العدد 747 - الثلثاء 21 سبتمبر 2004م الموافق 06 شعبان 1425هـ

ادرس «حكومي» وافقد النطق!

عبير إبراهيم abeer.ahmed [at] alwasatnews.com

كثيرا ما تساءلت بيني وبين نفسي وأنا على مقاعد الدراسة في الجامعة: ما الذي يميز طالبا عن طالب آخر؟ ترى ما الذي يجعل طالبا له من الجرأة ما يعينه على «محاججة» الأستاذ نفسه، بينما في الجهة المقابلة إليه ترى زميله ساكنا في مكانه فاتحا فاه، يستمع إلى صاحبه وينظر إليه وكأنه مخلوق من كوكب آخر، أو أن الله حباه بعقل غير عقول البشر؟!

كنت غالبا ما أسرح عن كلام أساتذة ودكاترة الجامعة لأصغي إلى أولئك الطالبات وهن ينطلقن في الحديث مع الدكتور بكل طلاقة وحرية، وفي أمور لم أتصور أبدا أن هناك من يعلم بها وهو في تلك السن الصغيرة التي بدأت للتو تتفتح على عالم الجامعة الذي يعتبر في نظر غالبية من هم على أبواب دخولها، عالما كبيرا يعلو فيه العلم درجات وبمجرد دخوله فلنقل وداعا لأيام الطفولة ومرحبا بعالم الكبار!

دراستي كانت في إحدى دول الخليج الشقيقة التي تكتظ جامعتها بطلبة البحرين... وربما هذا ما أتاح لي الإمساك بالخيط الأول، أو الالتفات إلى مسألة لم أجد لها وجودا في بلدي، وتحديدا في محيطي، فالكل متساو إلا من فروقات بسيطة كنا نعدها رمزا للتميز.

بداية كنت أدخل القاعة فأستقل (سواء كنت بمفردي أو بصحبة عدد من بني جنسي وجنسيتي) مقعدا منعزلا قليلا عن طالبات تلك الدولة الشقيقة، ليس تكبرا أو إنزواء ولكن يمكن اعتباره حياء التحدث إلى أناس غرباء ونحن ضيوف عليهم في دارهم... هذا الأمر جعلني آخذ راحتي في المراقبة والمقارنة... وليتأكد الجميع أنهم منذ الوهلة الأولى سيلمسون الفرق! إذ كنا لسنا منطوين بالأجساد فقط، بل بالكلام والنطق، وإن كانت عقولنا تعي من كلامهم الكثير ولكنها أبت البوح بمكنون فهمها، وإن استجمعت قواها للحديث خرجت كلماتها متقطعة مرتجفة وكأنها رأت أسدا أمامها محاولا افتراسها!

في مقرر «منظمات دولية» على ما أذكر، اتخذ أستاذ المادة أسلوبا آخر غير المعتاد... إذ قسم الطالبات إلى مجموعات، وأمر كل مجموعة بدراسة منظمة دولية معينة، ثم تعقد بما أشبه بالمحاضرة أو الندوة، تجلس طالبات المجموعة في مواجهة البقية التي تبدأ بطرح أسئلتها ومداخلاتها وعلى المجموعة الموعودة إبداء رأيها وبالأدلة والبراهين، وطبعا لا مجال لرحمة الطالبات على زميلاتهن إذ أسئلة الدكتور كانت بالمرصاد، تطوق الحبل حول أية رقبة يشعر بمحاولة فرارها من الطوق!... أتصور أنكم مما ذكر تصورتم حالي... نعم، كنت كطفل صغير يواجه عقابا شديدا من والده! رجفة... وجه محمر يتصبب عرقا... دقات قلب متسارعة وكأنها في سباق مع الزمن ترجو انتهاء هذه البلوى على خير!

عندها ازدادت حيرتي وبدأت بالتفكير: ما الذي أصابني؟ واسترجعت ملامح الدكتور... لم يكن أسدا لأخشى انقضاضه عليَّ، وإنما كان على رغم شدته يحاول بشتى الطرق ان يمنحني قدرا من الجرأة... بل فرصة لأفك قيد لساني الذي طوق كل إجابة على أسئلته.

ربما بعد هذه الحادثة بدأت أستجمع قواي وأعيد حساباتي من جديد وابدأ شيئا فشيئا بتحرير لساني... لكن السؤال مازال شاغلا بالي وأخذ يلح عليَّ بازدياد وأنا أرى، وفي هذا الزمن الذي فقدنا فيه السيطرة حتى على أبنائنا وبتنا في عراك دائم معهم، أرى الألسن مازالت تفتقد عنصر المواجهة... مازال طلاب الجامعة يترددون في الوقوف في مواجهة زملائهم الطلبة وفي مشاركة الدكتور والإجابة عن أسئلته.

والمقارنة في البحرين ربما نلمسها بين قطاعين من الطلبة: بين الدارسين في المدارس الحكومية ونظرائهم من الدارسين في المدارس الخاصة! ربما يقول البعض ان نظام الاختلاط بين الجنسين في المدارس الخاصة منحهم نوعا من الجرأة والقدرة على مواجهة الأمور... وهذا في جانب كبير منه صحيح... ولكن هل يعد ذلك السبب الوحيد الذي يجعل «الخاصين» يتفوقون على «الحكوميين» ليس في الجامعة فحسب بل في مواجهة كل أمور الحياة؟ ما الذي يجعل ولي أمر بينه وبين الفقر شعرة يغامر بدفع ألوف الدنانير - عن طريق الاقتراض طبعا - ليلحق ابنه بمدرسة خاصة والخير أمامه بالمجان؟

أنا لست هنا في نصرة المدارس الخاصة على الحكومية... فلكل نظام مساوئه التي لا تخفى على أي بصير... ولكني بصدد الوقوف على جانب من المشكلة التي لمست أن جزءا كبيرا منها يقع على أسلوب التدريس في «الحكومة»! أسلوب: استمع... اقرأ... احفظ صم... سمِّع... إلخ من الأوامر الجامدة التي تثلج عقول الطلبة فيما هو موجود في كتابهم المدرسي فقط!! مرت قرون وتبدلت العصور والأفكار والعقول والوسائل التعليمية ونحن مازلنا على منهجنا القديم: «احفظ... سمِّع»... عقول جمدت... مواهب دفنت... ألسن كتمت... أناس وصلوا إلى أعلى المناصب بلسانهم ونحن مازلنا قابعين تحت مظلة الكتمان.

دول بات فيها الكتاب شيئا ثانويا... والوسيلة التعليمية شيئا أساسيا في الوصول إلى أية معلومة تجعلها راكزة في أذهان الطلبة... الطالب فيها يعتمد على نفسه في الوصول إلى ما يريد واكتشاف ما لم يخطر له على بال... أدوات الوسائل التعليمية متوافرة في كل محلاتها من البقالة الصغيرة إلى المجمعات المتخصصة في هذا المجال... ونحن نبحث عن «الفلين»، «الألوان» التي تعد أبسط الأدوات لخلق وسيلة تعليمية فيصيبنا الدوار ولا نجدها، وإن انفرجت أساريرنا بالعثور عليها واجهنا سعرها برشاشها القاتل للجيوب والقلوب!

فعلى من نلقي اللوم: على مدارسنا الحكومية أم مناهجنا أم مدرسينا سواء القدامى أو الجدد الذين توارثوا الأسلوب القديم ورضوا به ولم يحاولوا الارتقاء بأنفسهم إلا قلة قليلة منهم تصارع الإرث القديم وإحباطات الوزارة أم على وزارة التربية والتعليم عموما بما أنها القائد لكل هذه الجبهات؟!

ولا يسعنا القول إلا تلاحقوا البقية الباقية من لساننا قبل أن تبتلعها تماسيح العصر فنبقى نندب الحظ وقلوبنا تكويها حسرة ضياع الفرص التي لم تستغلها في التنفيس عن نفسها فارتقت الأمم وبقيت هي تنفخ في القرب المثقوبة!

مع القراء

على اختلاف القراء وتنوع مشكلاتهم التي غالبا ما تدمي القلوب... غير أني وإن اصطنعت التجلد في كل الأحوال أرى نفسي عاجزة عن ذلك أمام رجل شرقي اغرورقت عيناه بالدموع وهو يستجدي لقمة سلبت منه ومن عياله! ولن ألقي اللوم على أحد ولن استعطف القلوب فبمجرد التأمل في المسألة سنفهم أبعادها كاملة... والله المعين

إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"

العدد 747 - الثلثاء 21 سبتمبر 2004م الموافق 06 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً