العدد 4713 - الأحد 02 أغسطس 2015م الموافق 17 شوال 1436هـ

الذاكرة: أنتَ وإن حُوصرتْ خياراتك

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

كل إنسان علَّمتْهُ وتُعلِّمه التجارب من المُفترَض ألاَّ ينسى. حين ينسى لا تعود هناك تجربة. وبمعنى آخر، لم يكن في صُلب التجربة؛ بل لا علاقة له بها. الوعي بالتجربة حضور. الغياب يذهب إلى النقيض: لا ذاكرة في الغياب. الذاكرة هي الوعاء الضروري لأي منا، أمس، واليوم، وغداً. وظيفتها أن تتدخَّل وتُصحِّح مساراتٍ كانت خاطئة، ويظن بعض البشر أنها كانت صائبة. صائبة ولو قادت إلى مهالك وإعادة مدن وبشر إلى السيرة الأولى: سيرة العدم! بعضهم على رغم تكرار الأخطاء إلاَّ أنهم يَروْن أنفسهم على صواب، ولا يُمكن مجاراة «عبقريتهم» التي يحتاج العالم إلى استنساخها قبل أن تندثر وتنقرض من على وجه هذا الكوكب! وفي ذلك أذى عظيم وخسارة كبرى! فيما هم من مُحفِّزات ومُشهِّيات الاندثار والانقراض، بالإساءة التي يوجِّهونها إلى العالم مع كل شهيق وزفير يمارسونه.

الذاكرة ليست وعاءً فقط نغرف منه كلما استجدَّت أمور، وبرزت وتصدَّرتْ وقائع، تُعيدنا إلى الشبيه والمماثل وطبْق الأصل لما حدث. الذاكرة هي في قدرتنا أيضاً على ترتيب حياتنا وعلاقاتنا ورؤيتنا وموقفنا وخياراتنا، ومع من نقف ونصطف. ومع من نصدُّ ونمنع ونَحُولُ. كيف نرى، ونتعامل أو نجفو، ونلتزم بالقطيعة أحياناً. نقف مع ونصطف؛ ليس لأن موضوع اختيارنا يملك أسباب القوُّة والمال والتأثير؛ بل لأنه يحمل هدفاً ورسالة نبيلة، ويتوجَّه إلى الخير -كل الخير- بكل ما يملك من إمكانيات، وحتى لو لم يملكها. نقف لأن ذلك هو دورنا الحقيقي، في حياة تضجُّ وتمتلئ بالزيف والأقنعة والتورية، ويعاني فيها الوضوح والمباشرة للموقف، ضرباً من الاغتراب والإقصاء والنفي والإبعاد. ضمن توجُّه وتصميم - لا المحاولة وحدها - يسعى باليسير، والذي يكاد يكون خارج منطقة التغطية، وإن تمَّت تغطيته؛ سيكون عرضة للسخرية من كثيرين. من الذين كنا نظنهم عقلاء، قبل الذين ثبت عندنا أنهم مدفوعون وفي درجات رديئة من الجنون. الجنون الذي هو في كثير من الأحيان ذروة العقل بحسب مساحة عاطفية ومجازية طرَقَها الشاعر السوري الراحل نزار قبَّاني: «قمَّةُ العقلِ يا حبيبي الجنونُ»، ذلك في الحب، وما نحن في صدده يكتظ بالختل والشِراك والمؤامرات، والكراهية أيضاً؛ وذلك على النقيض مما ذهب إليه قبَّاني.

بالذاكرة نفسها، نُحدِّد من نحن، وما الذي نُريد، وما هو الدور الذي يُمكننا أن نقوم، أو نستأنف القيام به. هي الخريطة التي يحتفظ بها كل منَّا في رأسه كي يجتاز منعطفاً، أو يقفز على فخاخ تُنصب له، أو استيعاب ما وراء علاقات تُرسم ويُخطط لها في طريق أذى واستهداف، وربما محاولات تصفية، لن تخلو من بشر (ذئاب)؛ بعيداً عن قيمة البراءة التي يمثلها الذئب في النص المقدَّس، بافتراء بدأ به العالم ضد الكائنات من حوله.

الذاكرة مدى مفتوح، ويُريد بعضهم أن يُحوِّله إلى سجن، كبقية السجون التي تتحكَّم وتُهيمن على هندسة الخَيَار والمكان أيضاً، كتْماً لأنفاس البشر. يُحدِّد ما الذي يُمكن أن يخرج من تلك الذاكرة، وما الذي يجب ألاَّ يغادر مساحة التحكُّم لدى صاحبها.

وتظلُّ الذاكرة من أدلَّة وجود شخص، جماعة، أُمَّة، أو حضارة. لذلك أول ما يتم العبث به وطمْسه هو التاريخ الذي يدلُّ على كل أولئك: العبث بالتاريخ (التاريخ في جانب منه ذاكرة قبل أن يكون درساً في الوقت نفسه)، ومنه تتحقق نتيجة العبث بالوجود، وما يرتبط به من تفاصيل. كم مساحة في التاريخ تم العبث بها، تظل مسئولة عن جُزء كبير من الخلل والكوارث في الحاضر البائس الذي نشهد، والمستقبل الذي لا أثر يدلُّ عليه؟!

تاريخ هذا العالم ناقصٌ ومُرتبك، إما بسبب الحروب والكوارث، وإما بسبب العبث به وكتابته بحسب الطلب والمواصفات والتفاصيل.

ثم إن الذين لا ذاكرة لهم لا يُسبِّبون قلقاً واستنفاراً وتحضيراً للرد؛ مهما كان افتعال واختلاق مادة وموضوع الذاكرة يشي بالرصانة والإبهار؛ لكنها تظل ذاكرة بائسة وركيكة وليست ذات قيمة. فقط الذين لهم ذاكرة يُسبّبون ما يشبه الهيجان والجنون، ويدفعون أطرافاً لاستنفار كل طاقاتهم وإمكاناتهم وأدوات مواجهتهم؛ سواء تلك التي يُقرِّها العقل والأخلاق والشرف، أو تلك التي هي على النقيض من كل ذلك.

والذاكرة ليست إرثاً خاصاً، بالدور الذي يُمكنها أن تلعبه، والأثر الذي يُمكن أن تُحدثه. ذاكرة أيٍّ منا جزء من ملْكيته؛ لكنها محصِّلةُ ونتاجُ حضور أي منا أيضاً، في المكان بكل تفاصيله، ومع البشر على اختلاف إنسانيتهم أو «ذئبيَّتهم». في الحالين هي لنا؛ ولكنها تصُبُّ وتشكُّل مجموع وعي المكان الذي ينتمي إليه أي منا؛ وحتى ذلك الذي يقيم بمنأى عن مكانه الأول. له ذاكرته المضاعفة بوَحْيَيْن: وحيِ مكانه الذي بَرِحَهُ، ووحيِ المكان الذي سِيق إليه، بخيار أو عنوة.

والذاكرة: مرآة في ليل وعزلة وفقْد، وانكسار قلْب، ووجع ينهمر كأنه القيامة. هي تلك القدرة على الخروج وتصحيح ما نحن عليه إلى ما يجب أن نكون عليه.

والذاكرة تلك القدرة على الفهْم. فهْم ما كان وفات، واستخلاص ما يرتفع باللحظة الزمنية والمكان إلى مشارف وجهات ومساحات ما كان ليتوافر البلوغ إليها إلاَّ بشِقِّ الأنفس، وبحار من المآسي والدماء، وأكثر من خيْبة.

الذاكرة: أنت وإن حوصرتْ خياراتك في اللجوء إليها. مثل ذلك اللجوء هو ما يُمهِّد لإثبات نفي الذين ترصَّدوا لك... لذاكرتك!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4713 - الأحد 02 أغسطس 2015م الموافق 17 شوال 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً