العدد 5348 - الجمعة 28 أبريل 2017م الموافق 02 شعبان 1438هـ

مخاطر العلاقة الحميمة بين المثقف والكتاب

رضي السماك

كاتب بحريني

ان كلا النظامين الشعبوي والشمولي، بحسب مانجويل، يريد جعلنا أغبياء وإخضاعنا، ما يجعلهما يشجعان على استهلاك القمامات التلفزيونية.

من نافلة القول أن ثمة شريحة غير قليلة من القراء عادةً ما تلجأ إلى قراءة الكتب المُحمّلة على «الشبكة العنكبوتية «، إلا أن الكتاب الورقي مازال مُتسيداً المشهد الثقافي ببريقه وجاذبيته الطاغية، التي لا تُقاوم وبخاصة لدى القارئ الذي اعتاد عليه منذ نعومة أظفاره، ويُفضله على النسخة الالكترونية إذا ما جاء سعره مناسباً، وبهذا فإن لجوئه للنسخة الالكترونية، إن وُجدت، غالباً إما لغلاء سعر نسخته الورقية، وإما لأنه لم يصل بعد إلى السوق المحلية، وإما لمنع دخوله إلى البلدان غير الديمقراطية، كما هو الحال في عالمنا العربي. هذه الحقيقة أكدها روبرت دارنتون، أستاذ «تاريخ الكتب» بجامعة هارفارد، والذي تولى في فترة من الفترات إدارة مكتبتها، قائلاً «إن القراءة من الشاشة ما تزال في مرتبة أدنى بكثير من الورق. وعلى رغم أن دارنتون يعتبر نفسه رائدا في التعامل مع الانترنت، فإن القراءة لديه -بحسب تعبيره- في الورق أكثر مُتعة من «الانترنت «، ولعل هذا الأستاذ الجامعي الأميركي من أفضل من عبّروا عما أسميناه بالعلاقة الحميمة بين القارئ والكتاب الورقي «عظيم في تجميع المعلومات، سهل في تصفحه، مريح عند قراءته في الفراش، ورائع في تخزينه، شكله يجعل الإمساك به ساراً للقلب، وسهولة تداوله جعلته أداة أساسية للتعليم عبر آلاف السنين» .

وهكذا يتضح لنا أن العلاقة بين القارئ ونسخة الكتاب المُحملة على «النت» وهو يحملق في شاشة الهاتف المحمول الاشعاعية الصغيرة، أو حتى على شاشة الكومبيوتر الأكبر لفترة طويلة، ليست كعلاقته المُريحة للنظر والقلب مع النسخة الورقية القشيبة المصقولة الأوراق، والتي تتميز عادةً بالدفء والحميمية منذ ولادة أول كتاب في العالم من رحم أول آلة طباعة حديثة اخترعها الإنسان. وغني عن القول ان الألفة الحميمية التي تتميز بها علاقة المثقف بالكتاب تُخص الجديد منه والقديم على السواء.

ومع ذلك فإن هذه الطقوس الحميمية في العلاقة بين المثقف والكتاب، لا تواجه مخاطر تعكير صفوها في الدول الديمقراطية، كالتي تواجه المثقف في الدول الاستبدادية التي تُمعن لوساوسها الأمنية المُفرطة في تنغيص استمتاعه بكتابه الورقي، وتتربص به وكتابه إما من خلال مصادرة الكتاب وسائر كتب مكتبته المنزلية التي ظفر ببعضها خلسةً من الخارج، أو حتى شراءً بالطرق «المشروعة» من مكتبات بلده، فتقع ضمن محرزات «الضبط القضائي»، أو على الأدق «الضبط الأمني المفاجئ بمنزله» وإما حتى حرقها. وأنت لا تجد ثمة تفسيرا سيكولوجيا مفهوما للحاكم المستبد في عالمنا العربي لفرض قيوده الرقابية المشددة على «الكتاب الورقي» ذي العنوان غير المرغوب، على رغم توافره وانتشار نسخته الالكترونية، سوى رغبته الجامحة في افساد المُتعة الحميمية التي تربط المثقف المُستهدف بكتابه الورقي.

الحكومات «الشعبوية»، على حد تعبير ألبرتو مانجويل مؤلف كتاب «تاريخ القراءة»، تطالبنا بأن ننسى، لذا فإنها تدمغ الكتب بأنها بهرجة فائضة عن الحاجة، أما الحكومات «الشمولية» فإنها تطالبنا بالتوقف عن التفكير؟ لذا فإنها تمنع العقل وتلاحقه وتخضعه لمقص الرقيب. ان كلا النظامين الشعبوي والشمولي، بحسب مانجويل، يريد جعلنا أغبياء واخضاعنا، ما يجعلهما يشجعان على استهلاك القمامات التلفزيونية. ولذلك اُعتبرت طقوس الاعتزال التي يمارسها المثقف أثناء القراءة ضرباً من المخاطر الأمنية غير المأمون عواقبها في سلوك المثقف لاحقاً. والحال ان ظهور القراءة الصامتة بعد اختراع الكتابة سمحت للمثقف بأن يكون ناسكاً معتزلاً يقضي وقتاً يُمتّع نفسه خلاله بالتمعن في مدلولات الفقرات والمفردات وحيث يبحر الكتاب معه، إن جاز القول، في رحلة ثقافية أو علمية سياحية مُدهشة تأخذ بلباب عقله من صفحة إلى صفحة، ومن ورقةٍ إلى ورقة، حتى يصل به إلى مرساه الأخير في آخر صفحة. ولذلك أجاد القديس أوغسطينوس وصف هذه الحالة التي عبرّنا عنها آنفاً بقوله ما مؤداه: القراءة الفردية المستقلة كانت ومازالت خطراً؛ لأنها تُمكّن القارئ عبر الكتاب من الاتصال السري المنفرد بالمعرفة والمعلومات، بما يُغذي وينعش عقله بعيداً عن تلصص حرّاس العقيدة، والذين لا يتحملون هذا الامتياز الذي يملكه القارئ، بمنأى عن وصايتهم الرقابية أو حتى الأعين الفضولية.

وعلى هذا المنوال يُمكننا إعادة صوغ مقولة لفولتير في هذا الشأن وبتصرف: إن مخاطر الكتب إنما تكمن في قدرتها الفتّاكة على إبادة وتشتيت الجهل، الذي يُعد الحارس الأمين للأنظمة البوليسية، والحكاّم الدكتاتوريون يدركون جيداً بسليقتهم الاستبدادية أن الجماهير الاُمية سهلة الخضوع والانقياد، ولذلك كانوا -كما يذهب فولتير في زمانه- يفرضون حظراً على تعلم القراءة، ولا يسمحون إلا بنوع واحد من القراءة فحسب هو النوع الرسمي، ويمقتون بشدة المكتبات العامة الأشبه ببساتين من ثمار الثقافة والأفكار المتعددة، مؤثرين عليها مكتبات اللون الواحد، المردد لصدى أقوال الزعيم، أو ذات الفكر السقيم أو الميت الفاقد لأي مفعول لتنشيط العقل، إن لم يمكن تجميده أو تحنيطه عملياً.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 5348 - الجمعة 28 أبريل 2017م الموافق 02 شعبان 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 4:34 ص

      أحسنت يا أساذ ، لقد أصبت كبد الحقيقة ، وجعلتنا نستمتع بقراءة مقالك كما يستمتع القراء الشغوفين بلمس كتبهم وقراتها بارك الله فيك .

    • زائر 1 | 12:23 ص

      أنا من جيل الشباب، لا أشتري الكتاب الورقي إلا إذا كان للكتاب معزةً خاصة لدي، أي أنني قرأته وتعلقت به وأصبح جزءاً من حياتي، أو لعدم وجوده بنسخة الكترونية. الموضوع أكثر من توفير المال (وإن كان ذلك أمر في غاية الأهمية بالنسبة لي) ... أولاً اتاحة الفرصة للبحث السريع في الكتاب عند الحاجة، ثانيا أستطيع أن أجمع آلاف الكتب في قطعة صغيرة (فلاش ميموري) أو أرفعها على شبكة النت وعدم الاكتراث بالعناية بها. ثالثا: عند القراءة لدي شاشتين (24 بوصة)، واحدة للقراءة، والثانية للبحث على النت و كتابة الملاحظات.

اقرأ ايضاً