العدد 560 - الخميس 18 مارس 2004م الموافق 26 محرم 1425هـ

لكي لا يحترق هذا الوطن الصغير

عبدالله العباسي comments [at] alwasatnews.com

لا شك في أن الشفافية واحدة من أهم آليات الديمقراطية وأكثرها ضرورة للكشف عن الممارسات الخاطئة، وغيابها يجعل الديمقراطية عرجاء ولا طعم لها من دون هذا العنصر الذي يفسح المجال للغوص في أعماق الفساد والبحث عن جذوره واقتراح الحلول المناسبة مع كشف الأسباب التي أدت إلى غرق هذه المؤسسة أو تلك وما يترتب عليه من تراكمات تؤدي إلى هز استقرار الوطن. هذا إذا كانت هذه الأخطاء ناتجة عن وزارات رسمية ودوائر حكومية لكن اهتزاز الاستقرار السياسي لا يأتي دائما من أخطاء الدوائر الرسمية أو من الفساد الإداري أو المالي أو الأخلاقي في مؤسسات الدولة وحدها وإن كانت جمعيات الشفافية في المجتمع المدني تركز على ما هو حكومي فقط وهي على حق لأنه غالبا ما يكون الفساد حكوميا في البلاد العربية عموما.

ويأتي ذلك نتيجة غياب الديمقراطية الحقيقية وغياب دستور صارم يضع الرقابة المالية والإدارية في يد المجالس النيابية مع فصل للسلطات الثلاث لتصبح سلطات الشعب فوق كل السلطات وحتى في حالة وجود شفافية وفي حالة وجود دستور وفي وجود ديمقراطية فإن الأمر لا يستقيم مع الفساد بجميع أشكاله، ولا يمكن محاصرته وتحجيمه إلا إذا كان في مقدور هذه المجالس النيابية تنفيذ ما يتم كشفه من أخطاء وممارسات معْوجّة لا يمكن تصحيحها، مادامت الجهة المنفذه لا تتجاوب معها وتعرقلها ومن هنا فإن الشفافية تغدو ظاهرة صوتية وجعجعة من غير طحن إلا إذا كانت السلطة التشريعية هي الأعلى، وما أن يجد الإنسان أن جمعيات الشفافية في المجتمع المدني على رغم نشاطها واكتشافاتها وفضحها للممارسات الملتوية تظل دورها نظريا إن لم تجد آذانا صاغية من المسئولين لما تكشفه من أرقام كبيرة في التجاوزات تتسبب في رعب المواطن ما يعني أن هناك تآمرا من نوع راق غير واضح للعيان يعتمد على نظرية «خلهم يتكلمون وايبردون قلوبهم وما عليك منهم». هذه النظرية هي التي تخدع العالم الخارجي وتقنعه أن هذا البلد أو ذاك دخل نادي الديمقراطية، لكنهم لا يدركون جيدا أن هذه أكذوبة لقيادات ذكية تريد أن تُفوّت على العالم الحقائق وتجعلهم يصابون بعمى الألوان. فالشفافية إن لم تسر جنبا إلى جنب مع عملية التنفيذ تكون هذه الجمعيات فاشلة ولا معنى لها وينطبق عليها المثل الشعبي: «كلام في الخالي، نقص في العقل».

ومن هنا فإن كثيرا من السياسيين والمثقفين يرون أن جمعية الشفافية البحرينية وغيرها تكون مجرد ديكور إن لم ينجح مجلس النواب في تصحيح ما جرى في الصندوقين ولا أعني الصندوقين الأسودين في الطائرات المنكوبة بل في صندوقي التأمينات الاجتماعية وصندوق التقاعد في بلدنا المنكوب ببعض القيادات التي تسلطت على مؤسسات الدولة وعملت فيها كما تشاء وكأنها عزبة مملوكة لها ورثتها عن أجدادها. لكن هناك خطأ شائعا لدى جمعيات الشفافية عادة وجمعية البحرين للشفافية بوجه خاص وهو البحث عن فساد الحكومة فقط من دون إبراز فساد الجمعيات المدنية الشعبية وفساد المجتمع المدني، وكأن الحكومة وحدها هي التي تقع في مستنقع الفساد وبالتالي يجب الكشف عنه ويغيب عنها أن هناك فسادا شعبيا قد يكون أكثر خطورة على الوطن لكن الجمعية لا تبحث عنه.

أليست تغذية بعض الجمعيات السياسية للأطياف التي تقودها بالحس الطائفي شكلا من أشكال الفساد لا يقل خطورة عن الفساد المالي والإداري الحكومي؟ هل حدث أن شجبت هذا الفساد؟ هل نطقت وبذلت جهدا مثلما تبذل جهدها لتكشف عن ممارساتها الخطيرة وطرحها بكل شفافية أمام المجتمع البحريني؟ هل تستطيع أن تنكر أن بعض الجمعيات السياسية تزرع الحس الطائفي في كل الأطياف ما يجعل الغيور على الوطن يخاف على وطنه الصغير الجميل من الاحتراق بهذه النار؟ أليس ما يجري في البلاد من اعتداءات لا مبرر لها على بعض الفقراء من الهنود وغيرهم من الآسيويين من قبل بعض الشباب على اعتبار أن هؤلاء الأجانب يضايقونهم في أرزاقهم نوعا من الفساد الذهني والفكري؟ ألم يتساءلوا أن هؤلاء الفقراء كانوا وراء بناء هذا البلد بأرخص الأجور؟ ألا يكفيهم عناء وعذابا ما يكابدونه من آلام الغربة بهذه المرتبات المتدنية من أجل لقمة العيش؟ لقد نسي هؤلاء الشباب أن هؤلاء ليسوا وراء محاربتهم لأرزاقهم بقدر ما هم تحملوا كل مشاق الدنيا وحرقة الصيف الخليجية والسكن الرديء غير الصحي من أجل أن يبنوا البنية الأساسية والطرق والمباني التي نراها فقط مقابل دراهم معدودة فهل يجوز للمواطن الشريف صاحب الحس الإنساني أن يهاجمهم ويضربهم بدون أي مبرر أو مناسبة فقط لأنهم في بلادنا؟ إن المسئول الحقيقي عن وجودهم ليسوا هم بل جشع المقاولين والتجار مع عدم وجود كوادر وطنية بديلة لهم، أليس الشباب البحريني هو الآخر مسئول ولو جزئيا عن الحاجة في استيراد الأيدي العاملة؟ لماذا يحتقر المواطن مهنا في البلديات أو في الزراعة أو المهن اليدوية الأخرى لأنهم تغيروا عما كان عليه أجدادهم؟ أما كانوا خير البنائين وخير اللحامين في بلادنا ويفضلهم الناس على غيرهم، بل لم نكن نحتاج إلى غيرهم لوجود كم كبير منهم يلبي الحاجة المحلية إضافة إلى أن البحرين كانت تغذي بهم بعض الدول الخليجية المجاورة. لماذا تغير هذا الشعب وصار يستنكر على نفسه أن يملأ هذا الفراغ؟ إن اتساع المشروعات وتغير نفوس الجيل الجديد وارتفاع مستوى التعليم والبحث عن الوظائف المريحة وراء كثير من البطالة؟ لماذا يتهرب كثير من أعمالهم في الشركات؟ ولماذا يتسربون ولا يصمدون كالأجانب؟هل في نظرهم الأفضل أن تتوقف هذه الشركات والصناعات التي يقيمها المستثمرون لأن المواطن البحريني كسول ولا يرغب في مواصلة عمله بهذه المواقع؟

إن ما يجري هذه الأيام في بلادنا نوع من التخريب المتعمد يشعر الإنسان أن وراءه بعض الجمعيات السياسية التي تغذي الحس الطائفي وتشجع على مهاجمة الأجانب أو تقول ولو عن طريق غير مباشر ما يشجع هؤلاء على ارتكاب هذه الأخطاء التي قد تسبب بلاوي عديدة ربما في مقدمتها هروب المستثمر العربي والأجنبي وكذلك خوف المستثمر القادم من اتخاذ البحرين محطة لاستثماراته، أليس هناك خوف من أن يسبب هذا الأسلوب من الأطروحات الخلاف الطائفي ليستفيد منه من كان يرغب العزف على هذا الوتر النشاز؟

إن عددا من الجمعيات الإسلامية الكبرى وراء إشاعة هذا الحس الطائفي وتغذيته وتنميته والنفخ فيه اعتقادا منه أن ذلك سيضيِّق الخناق على النظام أو يؤدي إلى تحقيق ما ترسمه في مخيلتها بخلق زعزعة الاستقرار السياسي والاجتماعي في هذه المملكة الصغيرة وهو خيال في ظني بعيد المنال فذلك من سابع السذاجات وعاشر المستحيلات لأن الاعتقاد بأن هناك من يتعاون معهم من الخارج يعيد ذلك المسلسل القديم إلى الأذهان ولا غرابة أن يعيد ذلك إلى المواجهة السابقة التي كانت فيها خسائر المواطن البحريني كبيرة، وان من أتى بقانون أمن الدولة في المرة السابقة وتجاوز دستور 1973 قد يدفعه الخوف على البقاء من أن يعيد سيرته الأولى ، وربما هذه المرة بمباركة بعض الأطياف التي تجد نفسها ليست أمام جمعيات سياسية إصلاحية تنشد تحسين الأوضاع والخروج من مآزق التخلف والفقر والبطالة بل تنشد إلى ما هو أكبر وأبعد من ذلك، ساعتها تكون قضية موت أو حياة فلا غرابة أن تقطع حتى أقرب الجمعيات صلة بهم ممن ينضوون اليوم تحت مظلتهم بفك ارتباطهم إذا ما استمر مسلسل الخروج عن دائرة النية الحسنة والرغبة في بناء وطن جميل يعيش فيه الجميع في وضع اقتصادي وسياسي ونفسي واجتماعي أفضل.

يقول أحد أعضاء مجلس النواب إن امرأة اتصلت به قبل أيام هاتفيا وهي تبكي وكان بكاؤها مستمرا بحيث كان حديثها يتقطع من شدة قهرها فقالت (إلحقنا) سرقوا كل ما في منزلي وأنا الفقيرة التي لا أملك شراء غيره قول لهم «إيرجعون قانون أمن الدولة فهو أرحم بنا»، وهذا ما تريده الجهات التقليدية أن توصلنا إلى هذه النقطة بحيث يصبح مطلبا ولو شبه شعبي وتحتاج إلى بعض الشرعية والضغط على المشروع الإصلاحي لتضطر الدولة في النهاية إلى الاستسلام للأمر الواقع إذا ما تحول الوضع إلى مستوى لا يأمن الإنسان على منزله وحياته وعماله وسيارته. وهناك حكاية لا بد من ذكرها للاستشهاد للكشف عن مدى الوضع المتردي الذي وصلنا إليه، تقول إحدى السيدات: ذهبت إلى المستشفى لأخذ إبرة الإنسلين مساء وكنت في السيارة مع السائق الهندي وما أن خرجنا من المركز حتى ضايق على السيارة أحد الشباب بسيارته واستوقفنا في قرية سند، وما أن أوقف السائق السيارة حتى نزل منها ثلاثة كانوا مع السائق وأخرج أحدهم الهندي ماسكا إياه من شعره وضربه على وجهه حتى أصيب في إحدى عينيه ولا أود أن أورد بقية القصة. مرت عدة شهور على رفع الشكوى لقيادة شرطة مدينة عيسى ولم تُستدعَ المرأة المشتكية ولا مكفولها السائق لتقديم المعتدي إلى المحاكمة والسبب واضح طبعا ولا يخفى على أي سياسي أن الجهات التقليدية ترغب في تفاقم الوضع الأمني لترتفع أصوات المواطنين المتضررين للمطالبة بإعادة قانون الطوارئ.

قلت مرة في أحد المجالس التي ضمت مجموعة من المثقفين وبينهم بعض رؤساء عدد من الجمعيات الإسلامية، كان ذلك قبل بضعة شهور، والاجتماع كان في بيت أحد وجهاء بني جمرة على ما أذكر في ليلة رمضانية. بادرت بالحديث عن ارتفاع وتيرة التصعيد ضد القيادة الجديدة وممارساتها في مجال التجنيس والتمييز وعملية التجييش التي صارت تسبب الخوف لدى الكثير من البسطاء من الأطياف الأخرى وكان رئيس جمعية الوفاق الشيخ علي سلمان جالسا معنا، قلت معلقا على مجمل الأوضاع إن ما يجري حسب ظني لا يصب لصالح المواطن البحريني ويجب التأكيد على أن هذا الأسلوب سيخدم الجهات المناوئة للإصلاحات الجديدة، وأود أن أؤكد أمرا ما وهو أن المعارضة مهما تبلغ قوتها ومهما تصل قدرتها على استنفار المزيد من الغضب الشعبي إلا أنني أرى أنه ليس من مصلحة الجمعيات السياسية بلوغ هذا المستوى من الخلاف ويجب أن يدرك كل السياسيين أن النظام قوي ولديه ضمانات الاستمرارية من حيث إمكاناته الداخلية وبسبب الدعم الخليجي. فالأنظمة الخليجية متجانسة من ناحية التعامل مع شعوبها، ولهذا ترفض أن يأتي أي نموذج مغاير لا ينسجم مع سياستها وهذا ما دفعها إلى دعم صدام لمحاربة الثورة الإيرانية.

في ظني أنه لو يُسلّم النظام الحكم طواعية لأي طرف آخر علمانيا كان أو دينيا، كان من هذا الطيف أو ذك يجب أن يرفضه لسبب بسيط لأن الشعب البحريني سيجوع ويزيد وضعه سوءا وخصوصا أن الدول الخليجية المحيطة بها ليست مستعدة أن تقدم فلسا لأي نظام آخر غير هذا النظام. ويكفي أن ندرك أن موازنة الدولة تعتمد في معظمها على نفط جزيرة (أم سعفة). وعلى سبيل المثال أي تغيير يحصل يعني عدم استمرار الوضع الحالي.

لقد آن الأوان لأن تراجع قيادة الجمعيات السياسية تقييم الوضع وأسلوب التعامل مع الجماهير وبرامجها التوعوية لتنطلق من خلال المعطيات التي هي في متناول اليد والبرنامج المنطقي والابتعاد عن الخيال الساذج حتى لا يحترق هذا الوطن الجميل، إن من أكثر البرامج المنطقية أن تفكر كل الأطياف بالاستفادة القصوى في الضغط للحصول على مزيد من المكاسب لشعبنا من دون الوصول إلى درجة إشعال المجتمع وإغراقه وسط خلافات طائفية، بل بتحسين أوضاع هذا الوطن وإنهاء أزماته وإنهاء عصر الفساد المالي والإداري والأخلاقي من دون ترويع وإعطاء القيادة الإصلاحية الثقة بأنها معارضة تؤمن بالحوار ودورها التعاون مع القيادة الإصلاحية من أجل يوم أجمل ووضع مستقر ليعيش كل المواطنين في وطن لا يعرف الطائفية ويرتكز على المحبة المتبادلة والمودة المتواصلة. كذلك على الجهات المسئولة أن تضع حدا لما يجري من مهازل الاعتداء على هؤلاء الفقراء ممن كان لهم دورهم في بناء هذا الوطن ولو أريد إنهاء خدماتهم فليكن ذلك بالطرق الشرعية إن كان هناك بديل عنهم ليحل المواطنون مكانهم

العدد 560 - الخميس 18 مارس 2004م الموافق 26 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً