العدد 612 - الأحد 09 مايو 2004م الموافق 19 ربيع الاول 1425هـ

آسف جدا: رسالة إلى صديق صحافي زائر

حسن الصحاف comments [at] alwasatnews.com

رسالة بالبريد المستعجل تعلمني أن صديقي الصحافي البارز من صحيفة «نيويورك تايمز» «نيكلوس كريستوف» سيقوم بزيارة للبحرين تستغرق يوما واحدا وهو في طريقه إلى الجمهورية الإيرانية الإسلامية، لعمل تحقيق صحافي عنها. وهو ينتهز هذه الفرصة ليلتقي بي لنتحدث قليلا عن التطورات التي حصلت في البحرين نتيجة الحركة الاصلاحية والدعوة الأميركية إلى تعزيز الديمقراطية في «الشرق الأوسط الأوسع».

اتصلت به هاتفيا لأعلمه عن استعدادي لاستقباله وسأكون هنا في إنتظاره، غير إني لم أجده على الهاتف لكون اتصالي كان في يوم عطلة نهاية الاسبوع، فتركت له رسالة صوتية مع رجاء حار كي يتصل بي في أسرع فرصة ممكنة لمعرفة التاريخ والساعة التي سوف يصل بها «مملكة البحرين».

في يوم الاثنين وهو بداية الاسبوع عند الأميركان والغرب بشكل عام اتصل بي هاتفيا وأخبرني بأنه لايزال ينتظر الحصول على «أذن دخول من السفارة الإيرانية» وحال أن يحصل عليه سيخبرني عن موعد قدومه إلى البحرين. وتحدثنا حينها عن «بريسترويكا الملك» و«غلاسنوست الملك» (طبعا نستميح عذرا من ميخائيل غورباتشيف لإستخدامنا مصطلحيه الاكثر شهرة في نهاية القرن الماضي، الأول، ويعني: المصارحة أو «إعادة البناء»، والثاني الذي يعني: الإصلاح» لأننا لم نجد حقيقة ما يضع «الحركة الإصلاحية الملكية» من مفردة تضع تحت مظلتها هذه «الحركة الإصلاحية» سوى هاتين المفردتين الأكثر شهرة في نهاية القرن العشرين ولابد أن نذكر أن البعض رأى في هذه البروسترويكا «الغرباتشوفية» «نهاية للتاريخ والانسان الأخير» من منظور الانتصار الذي حققته الرأسمالية على الاشتراكية. فقلنا لقد سقطت مسألة عدم الثقة بين الشعب وبين «صاحب الجلالة الملك» أو «الحكومة التي يمثلها»، كما سقط جدار برلين وأصبح المجال مفتوحا لكلا الطرفين لتحقيق ما يصبو كل منهما من «عدالة اجتماعية». فقد اتفقنا صراحة على أن «بريسترويكا غورباتشوف وغلاسنوسته» قد «أدّت» من خلال «الإصلاحات الغورباتشيفية إلى زعزعة استقرار النظام وقادت إلى تقسيمه في العام 1991» إذ إنها فككته إلى جمهوريات صغيرة وبأنظمة مختلفة كادت تطيح برؤوس كثيرة، غير أن «برسترويكا حمد الملك» قد وحدت البحرين على وجه العموم جغرافيا واجتماعيا وأضحت من دون شك مثالا يحاول الكثيرون من جيران البحرين الاحتذاء به. وقد فعلت هذه «البروسترويكا» فعلها في قلوب الأمهات اللواتي استقبلن أبناءهن وبناتهن المهجرين من وطنهم بعد صدور «العفو الشامل». كما ان هذه «البرسترويكا الملكية» فعلت فعلها في قلوب الآباء والأمهات اللواتي أطلق سراح أبنائهن وبناتهن من السجون التي كانت تعذّبهم لممارستهم حقا مشروعا يتمثل في حرية التعبير وحرية المعتقد وحرية الحركة والتنقل. وتحدثنا عن الكيفية التي رأى فيها الملك حمد الفرصة واقتنصها اقتناصا «للم» شمل المجتمع، وإنه هنا بثاقب بصره وبصيرته يأمل في أن ترى أشياء أخرى في أجندته الاصلاحية النور. حديث هاتفي طويل نسبيا أمل كل منا على مواصلته في البحرين.

وحلّ صاحبي ضيفا على البحرين قبل أن يحل ضيفا علي شخصيا، فقد تم استقباله من قبل رجال مطار البحرين استقبالا مشرفا امتدحه كثيرا وأثنى على رجال الجمارك والخدمات بالمطار، فذكر انه أحيط بدماثة الاخلاق من كل جانب، لقد قام الرجال البسطاء بأداء واجبهم على أحسن صورة وشرفوا بلدهم وشرفنا بهذا التشريف، نشكرهم هنا.

في مرحلة استعدادي لاستقباله اتفقت بعد ان أجريت اتصالات عدة مع بعض الشخصيات التي لها شأن بمرحلة الاصلاح أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر رئيس تحرير صحيفة «الوسط» منصور عبدالامير الجمري والاستاذ عبدالوهاب حسين أحد رموز المعارضة (وكان اتصالي به بناء على طلب من صاحبي)، كما اتصلت ببعض البسطاء من الناس الذين شرفونا بصراحتهم المتناهية وأعلمونا بأحلامهم الصغيرة جدا والسهلة التحقيق في عالم مثل عالمنا العربي (الخليج تحديدا) وبعض من «النخبة» أو من يطلق على نفسه «الإليت». بعض من هؤلاء «النخبة» إعتذر عن عدم مقدرته مقابلة صديقنا لارتباطاته المسبقة من أمثال عبداللطيف الرميحي ورئيس تحرير صحيفة «أخبار الخليج» أنور عبدالرحمن، ووعد إن كان في مقدوره أو سمح له الوقت أن يستقبلنا ليناقش معنا الشأن الديمقراطي بالبحرين. بعض من «النخبة» وعد وعدا قاطعا على أن يأتي لمقابلة صديقنا وتم تحديد الزمان والمكان وتم تأكيد الموعد مرارا غير انه للأسف الشديد أساءت هذه «النخبة» لنفسها بعدم حضورها أولا وأساءت ثانية عدم قدرتها على الاعتذار عن عدم مجيئها وترك صاحبنا ينتظرها لفترة طويلة.

لقد سمح لنا الوقت والمصادفة بمقابلة رجال من أمثال الشيخ أحمد العصفور الذي أتحفنا بحديثه، وكيف أن رجالات «الجمهورية الاسلامية الايرانية» من أمثال مرشد الثورة آية الله علي خامنئي ورئيس الجمهورية محمد خاتمي كانوا مبهورين بـ «الإصلاحات الملكية»، ورأوا فيها الشرارة التي ستحقق ما تصبو إليه شعوب المنطقة، وكيف أن القيادة الايرانية رأت في جلالة الملك رجل الإصلاحات «المتميز». وذكر الشيخ العصفور أن جميع هذه الملاحظات مدونة في متون المدونات الرسمية لكلا البلدين الشقيقين. كما أنه امتدح تحركات الملك وأشاد بها.

كان حديثنا يصب في صلبه مع أفراد المجتمع البحريني عن الديمقراطية والتحول الديمقراطي وكيف باستطاعة الولايات المتحدة الاميركية أن تساهم في خلق هذا الجو الديمقراطي. أميركا تبحث عن وسائل لنشر الديمقراطية، فجميع من قابلنا ركز على دعم الشعوب والبدء في مصالحتها ومساعدتها لتحقق الديمقراطية على نحو يحفظ من خلاله حقوق الناس ومصالحهم. جميع الذين تحاورنا معهم تحدثوا عن مصالح أميركا الحيوية في المنطقة بشكل خاص ومصالح الدول الغربية بشكل عام، وأن طريق المحافظة على هذه المصالح يأتي حقيقة عن طريق مصالحة الشعوب والحفاظ عليها وعدم المساس بأمنها وتعكير صفو حياتها والمساس بكرامتها.

رئيس تحرير «الوسط» منصور الجمري تحدث بشكل صريح مدعما حديثه بإحصاءات ومواقف عاصرها هو شخصيا يوم كان معارضا في الخارج إلى رجل يعمل في الداخل ضمن «الحركة الإصلاحية». ورأى ان هناك تقدما حصل بقيادة جلالة الملك والطريق طويل وشاق لتحقيق الديمقراطية المثالية، وهو يواجه بعض المصاعب في مجال الصحافة وانه لا يمكن أن يكون حرا في مجتمع يريد أن يدفن رأسه في التراب على أن يرى الواقع. وذكر أن المجتمع البحريني شعب مسلم وله خصوصيته الثقافية والاجتماعية، ويتميز بين دول المنطقة بوعيه على مختلف الأصعدة وانه يرى أن المستقبل يعد بالخير.

الناشط عبدالوهاب حسين استقبلنا في منزله المتواضع في قرية «نويدرات»، وتحدث معنا بشكل صريح جدا بالشأن الديمقراطي ولم يتحدث عن فترة سجنه وطرق تعذيبه حين وجه له الصحافي سؤالا يرتبط بتلك الفترة، فذكر «إنها فترة مضت ونسيناها، ونأمل ألا تعود أبدا». كما ذكر أنه يأمل أن لا تنخرط المعارضة في سلوك غير سلمي، وألا تواجه الحكومة إلا بالطرق السلمية مهما تأزمت المواقف، فالانجرار إلى المواجهة باستخدام العنف لا يخدم الفريقين. وذكر أن هناك حالا من سوء الفهم بين الحكومة والمعارضة تتمثل في أن الحكومة ترى في تحركات المعارضة شيئا يمس الأمن الوطني، في حين ترى المعارضة أنها تدافع عن حقوق أساسية لا علاقة لها بـ «الأمن الوطني» لا من بعيد أو قريب، وتدور في معظمها عن «الدستور العقدي» للعام 73 والدستور الصادر بعد مرحلة الميثاق التي حصلت فيها الحكومة على نسبة بلغت 98,4 وهي نسبة لم تكن لتحصل عليها الحكومة لولا اتفاقها مع المعارضة.

في الختام أود القول إنه أعجبت أيما أعجاب بالصراحة المتناهية للبسطاء من الناس وطريقة إعلانهم عن طموحاتهم التي يرون أن الحكومة تتجاهلها لأسباب يجهلونها، وأن الديمقراطية التي يعيشونها ليست بالديمقراطية الحقيقية التي ينشدونها، وانهم يطمعون في أشياء يرون أن في مقدور الحكومة تحقيقها مثل خلق فرص عمل للشباب وإفساح المجال للتعبير الحر عن الآراء، مهما كانت تحمل في محتواها من قسوة و«تحامل» على الدولة ومؤسساتها. وقال أحدهم: «أرجو ألا ينطبق علينا المثل السوفياتي الساخر يوم كان النظام الشمولي: «يتظاهرون بالدفع لنا ونحن نتظاهر بأننا نعمل»، يعني أن الدولة تتظاهر بمنحنا الديمقراطية ونتظاهر نحن بدورنا أننا ديمقراطيون وننعم بالديمقرطية.

ومن منطلق قول الإمام علي بن أبي طالب (ع): «من أمضى يومه في غير حقٍ قضاه؛ أو فرضٍ أداه؛ أو مجدٍ بناه؛ أو حمدٍ حصله؛ أو خيرٍ أسسه؛ أو علمٍ اقتبسه؛ فقد عقّ يومه». ومن منطلق نصيحة رجل لابنه «اعلم يا بني أن كل دقيقة مشغولة بعمل صالح، هي وقت ثمين، يعود بالفوائد والمنافع أضعافا مضاعفة. فالحياة أقصر من أن يجازف بأيامها يا بني. فاعرف قيمة ساعاتك، واحرص على دقائقك وثوانيك».

حاولت أن يكون يوم ضيفي في البحرين مليئا بالمعرفة الصادقة عن واقع لا يمكن إيجازه في ساعات. وتساءلت بيني وبين نفسي عندما تخلف عن الحضور رجال يملكون من المعرفة ما لا يملكها الانسان البسيط: «كيف يمكن أن نساهم في إبحار سفينة البرويسترويكا الملكية إذا ما تخلف أصحاب العقول إن لم نقل المتعالمين والمتثاقفين والمتعالين؟ كيف يمكننا أن نساهم في إبحار سفينة الملك البرويسترويكية وإنجاز ما وعد بإنجازه في سبيل تحقيق الديمقراطية ومن بيننا أفراد يتبؤون مراكز في الدولة لا يجدون الكياسة للاعتذار عن عدم تمكنهم من حضور موعد قطعوه على أنفسهم لضيف قادم من بلد بعيد جدا ليساهم في كشف الواقع المستعصي على الكشف وجعله ينتظر تشريفهم لفترة زمنية طويلة، وقد كنا انتقيناهم انتقاء من بين كثير يودون لو سمح لهم التعبير عن وجهة نظرهم بشأن الديمقراطية وانعدام العدل في بعض المواقف.

ختاما أعتذر أشد الاعتذار يا صديقي العزيز نيابة عن كل أولئك الذين جعلوك تنتظر من دون أن يجدوا الكياسة في الاعتذار عن عدم قدرتهم عن الحضور، وجعلوك تنتظر في صالة الفندق تتمعن في أسمائهم الرنانة المسبقة بعلامات العلم والوجاهة، وتتخيل الاجوبة التي قد تكون مفتاحا لتطور الديمقراطية في هذا الوطن الصغير المبحر في بحر تتراقص عليه أمواج عاتية من كل صوب وحدب. آسف جدا فهذه ليست من أخلاق العرب ولا من أخلاقكم حقيقة، فأنا أعرف حق المعرفة تقديركم للوقت والإنسان. أرجو قبول اعتذاري كما أرجو أن يكون قد وجدت بعضا مما كنت تبحث عنه في من قابلتهم من بسطاء الناس وبعض الرجال الافاضل دون النساء التي لم نجد لك أحدا منهن لتتحدثن إليك لضيق الوقت ما أغناك عن كل هؤلاء الذين أخلفوا الموعد.

أعلن الفرنسي جان فرانسوا ريفيل أن «الديمقراطية قد تبدو على رغم كل شيء وكأنها لم تكن سوى حادث عابر في التاريخ، فترة اعتراضية قصيرة تتلاشى تحت أنظارنا» وأظنني لن أخطئ الصواب إذا ما قلت إنها بالنسبة إلينا في الوطن العربي قد تلاشت حتى قبل أن تتحقق نتيجة دفن النخبة رؤوسها في التراب خوفا من أن يصيبها أي مكروه

العدد 612 - الأحد 09 مايو 2004م الموافق 19 ربيع الاول 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً