ديوان المزرد الغطفاني، شاعر العصر الإسلامي الأول، ثم شاركته في جمع وتحقيق ديوان ليلى الأخيلية الذي صدر في بغداد 1967، فاقتضى ذلك أن أملك أدوات المحقق، وهي إتقان اللغة العربية بعلومها المختلفة، وتمييز الشعر، والإلمام بالعلوم الإنسانية كافةً، كالجغرافيا والتاريخ والفلسفة وغير ذلك.

يضيف العطية: «غوصي في التراث العربي جعلني مؤهلاً لكتابة البحوث والدراسات في شتّى المجالات. أنا لا أؤمن بالتخصص العلمي الدقيق، فالإنسان يملك طاقةً لا حدود لها على الإبداع والتميز إن هو أحسن استغلال مواهبه وقدراته بشكل صحيح».

سألته عن المخطوطات العربية وحجم حصة غير المنشور منها، فقال: «لا نملك مع الأسف إحصاءات دقيقة عن أعداد المخطوطات العربية، فهي تتراوح ما بين نصف مليون وأربعة ملايين، والمؤكد أن عدة ألوف من هذه المخطوطات لاتزال بعيدة عن عيون المحققين، وهناك مخطوطات ثمينة ناقصة من بدايتها ونهاياتها مجهولة، وثمة مكتبات لم تفهرس مخطوطاتها بعد، وقد تضم مخطوطات نادرة أو فريدة نفيسة، ففي موريتانيا على سبيل المثال هناك مكتبات كاملة من المخطوطات مجهولة، مهملة تتناهبها آفات الرطوبة والعثّ في ظروف بيئية صعبة. كل هذا يتطلب جهوداً مضنية، جماعية من قبل المؤسسات أو الهيئات المتخصصة كي تضع خطة لحصر هذه المخطوطات، وتصويرها ووضعها بين أيدي المحققين والباحثين. ولا شك إننا سنقع على الكثير من المفاجآت بين هذه المجموعات الخطية.

وذكر العطية أن الكمية الكبرى من المخطوطات العربية محفوظة في مكتبات تركيا، حيث يقدّر بنحو نصف مليون مخطوط، نصفها في مكتبات اسطنبول، وحدها مكتبة السليمانية تضم أكثر من مئة ألف مخطوطة. ومعظم هذه المخطوطات انتزع من مساجد وجوامع الأقطار العربية التي حكمتها الدولة العثمانية أكثر من أربعة قرون. وللكثير من المكتبات التركية فهارس. وقد اطلعت على مجلدين منه. وإذا تم طبع هذا الفهرس فستكون الفائدة منها عظيمة للباحثين.

ومن المكتبات الأوروبية الغنية بالمخطوطات العربية «مكتبة برلين»، وقد صنع المستشرق الألماني «الوردات» فهارس متقنة لها، تقع في عشرة مجلدات. و»مكتبة شستربتي» في دبلن بايرلندا تحفل هي الأخرى بنفائس المخطوطات. وقد وضع المستشرق البريطاني «اربري» فهرساً رائعاً لها، و»مكتبة إيروزونا» في مدينة ميلانو الايطالية تزخر هي الأخرى بمجموعة كبيرة من المخطوط العربية، وتنفرد بأكبر مجموعة نادرة من المخطوطات اليمنية.

استفززت ذاكرة العطية فتحدّث عن علاقاته بمفكرين وأدباء وشعراء بغداد، الجواهري والوردي، وسَرَد الشيء القليل مما تحتفظ به ذاكرته الممتلئة، كما تحدّث عن مشاريعه وأعماله البحثية والتحقيقية، عسى أن تتاح الفرصة للحديث عن هذه القضايا في مقالة أخرى.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 5162 - الإثنين 24 أكتوبر 2016م الموافق 23 محرم 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً