العدد 5204 - الإثنين 05 ديسمبر 2016م الموافق 05 ربيع الاول 1438هـ

الشأن المغاربيّ... درس الفلسفة وثقافة التسامح... تحيّة إلى صديقي محبّ الحكمة

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

ليس من الصدفة أو من الغريب أن يتزامن اليوم العالميّ للتسامح (16 نوفمبر/ تشرين الثاني) مع اليوم العالميّ للفلسفة والذي يحتفى به عادة في ثالث يوم خميس من شهر نوفمبر أو ما يصطلح عليه في بعض الدول بأسبوع الفلسفة. ليس من الغريب ذلك، ولا من الصدفة، لأنّ ما يقرّب الفلسفة إلى التسامح والتعايش أكثر ممّا يبعده عنهما؛ فجوهر درس الفلسفة أن تعرف نسبية الحقيقة التي تمتلكها، وتقدّر وتحترم غيرك ممّن يملك هو ما يراه حقيقة حتى وإن اختلفت معه.

درسُ الفلسفة في الوطن العربي عموماً لايزال يراوح مكانه إذ يكاد يكون محصوراً في أروقة الجامعة، وحتى إن أنزلته بعض الأنظمة التربوية إلى مرحلة التعليم الثانوي فباستحياء؛ حيث يقتصر على الصف النهائيّ، وذلك في التعليم النظامي أو الحكومي، أمّا في التعليم الخاص، والذي يؤمّه عدد غفير في وطننا العربي، فلا يكاد درس الفلسفة يقرب تلك المدارس. وإذا كان هذا حال معظم الدول العربية مع درس الفلسفة، فإنّ بلدان المغرب العربي تمثّل استثناءً جميلاً ولاسيما تونس والمغرب وكذلك الجزائر.

تحتفل اليونسكو باليوم العالمي للفلسفة كل عام، بناءً على إعلان المؤتمر العام لليونسكو للدورة الـ 33، (باريس 2005). وترفع اليونسكو شعار الفلسفة سبيل للتعايش والتسامح والسلام حيث توجّهت المديرة العام لليونسكوِ إيرينا بوكوفا بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة برسالة جاء فيها: «إن القناعة بأن الفلسفة قادرة على الإسهام إسهاماً أساسياً في تحقيق الرفاه الإنساني والتصدي للمسائل المعقدة ودفع السلام قُدُماً تقع في صميم اليوم العالمي للفلسفة». ولم يتخلّف المثقّفون في البحرين هذا العام عن الركب العالميّ في الاحتفاء بالفلسفة؛ فقد احتضن مثلاً رواق «مشق» الثقافي مساء السبت (3 ديسمبر/ كانون الأول) لقاءً شيقاً بعنوان «جدل» لتباحث بعض أسئلة الفلسفة، ولعلّ هذه خطوة في مسار الألف ميل، لإنزال أمر الفلسفة إلى طاولة الحوار مع مرتادي الرواق، وربما سنة بعد سنة ينجذب الجمهور العادي إليها.

أمّا في بعض عواصم العالم كباريس وروما وغيرها وحتى بعض عواصم ومدن بلدان شمال إفريقيا كتونس والمغرب، فإنّ عادة الاحتفاء بالفلسفة قد تمتد أسبوعاً كاملاً في محاولة تقريبها إلى أوسع عدد ممكن من الجمهور، سعياً من محبي الحكمة إلى جسر الفجوة التي اصطنعها ورثة فكر أبي حامد الغزالي الذي كفّر الفلسفة والفلاسفة حيناً وبدّعهم حيناً آخر في كتابيه الشهيرين «تهافت الفلاسفة» و «إحياء علوم الدين»؛ فقد شهدت الفلسفة في العالم العربي الإسلامي ازدهاراً ملحوظاً ما بين العامين 150 و450 هجرية، غير أنّ هذا الازدهار والنجاح سينحسر مع بداية القرن الثالث عشر الميلادي/السابع الهجري، ومع هذا الانحسار سيبدأ العقل الإسلامي في الانسحاب من الساحة العلميّة، في الوقت الذي بدأ فيه الغرب بالازدهار.

ولعلّ الفيلسوف الأندلسيّ «ابن رشد» خير مثال على سطوة الثقافة المنغلقة على ذاتها، ورفضها كل محاولات التفكير من خارج أطرها أو حتى من داخلها؛ ولكن بمنهج تفكير وآليات فهم وتحليل وتأويل مختلفة، لذلك أصاب مؤلفاتِه النسيانُ والفشلُ في المجتمعات العربية، بينما الفكر نفسه والمؤلفات نفسها ترجمت إلى اللاتينية، وحظيت بنجاح متزايد في المجتمعات الأوروبية المسيحية حتى القرن السادس عشر.

هذه الأزمة نكاد نجترّها الآن مع بروز تيارات متشدّدة، أخذت تلعن درس الفلسفة وتدعو إلى التخلي عنه؛ بل وتنعت مدرس الفلسفة في الجامعة أو المدرسة الثانوية بالإلحاد، فدرس الفلسفة وللأسف يتعرّض للهرسلة بشكل مستمر حتى تأصّل ذلك في لا وعينا؛ فكل من يأتي بفكرة مغايرة يشوبها بعض الغموض أو الصعوبة إلاّ وقيل له: «تتفلسف علينا» ولم أسمع هذا من عامة الناس فقط؛ بل من خاصتهم من بعض رجال التعليم ورجال الدين وغيرهم.

لقد استطاعت المغرب وبدرجة أقل الجزائر وتونس، منذ بداية القرن العشرين، وخاصة في ربعه الأخير وحتى اليوم، أن ترفد المكتبة الفلسفية العربية الإسلامية بروائع من المؤلفات، حتى نكاد نتحدّث بكل ثقة عن فكر فلسفي مغربيّ على نحو ما أنتجه محمد عزيز الحبابي، من إبداع لمذهب الشخصانية الإسلامية والواقعية وفلسفة الغدوية، التي تنظر في مستقبل الإنسان والعالم الثالث على حد تعبيره. واستمرت هذه العقلانية مع كل من محمد عابد الجابري في قراءته للتراث والحداثة بعقل ناقد لا بعقل يستهلك فقط، من خلال مشروعه الرائد لدراسة وتفكيك العقل العربي. وكذا مع عبدالله العروي في «تاريخانية صارمة في قراءته التراثَ»، ومن الجزائر يبرز بلا شك اسم محمد أركون وفي تونس محمد الطالبي وغيرهم. وقد خاضوا جميعاً في علاقة التراث بالحداثة، وهي تكاد تكون الفكرة الجوهرية للفكر الفلسفي العربي المغربي المعاصر.

وهذه الإشكالية هي من صميم همومنا اليوميّة تتجلّى في كلّ ما نأتيه من مواقف وأفعال وأقوال، من دون أن نستخدم مصطلحات الفلاسفة ولا مقدّماتهم ونتائجهم، ولعلّ غياب درس الفلسفة اليوم في كثير المؤسسات التربويّة العربيّة أو انحسارها يمثل سبباً من أسباب كثيرة لاستفحال التطرف الفكري والإرهاب الأعمى الذي يهدد ناشئتنا.

لا مناص اليوم من إعادة النظر في موقع درس الفلسفة في المنظومة التربوية العربية والإسلامية، لا مناص من الاستعانة بها في تعديل الفكر والسلوك عند الشباب، فلقد أكّدت دراسات حديثة في تونس أن نسبة كبيرة من المنتسبين إلى بعض التيارات التكفيرية، هم من متخرجي الشعب العلمية، حيث لا تدرّس الفلسفة والفنون وغيرهما من المواد ذات الصبغة الأدبية لطلبة المسارات العلمية والهندسية والطبية في الجامعة، ولعلّه من بين القرارات الصحيحة لوزارة التربية والتعليم في تونس، هو طرحها على طاولة النقاش إدراج هذه المواد في الجامعة لطلبة المسارات العلمية.

إنّ درس الفلسفة يستطيع أن يحقق ما يعجز عنه الكثير في نشر ثقافة التسامح والسلام؛ ولمّا كان التعليم منطلق كل تنمية مستديمة، ومبدأ كل تقدم وتغيير وابتكار، فالفلسفة هي المجال الأقرب للتشجيع على التفكير الناقد والمستقل وتعزيز التسامح والسلام.

إنّ الفلسفة تفتح آفاقاً أرحب للحوار، وتجفف منابع التطرف الفكريّ والعنف والإقصاء، وتقدم بذلك ثقافة إنسانية قوامها الاختلاف مع قبول الآخر حتى لا نستمرّ على حالنا وما يمثله عبئاً على البشرية بما ننتجه من تطرف وإرهاب.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 5204 - الإثنين 05 ديسمبر 2016م الموافق 05 ربيع الاول 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 4:57 ص

      "الفلسفة أم العلوم"...هذه الجملة لا تعدو إلاّ أن تكون اختبارا لمعرفتك "الخرائطية"... وباعتبار كلّ حالة اختبار لا تبتعد عن كونها حالة سؤال فالدّرس الابتدائي مع سليم دولة مازال قائما يقبّح وجه الجهل بــــــ "ما الفلسفة"؟. فالفلسفة هي "siege" أمّا بقيّة العلوم فهي فروع "Branche" ....
      أشكرك أستاذ سليم ... وأذكّرك بالقامة المديدة في دراسة التراث هشام جعيط، التي سنحت لي ظروفي كي أقرأ كتابه الفتنة الكبرى .... أمّا تدريس الفلسفة فرأيي من رأيك أستاذي... هو المبيد القاتل لكل الأفكار الطفيلية .

    • زائر 1 | 11:28 م

      أحسنت أستاذ: إنّ درس الفلسفة يستطيع أن يحقق ما يعجز عنه الكثير في نشر ثقافة التسامح والسلام؛ ولمّا كان التعليم منطلق كل تنمية مستديمة، ومبدأ كل تقدم وتغيير وابتكار، فالفلسفة هي المجال الأقرب للتشجيع على التفكير الناقد والمستقل وتعزيز التسامح والسلام.

اقرأ ايضاً