العدد 5310 - الثلثاء 21 مارس 2017م الموافق 22 جمادى الآخرة 1438هـ

تركيا المأزومة بين الهوية والمصالح

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

فصول الأزمة الدائرة بين تركيا وهولندا كما مع دول أوروبية أخرى منذ أسبوعين على خلفية منع أمستردام لوزيرين تركيين من لقاء الجالية التركية، للتحشيد في حملة الاستفتاء الدستوري لازالت مستمرة؛ كما أن تصعيد الخطابات النارية وتصريحات المسئولين الأتراك وصلت حد اتهام عدد من الحكومات الأوروبية كألمانيا وهولندا والنمسا وسويسرا بالتصرّف على الطريقة النازية، بل والعداء للمسلمين. ووصل الأمر حد تهديد هولندا باتخاذ عقوبات اقتصادية وسياسية شديدة بعد تعليق العلاقات الدبلوماسية معها، ما رفع من حدة التوتر المندلع.

دون شك إن جانباً من هذه الأزمة يعبّر عن خلاف دبلوماسي عميق بين أنقرة وأمستردام وحتى مع دول أوروبية أخرى سلكت نفس منحى هولندا، لكنه يعكس في جانب متصل ارتباكاً ومأزقاً حقيقياً تمر به الإدارة التركية منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/ تموز العام الماضي، إضافةً إلى عوامل بارزة ومتشابكة يمكن أن توضح طبيعة هذا التأزم والإرباك في سياق التحديات الاستراتيجية التي تواجه النظام التركي والتي نتناولها في الجزء التالي.

إرث صراعي

يجمع أغلب المحللين على أن ما يجري بين تركيا وأوروبا ما هو إلا تعبير عن صراع وعلاقة تاريخية مأزومة يمتد زمنها إلى فترة تمدّد الإمبراطورية العثمانية، وفرض سيطرتها على أجزاء من أوروبا، وحتى أفول معالمها في عشرينات القرن الماضي، ما يعني إن تداعيات هذا الإرث التاريخي بما يحمله من أثقال الماضي وصراعاته لا تزال باقيةً في قاع ذهنية الغرب وثقافتهم تماماً، كما عند الأتراك بالمقابل.

من جهة متصلة، تركيا سعت دائماً إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بيد أن عوامل متعددة ساهمت في عرقلة مسار هذه الفرصة التي تبعاً لمعطيات الواقع، قد تضاءلت في الوقت الحالي وأصبحت بعيدة المدى عن معايير الإتحاد الأوروبي وقيمه، بسبب الاختلاف بشأن ما تراه تركيا وتمارسه على أرض الواقع، خصوصاً بعد تصويت البرلمان الأوروبي في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي على تعليق مفاوضات الانضمام بعد الإنقلاب وإعلان حالة الطوارئ. بالطبع هذا الأمر سيضع تركيا أمام تحديات لاسيما بعد قيامها بإجراء تحوّلات سياسية واقتصادية واجتماعية لمقاربة المعايير الأوروبية، وربما يكون أيضاً أحد الدوافع التي ساعدت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإحكام سطوته الداخلية بالتضييق على الحريات العامة واستمرار حملات الاعتقال. وهنا ترى ألمانيا أن الخلافات تتعمق مع أنقرة إزاء قضايا مبدئية كحرية الصحافة، وتدلل على ذلك باستمرار اعتقال الأخيرة لصحافي ألماني يدعى دينز يوجيل من أصل تركي.

شعور بالخيبة والخذلان

في السياق من أبرز ما أثار حفيظة تركيا وأشعرها بالخذلان، صمت الدول الأوروبية تجاه الانقلاب الفاشل الذي -كما قال الأتراك- لم يدينوه أو يستنكروه، وما أعقبه من حديث أوروبي مستمر بشأن ضرورة احترام تركيا للديمقراطية ومؤسساتها والنظام الدستوري ووقف انتهاكات حقوق الإنسان في إطار احترام دولة القانون، خصوصاً بعد أن فرض أردوغان الأحكام العرفية التي يحكم فيها بمقتضى قانون الطوارئ، حيث شُنّت تحت مظلته الاعتقالات «التطهيرية» بحق المعارضة، ومنهم أكثر من خمسين ألف شخص فضلاً عن طرد أكثر من مئة ألف آخرين من وظائفهم بمن فيهم من قضاة وأكاديميين ومدرسين وضباط في الجيش. كل ذلك تم على خلفية الانقلاب واتهامهم بالتورط أو التعاطف مع الانقلابيين، فضلاً عن إغلاق بعض صحف المعارضة لتكميم الأفواه، الأمر الذي أدى إلى تصاعد الانتقادات الأوروبية إليهم، وما أدّت إليه من مزيدٍ من التوتر في العلاقات، وتعرّض كل الاتفاقات بشأن اللاجئين للجمود، كما سعت لاستصدار تشريع يعيد عقوبة الإعدام التي ألغتها بطلب من الاتحاد الأوروبي ضمن شروط مفاوضات الانضمام إليه.

بدورها ساهمت أزمة اللاجئين بما أفضت إليه من فتح أبواب الهجرة إلى أوروبا، بأن تستخدمهم تركيا كورقة مساومة مع الاتحاد الأوروبي، فقد تقاربت مصالح الطرفين في لحظة زمنية وحصلت أنقرة على وعود بدفع ستة مليارات دولار من الاتحاد الأوروبي، مقابل أن توقف الأخيرة تدفق اللاجئين عبر أراضيها إلى أوروبا، كما تم التفاوض والاتفاق معها على استقبال من يتم إعادته من اليونان مقابل استقبال الاتحاد الأوروبي لاجئين سوريين لكن بطريقة قانونية وضمن شروط أيضاً، يتم فيها إعفاء المواطنين الأتراك من تأشيرة دخول دول الاتحاد الأوروبي؛ إضافةً لشرط قيام تركيا بتعديل تشريعاتها المتعلقة بمكافحة الإرهاب، وهو الأمر الذي رفضته، فظل الملف في حال جذب وشد حتى توترت العلاقات بشدة بعد أن صنف البرلمان الأوروبي المجازر التي حدثت للأرمن قبل مئة عام بأنها «إبادة جماعية».

استفتاء وتصعيد سياسي

يراهن أردوغان على برهنة شعبيته وترسيخها داخلياً ودولياً، ولهذا فهو يسعي بشكل حثيث إلى تنفيذ استحقاق الاستفتاء الدستوري الذي رأت فيه لجنة خبراء قانونيين في الاتحاد بأنه «خطوة خطيرة للوراء»؛ لماذا؟ لأنه سيغيّر نظام الحكم من نظام برلماني إلى نظام رئاسي «جمهوري» يحظى فيه الرئيس وحكومته بصلاحيات واسعة تتركز في يده السلطة، ويكون القرار بيد الرئيس وحكومة حزبه الواحد، ما يعني أن ممارسات أردوغان لسلطاته التنفيذية منفرداً ستتعزّز. من هذا المنطلق منعت دول أوروبية كألمانيا وهولندا وبلجيكا والنمسا وسويسرا تسهيل حملات الاستفتاء، أو عقد تجمعات جماهيرية يحضرها ساسة ومسئولون أتراك لمخاطبة جالياتهم التركية المؤيدة للتعديلات الدستورية، وحثهم على التصويت لصالح الاستفتاء في هذه الدول.

إن حضور المسئولين الأتراك للتحشيد للإستفتاء أثار غضب واستنكار دول أوروبية، ووصل التصعيد السياسي بين الأطراف إلى نقطة غير مسبوقة، خصوصاً بعد توجيه اتهامات إليها بالقيام «بتصرفات فاشية»، فهذه الدول لا تزال مسكونةً بهواجس المجتمعات الموازية، وتعاني من مسألة ازدواجية الهوية بين صفوف الجاليات التركية المهاجرة التي تعيش في أوروبا، لاسيما في ألمانيا التي تصل فيه قيمة التبادل التجاري مع أنقرة نحو 36 مليار دولار، ويعيش فيها ما يزيد على 1.5 مليون تركي يحق لهم التصويت في الاستفتاء، تليها هولندا والنمسا. وعليه يرى محللون بأن إصرار أردوغان على إقامة التجمعات في أوروبا للتحشيد لحملة الاستفتاء، تعكس لامبالاة لوضعها الأمني، وما قد يسبّبه من انقسامات سياسية حادة تدفع يوماً بعد يوم بتيارات اليمين إلى صدارة المشهد السياسي.

ختاماً والحق يقال، إن الأزمة وإن عبّرت عن أزمة تركيا وارتباكها من جهة، إلا إنها تعكس بهذا المستوى أو ذاك أزمة تمر بها المجتمعات الأوروبية تجاه «الإسلاموفوبيا» من جهة أخرى، خصوصاً مع بروز تيارات اليمين التي تجد في مواقف النظام التركي محاولةً للتأثير في الداخل الأوروبي، وتؤشر في ذلك إلى تمويله لمؤسسات وجاليات متوافقة واتجاهاته وإيديولوجيته وقناعاته، لكن السؤال يبقى مطروحاً عن مدى قدرة المصالح الاقتصادية والسياسية بين الطرفين على منع تطوّر التوترات والعودة مجدداً لعلاقة المساكنة والتفاهمات، حيث ترجّح بعض الآراء أن الأزمة ستهدأ بهذا الشكل أو ذاك؛ لكن الأمر الذي سيبقى مزمناً بينهما هو الصراع البارز والخفي الذي تتداخل فيه الهوية الدينية والثقافية، حيث يقف كلٌّ منهما على طرفٍ يكاد يكون نقيضاً للآخر، خصوصاً مع تجدّد حلم إحياء الإمبراطورية العثمانية.

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 5310 - الثلثاء 21 مارس 2017م الموافق 22 جمادى الآخرة 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 11:37 م

      يا جماعه تدرون كم عدد المسجونيين الاتراك في وطنهم أعني فقط الي ما اوالون اردوكان بلغ عددهم 26ألف , وين هاي صار يا ِأمير المؤمنيين وأمين المسلمين ؟؟؟؟

اقرأ ايضاً