العدد 5275 - الثلثاء 14 فبراير 2017م الموافق 17 جمادى الأولى 1438هـ

بين بياض الثلج وسواد القبور

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

على رغم البياض الذي غطى عيوننا واخترق أفئدتنا وغمر كل ما حولنا ببياض أكثر فأكثر، وتمدّد من السماء إلى الأرض على الأشجار وأسقف المنازل وقمم المداخن، منتشراً في الطرقات حتى وصل أعماق القلوب التي تعالت من جوفها الابتسامات والضحكات في تناغم هارموني مع مرح الطبيعة المختالة على زوارها القادمين من مدن الجفاف والتصحر، ترشهم وبشيء من الزهو بنتف الثلج المتساقط تارةً بحرارة، وتارةً أخرى بشيء من الهدوء الناعم الملمس كالحرير.

على رغم المشهد الأخّاذ والطبيعة الخلابة حد الدهشة، إلا أن البياض لم يكن يمحي عن ناظري لحظة الحضور المهيبة بحرارة الشعلة التي ما فتئت موقدة نارها بأرواح أصحاب المكان منذ ذاك اليوم التاريخي الأسود، منذ أحلامهم وآمالهم التي لم تتوقف يوماً ما.

يناير الأسود

في تلة أبراج النار الشاهقة التي تتوسط العاصمة باكو، وكأحد شواهد الولوج لمرحلة التحديث والتطور التي وصلت إليه أذربيجان، صعوداً يأخذنا الطريق رويداً رويداً حيث نعتلي عتبات المزار، يؤشر المرشد السياحي:

-هذه «مقبرة الشهداء» نرجو منكم الهدوء احتراماً لهم، فهم ذكرى عزيزة على قلوبنا نحن الأذربيجانيين تماماً كما عند كل شعوب هذا الكون.

تغمر البعض مشاعر ملتبسة تحفر كالنصل بوجع، تعود بنا القهقرى، لكننا الآن وفي هذه اللحظة نأخذ مساراً مستقيماً صفت على امتداد يمينه قبور غطاؤها أسود لامع لشهداء انتفاضة الحرية، فيما شواهدهم على الجدار تسرد حكايات في أسطر تأخذك بعيداً بعيداً في أسئلة لا تنتهي لتعرف حقيقة ما حدث.

صور لأطفال وشيوخ وأمهات، وآباء وشباب وشابات، وتجد بينهم أسرةً بكاملها ومن بينهم عروس يبدو أنها زُفّت للتو إلى عريسها الذي استشهد وقضت هي الأخرى معه، وعلى البعد كلّما تقدّمنا هناك امرأة متشحة بالسواد انتصبت واقفة عند شاهد وهي لا تزال تكفكف بمنديلها دمعاً يجري من ينبوع حزنٍ عمره ستة وعشرون عاماً، وتضع على القبر وردةً حمراء، وتقرأ بخشوعٍ أدعيةً تحاكي بها شاهد الشاب الثلاثيني في عمره. قالت إحداهن:

-إنها تبكي ابنها الذي استشهد منذ عشرين عاماً. ردّت الأخرى عليها:

- لا يمكن، ربما كان زوجها أو أخاها أو عاشقين، هو استشهد، وهي واصلت وتقدّمت في العمر ولا تزال تتجرّع مرارة ألم الفقد بعد مضي كل هذه السنوات بمرّها وحلوها. نعم ردّد المرشد على مسامعنا، إنهم أيقونات انتفاضة «20 يناير» التي يطلق عليها الأذربيجانيين «يناير الأسود».

حريةٌ مغمّسةٌ بالدم

كما تفعل كل البلدان المتحضرة التي تشعر بقوتها وتلتقط الزمن من أطرافه المنفلتة، في لحظة تعقل وارتقاء لمستوى المسئولية التاريخية والإنسانية في التصالح وإرساء أسس السلام، وبالاعتراف بحقوق الشعب الأذربيجاني وتضحياته، قرّروا «هم الشعب» إعادة كتابة تاريخهم المغمّس بدماء الشهداء، فقرّرت معهم أذربيجان وفي حالة تعبيرية، تخليد ذكرى «شهداء يناير الأسود» وتكريمهم بإقامة هذا المزار «المعلم» الذي أصبح اليوم قبلةً يرتادها السياح من كل بقاع العالم، ليقتربوا ويتعرّفوا على تاريخ شعبٍ ضحّى بأرواح أبنائه وبناته من أجل الحرية والكرامة والاستقلال.

سألت المرشد السياحي عن سبب تفجّر غضب الشعب وثورته في ميدان الحرية، تحديداً في ذلك اليوم، كيف خلع الخوف المتراكم منذ عقود؟ هل كان وراء ذلك مؤامرات الغرب وأميركا؟ أم كان الفقر والبطالة والنهب والفساد وتمدّد الظلم الذي استشرى في بنية الدولة حتى أصبح سمةً بارزةً فيها؟ أعدت السؤال عليه؛ هل كانت كرامتهم المهدورة، أم رغبتهم في الانعتاق ممن كانوا يستشعرون بأنهم يستعمرونهم ويستغلونهم ويستولون على قوت يومهم؟ لماذا قرّر المنتفضون الأذربيجانيون التظاهر برايات السلام البيضاء والورد في ميدان الحرية الشهير الذي كان يُطلق عليه أيام الحكم السوفياتي «ميدان لينين» وسط العاصمة باكو؟ قال:

-عليكم قراءة تاريخ هذا الشعب الصامد كخلفية كي تعرفوا لماذا حدث يناير الأسود، فأذربيجان وبغالبية سكانها من المسلمين الشيعة من الدول المحورية المهمة التي لا تزال على خريطة السياسة الغربية والأميركية، ولطالما كانت في وضع تنافسي من دول الجيران المحيطين بها كروسيا وإيران وتركيا، فهي تتميّز بموقع جيوسياسي واقتصادي مهم، وتقع على مفترق طريق التجارة والطاقة، وهي ممر مهم بشدة لجيرانها المنتجين للنفط والغاز، الأمر الذي يزيد من تعرضها للضغوط الدولية.

بعد الثورة البلشفية أصبحت أذربيجان تحت النفوذ الروسي الذي شجّع وبحكم تقاسمه النفوذ مع إيران والمعاهدات بعد عام 1918، اتفقوا على تقسيم أذربيجان حيث منحت أرمينيا جزءاً من أراضي أذربيجان، وعندما بدأت المشاكل والمطالبة بالاستقلال مطلع تسعينات القرن الماضي من قبل الدول الأخرى الواقعة تحت نفوذ الاتحاد السوفياتي، وبسبب فشل خطط التنمية الخمسية في السنوات الأخيرة قبل الانهيار الكبير والذي نتج عنه تدهور الإنتاج الزراعي والصناعي وسوء الخدمات وانحدار مستوى التعليم والصحة وارتفاع معدلات البطالة وزيادة الفقر واستشراء الفساد والتغلغل الروسي في بنية الدولة، فكل هذه وتلك شكّلت بيئةً حاضنةً لانتفاضة الشعب الاذربيجاني.

كرامةٌ واستقلال

يستطرد المرشد السياحي: «الشعب الأذربيجاني كان يحلم باستقلال حقيقي وبكرامة وحرية من سيطرة الجيش الأحمر الروسي، ومع الحلم تحقّقت اللحظة التاريخية التي اجتمع عليها مئات الآلاف من المحتجين بعد أن بلغ اليأس والإحباط مبلغه في ميدان الحرية؛ وقفوا صفاً واحداً مطالبين بالاستقلال عن روسيا وبكتابة دستور جديد لأذربيجان».

في المقابل أيضاً جاءت معها الأوامر مباشرة من الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف تأمر الجيش الروسي بدخول العاصمة باكو في غضون ثلاثة أيام، حيث اقتُحم ميدان الحرية الذي كان يعتصم فيه المتظاهرون العزّل دون أسلحةٍ في مواجهة دبابات الجيش الذي قام بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، واستشهد إثرها الشهداء الذين تزورون اليوم قبورهم السوداء وتتدفأون بنار شعلتهم وتشاهدون من علو مزارهم علم وطننا يرفرف عالياً شامخاً يشهد على عظمة تاريخ الشعب الأذربيجاني الذي لا يموت، لأن أرضه ارتوت بالدماء والصبر حتى نال استقلاله، وشرع في عملية البناء... فمع سواد القبور وبياض الثلج لا تنتهي ولا تتوقف حكايات الشعوب.

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 5275 - الثلثاء 14 فبراير 2017م الموافق 17 جمادى الأولى 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً