العدد 5255 - الأربعاء 25 يناير 2017م الموافق 27 ربيع الثاني 1438هـ

قرية باربار والوعي الإصلاحي في الثلث الأول من القرن العشرين

يوسف مكي (كاتب بحريني) comments [at] alwasatnews.com

كاتب وباحث بحريني

كنا في مقالة سابقة في عدد «الوسط» رقم 4912 في 18 فبراير/ شباط العام 2016 تناولنا البنية الاجتماعية والثقافية لقرية باربار في الثلث الأول من القرن العشرين. واستكمالاً لهذا الموضوع؛ ولكي تتضح الصورة نتناول في هذا المقال بعض ملامح الوعي السياسي الإصلاحي في القرية.

وبطبيعة الأمور كما كانت البحرين في أواخر القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين تتطلع إلى تحولات في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية بما يواكب المتغيرات والمستجدات الحاصلة، فإن القرى وعلى رغم العزلة لم تكن بمنأى عن مواكبة قطار التغيير، الذي بدأت تباشيره في كل من المنامة والمحرق على أيدي النخبة المجتمعية من تجار ومثقفين ونواخذة ورجال دين، وطبقات وسطى في كلا المدينتين.

وكما حدث في المدينتين حيث كان الوجهاء والتجار والمثقفون وأبناء الطبقات الوسطى على تواصل بما يجري في العالم العربي والإسلامي من تغيرات، وذلك من خلال السفر والهجرة إلى الهند من جهة، واطلاعهم على ما يجري هناك من جهة أخرى، وتواصلهم مع الإصدارات الثقافية الداعية للتغيير مثل مجلة «الهلال» المصرية منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، وتفاعل النخبة البحرينية معها، وكذلك التفاعل مع مجلة «بلاد العرب» العراقية، هذا فضلاً عن «العروة الوثقى» للأفغاني محمد عبده الصادرة في باريس ابتداءً من 1884 وغيرها مثل مجلة «لغة العرب» للكرملي، وكذلك التعرف إلى الأفكار الإصلاحية والسياسية والليبرالية التي كانت تسير حثيثاً وغيرها، كلها ساهمت في انتشار هذه الأفكار في ربوع البحرين والدعوة إلى التنوير والاصلاح.

وشيئاً فشيئاً أخذت النخبة المجتمعية تزداد ليس في المنامة والمحرق فقط؛ بل تتوسع وتنتشر في مختلف مناطق البحرين، ومن ضمنها القرى بطبيعة الحال مع تفاوت نسبي بين منطقة وأخرى، أو قرية وأخرى، لكن الميل العام هو بروز نخبة مجتمعية بدأت تستوعب الثقافة السياسية الحديثة، ونظم الدولة الحديثة وقوانينها في القرى وفي المدن.

ومع بزوغ القرن العشرين، كانت قرية باربار على موعد مع حوادث سياسية مهمة في تاريخ البحرين. ويستطيع المرء أن يعتبر أن النخبة الاجتماعية دائماً كانت موجودة في المجتمع القروي كالتجار والنواخذة ورجال الدين والوجهاء والمتعلمين تعليماً أولياً، وكانوا على اطلاع لما يجري حولهم، وربما تأثروا به وذلك من خلال تواصلهم مع جهتين ليتبلور ذلك التأثير في شكل أفكار سياسية وثقافية وايديولوجية جنينية. أما الجهتان اللتان تأثرت بهما النخبة المجتمعية في القرية فهما:

الجهة الأولى هي الهند: فقد كان بعض تجار القرية على تواصل مباشر مع الهند بغرض التجارة، ومن الطبيعي أن يتأثروا بهذا القدر أو ذاك بما يدور في الهند من تحديث ونظم حديثة وتطلع نحو التغيير وأفكار تحررية.

الجهة الثانية هي العراق: فبحكم العلاقة الدينية والقومية كان أهالي القرية على تواصل دائم وقوي مع العراق، من خلال السفر للعتبات المقدسة والتواصل الثقافي والديني، والاطلاع على ما يجري هناك من تحولات، وفي وقتِ كان فيه العراق أكثر من غيره مرشحاً لتغييرات واستحقاقات سياسية كبيرة. وأيضاً من الطبيعي والحالة هذه أن يتأثر أولئك المسافرون بما يجري في هذا البلد الشقيق من تغيرات تمس الفكر والواقع.

هذان الأمران والسياسة الاستعمارية المتبعة في البحرين، وفك العزلة عن القرى بحلول مطلع القرن وغيرها، ساهمت كلها مجتمعة في بلورة ثقافة سياسية جنينية حديثة في القرية لدى هذه النخبة، تتساوق والثقافة السياسية الحديثة والبازغة في عموم البلد الداعية إلى الإصلاح، وضرورة بناء نظم الدولة الحديثة، ومواكبة متطلبات العصر، والحد من التدخل الاستعماري في الشأن الداخلي وكذلك الحد من المظالم.

ومع بداية العقد الثاني من العشرينيات، كانت باربار تتمتع من بين القرى بوجود شخصية دينية مهمة هو الشيخ خلف العصفور. وفي الحقيقة كان دوره مزدوجاً فهو رجل دين وفي الوقت نفسه كان سياسياً.

ومن المعروف أن كلمة هذا الشيخ كانت نافذة في عموم مناطق البحرين، وكان يحظى بمكانة كبيرة لدى أهالي القرية، ويعتزون بوجوده بينهم، فقد كانت باربار إحدى مناطق سكناه وله فيها منزل ومسجد مازال قائماً باسمه. وتخوفاً من الإنجليز فما كان منهم إلا أنْ قاموا بنفيه أول مرة إلى العراق في العام 1926. فقام أهالي القرية بأول نشاط احتجاجي في العصر الحديث احتجاجاً على تسفيره من قبل البريطانيين إلى العراق.

وأمام ضغط الأهالي تراجع البريطانيون وأعادوه مرة أخرى مع الطلب منه عدم التطرق إلى القضايا العامة، إلا أنهم بعد أن هدأ الوضع التفوا على مطالب المحتجين، وقاموا بتسفيره نهائياً إلى العراق حتى قضى نحبه هناك بعد عشر سنوات في العام 1936.

وعلى رغم أن الحركة الاحتجاجية كانت عفوية في الظاهر، إلا أنها في الحقيقة كانت تحت تأثير أفكار النخبة الاجتماعية من مثقفين وتجار ورجال دين ونواخذة، التي كانت تتطلع إلى التغيير والإصلاح استجابة إلى الجو العام الذي كانت تعيشه البحرين وقتئذِ.

وأياً تكن نتائج هذه الحركة الاحتجاجية في القرية، فإنها كانت فاتحة وعي ثقافي وسياسي جديد وفعال في العقود التالية طوال القرن العشرين.

فبعد هذه الحركة بثماني سنوات وتحديداً في سنة 1934، كانت القرية تشارك في وفد سياسي يتكون من ثمانية أشخاص، أربعة من القرى أحدهم من قرية باربار هو المرحوم أحمد بن ناصر البرباري (المعروف بالشويخ) وأربعة آخرون من المنامة يتقدمون بمطالب ذات طابع سياسي إصلاحي للحاكم والمستشار بلغريف. ما يعني وجود قيادات سياسية واجتماعية يمكنها تقديم مطالب القرية وبقية القرى، وأن هذه النخبة تعي ما يدور حولها، وتعرف تقديم مطالبها، وأن هناك استحقاقات مجتمعية لابد من إجرائها.

أما الشيء المهم في هذا السياق، وكدليل على وجود وعي سياسي في طريقه إلى التطور، هو قيادات سياسية في القرية مثل الحاج أحمد بن ناصر (الشويخ) الذي يصفه المستشار بلغريف في مذكراته بأنه رئيس باربار. وهو بالفعل كان رئيساً وكان أغنى أغنياء القرية، وكان على وفاق مع كل أهالي القرية، وكان مسئولاً عن تموين القرية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية حيث كان بيته أشبه بمخزن للتموين.

وهكذا تدخل باربار فترة من الوعي السياسي الذي ربما يميزها عن غيرها من القرى، حيث تنخرط فيما بعد بسنوات في عمل هيئة الاتحاد الوطني 1954 - 1956 من خلال المساهمة في عضوية الجمعية العمومية لهيئة الاتحاد حيث تمت تسمية المرحوم جعفر محمد أحمد لهذه المهمة وكان ممثلاً للقرية حيث تمت تسميته من قبل الأهالي في اجتماع سنة 1954 في بيت المرحوم السيدمحمد بن السيدمحفوظ الماجد، ثم المساهمة من قبل الأهالي في الموافقة والتوقيع على مطالب هيئة الاتحاد الوطني، وانخراط بعض الأهالي في عضوية اتحاد نقابات الهيئة.

ومع فشل هيئة الاتحاد لم يتوقف الوعي السياسي لأهالي القرية؛ بل استمر لاحقاً مع التعليم، ومع بروز أحزاب ومنظمات سياسية سرية ابتداءً من قيام «جبهة التحرير الوطني البحرانية» في 15 فبراير/ شباط العام 1955، حيث كان لقرية باربار في هذا التنظيم حضور لافت والعكس صحيح، ربما بحاجة إلى أن نفرد له مقالاً آخر، ليغطي النصف الثاني من القرن العشرين لمعرفة طبيعة الحراك المطلبي القروي، والقوى الفاعلة التي كانت تحركه.

هذه الأمثلة تبين للمتابع أن الوعي السياسي المجتمعي لقرية باربار قد بدأ مبكراً نسبياً، بالقياس إلى بقية القرى، وظل يتسع ويتطور ويستوعب طبيعة القوى السياسية الفاعلة والمستجدة في الساحة ويتفاعل معها.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"

العدد 5255 - الأربعاء 25 يناير 2017م الموافق 27 ربيع الثاني 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً