قليلة هي الإصدارات التي تقدِّم مقاربة في الفن، أو على الأقل تقترب من الفن دون أن تكون مسكونة بالجانب الصارم والمتجهِّم منه؛ أو على الأقل: الغامض فيه ومنه. أن تذهب هكذا على سجِّتيها، تفتح نوافذ للأفكار. تستدرج الضيف إلى كلام ربما ظل مُؤجَّلاً، أو لم يجد من يمنحه أوعية بحجم الفضاءات التي ستتحقق.

ليست الإصدارات الفنية وحدها شحيحة. حضور الفن عموماً في الوسط العربي. حضوره ضمن قاعدة عريضة هو الآخر غائب. أن تهتم بهكذا كتابات، حوارات ضمن هذا الوسط، فهو الآخر أمر فارق، ويدل على صلابة في العناد.

«الظل في الظل» للفنان التشكيلي البحريني عباس يوسف الصادر في العام 2015، في 337 صفحة، من تلك النوعية من الإصدارات التي يُنظر إليها على أنها مشروع حوارات فارقة، وتملك القدرة على خلق حالة من الاستدراج إلى شهادات لا يتم تطويقها بالأسئلة المباشرة أو المُغلقة التي لا تتيح ولا تفتح أفقاً.

حضور السيرة الشخصية في هذا النمط من الحوار، هو اللعبة الذي أمسك بها يوسف بكفاءة واقتدار على مثل ذلك الاستدراج الذي يتيح للذين حلُّوا ضيوفاً على «الظل في الظل» قول ما لم يظهره حافز أو حتى استفزاز. شيء من الاستفزاز الضروري في الكتاب أيضاً. الحوار الذي لا يستفزُّ، يُقيم في الثرثرة.

قدَّم للكتاب الناقد التونسي، محمد بن حمودة، بعنوان مكثَّف يعكس القيمة العميقة التي قدَّمها على امتداد 19 صفحة من الكتاب: «شغب الصورة الفوتوغرافية المنبجسة من أسف: رفضها للإقفال، وتذويبها للفني في عوالم الناس المحلية»، أبرز فيها أهمية الكتاب باعتباره من جنس الكتب المهتمة بالسيَر الشخصية، أو ما أطلق عليه بـ «كتاب قُرْب»: «قْرب الكتاب من محاوريه، وقرْب الشخصيات المشاركة في الحوارات من عالم الناس، وكذلك قرْب إبداعاتهم من الحياة ومن سياقاتها المحلية».

يشير بن حمودة إلى أن الكتاب في الوقت نفسه له صلة بالمجال الثقافي بدلالته الأنثروبولوجية؛ أي بعالم الناس بالمعنى السلالي للكلمة، وعالم الناس السابق والموالي لقواعد الحياة والممارسات الرسمية.

إغراء المصطلح... المحروس

يضيء بن حمودة ما وراء عنوان الكتاب «الظل في الظل»، مشيراً إلى إغراء المصطلح الذي نحته القاص والروائي والمصور الفوتوغرافي حسين المحروس في الحوار المفتوح الذي تضمنه الكتاب، وما يرمز إليه من دلالات، رابطاً إياه ضمن صيغة مرادفة كان أهل نجد (النجديون) يسمونه «العكْس»، في إشارة إلى الصورة، مُستدعياً هنا كرَّاسة المازني «رحلة إلى الحجاز» في قوله: «علمتُ بعد ذلك أن (العكْس) معناه في اصطلاحهم الصورة، وكان الباعث لهم على طلب الصور منا أن رياض أفندي شحاتة أعدَّ نحو ألف صورة – في حجم بطاقة البريد – لجلالة الملك ابن سعود، وفرَّق أكثر ما معه في وادي فاطمة، فتوهَّموا أن كل مصري مصوِّر، ورياض أفندي أيضاً! وليتني كنْتُه! إذن لاستغنيت عن هذا الكتاب، ولما أصبحت أتجشَّم تعب التسطير والتحبير ونفقات الطبع والنشر».

المقدمة على قدر كبير من الأهمية بإضاءاتها؛ واشتغالها على الجانب الحسي لما قبل/ أثناء/ بعد الصورة «العكْس لا يخلق اعتقادا، خلافاً للصور السينماتوغرافية مثلاً. ولكن إغراء عملية التقاط صور حية يجعل المبدع يواجه لزوماً يقتضي منه مضاعفة الصور الفوتوغرافية على نحو يرفع حدَّة التوتر الذي تنخرط فيه تلقائياً الصور الفوتوغرافية، والمترتب عن تعارض اعتبارات الزمانية النقطية (زمن اللحظة) (أسميها حساسية اللحظة)، مع اعتبارات الزمان الحركي، وما يستتبعه من إبهام وضبابية».

يتناول بن حمودة ظهور اللوحة المسْندية وارتباطها بشروط نشأة المدن، تلك التي استهلَّها العهد الأشوري «قبل أن يطورها اليونان ويحولها إلى إرث حضاري غربي»، في تحديد لعمق الغربة العربية على التشكيل، ذلك الذي أشار إليه الفنان السوري طلال معلا.

ليعود بنا إلى الاشتغالات العميقة في الكلام على الصورة هذه المرة للفوتوغرافي المحروس، تلك التي اكتسب جانباً منها بحكم تعدد اهتماماته الجادة على مستوى السرد، الذي أتاح له سعة نظر، وعمق استنتاج « فانطلاقاً من رؤية الفرنسي ميشال فوكو «أن نرسم، هو مرادف أن نكتب»، «أوجز المحروس شغب الصورة الفوتوغرافية عندما لفت النظر إلى ما تُحدثه من انقلاب المعادلة الكتابية فأصبحت (الصورة أولاً والكتابة ثانياً)».

لا ابتغاء لانتهاء الدرس

يحضر عبدالكريم البوسطة، أحد روَّاد الحركة التشكيلية في البحرين. في تقديم عباس يوسف له، اقتراب من السيرة التي يراها هو. ضمن منظوره. في التقديم شيء من السيرة أيضاً. أحياناً لا تقدِّم للسيرة: تكتبها. صوغها هو الآخر، إسعاف لما - ربما - لم يستطع صاحبها أو لم يقوَ على سرْدها بالصيغة التي يراها لائقة. لهذا وحده، يظل كتَّاب السيرة اليوم أكثر وفاء على تضمينها ما يُظنُّ أنه لا يتضمَّن أهمية. وتلك مهمة كاتبها، عن قرب أو بعد.

التفاصيل التي تأخذك من البيت باعتباره المحيط الأول، إلى تفاصيل ذلك البيت، الأقرباء... الأصدقاء... البشر، وخارج محيط وبيئة ذلك البيت: الفضاء الأكبر والشامل للمكان. السفن بأنواعها. اللوحات المرسومة على ألواح صناديق الشاي المستوردة من الهند. رسم تفاصيل السفينة على الظهر أو على الجانب منها «هذا الفنان من كان يختار لرسم خط حد طفو السفينة، وهو ما يسمى خط النوش (...)». بداية المحترفات، صيغ وأنواع الألوان التي تأخذه إلى فضاء اللوحة كي يرى الفضاء من حوله كما يجب. ذكريات الذين كانوا هنا، من بلجريف، وتعطيله - بعض الشيء - تأسيس جمعية البحرين للفن المعاصر، عروجاً إلى جماعة الهواء الطلْق في ستينيات القرن الماضي؛ حيث الطبيعة هي الموئل والمرجع في الرؤية، رفقة كريم العريض، راشد سوار، راشد العريفي، وناصر اليوسف، ومن بعد، أسامة عبدالصالح، التقاطاً لحركة المقاهي، الحارات. أنت ترسم الروح في تلك الأمكنة، وليس بشراً جامدين في أمكنتهم.

الفن... خدمة البشرية!

العراقي فيصل لعيبي له حصته من الحوار/ السيرة. تأخذ أسئلة عباس يوسف لعيبي إلى مساحات ربما طرقها أو تناولها من قبل، لكنه هذه المرة يعمِّقها أكثر، ويضفي عليها نوعاً من المنهجية، بعيداً عن الأحكام المطلقة من جهة، والتورط في مساحة شعرية ليس من وظيفتها أن تقدم منهجاً. في سؤاله عن ملامسة مواضيع شغله الفني، وهل هو إيمان وقناعة بأن الفن في خدمة الإنسانية؟ يؤكد ذلك. وبصيغته: «الفن ليس في خدمة البشرية؛ بل خدمها أفضل من أي نشاط آخر مارسه الإنسان خلال مسيرته التي نعرفها. فهو عندما كان ينحت الحجارة ليحوِّلها إلى رأس أو رمح ليصطاد بها فريسته، كان أيضاً وفي الوقت نفسه، يخلق شكلاً جميلاً، أي عملاً فنياً (...)».

وفي رده على مغادرة عالم التشخيص باتجاه أسلوب آخر، لم يتردَّد لعيبي في وصف السؤال بأنه غير جدِّي: «لماذا عليَّ أن أغادر التشخيص، هل لأن هناك في مكان ما من العالم بدأ بعض الفنانين في تقديم أعمال ينعدم فيها الحضور البشري أو التشخيص كما وصفتَ؟». رفضاً منه لمسايرة ما يجري بعيداً عن مشاكله البصرية والجمالية، وحتى الاجتماعية.

وفي الوسط والبيئة التي تحتضن طقوس عاشوراء، في إعادة لإنتاج المأساة سنوياً، ولد لعيبي، لكنه تجاوز النمط الذي يمارس وسط تلك البيئة التي تنتجها. ظل تناوله لها عبر أعماله بعيداً عن الحس الطائفي «ولم أشأ عرضها في معرض لحد الآن بسبب هذه الهستيريا الطائفية التي تعمُّ بلادنا العربية والإسلامية (...)».

النعيم... هندسة القلب

كاتب السيرة بامتياز، الروائي والقاص، المصور الفوتوغرافي، صار عليه عبر حوارات عباس يوسف أن يكتب جانباً من سيرة الصورة. أن يقاربها باللوحة. أن يكتب سيرة الكتابة نفسها. في نهاية المطاف، أن يكتب جانباً من سيرته وسط اشتغاله على كل ذلك.

يكتب عنه عباس يوسف الآتي: «أي وهْم هذا الذي يمارسه المحروس علينا... عليه؟ بافتراض أن من قلبه لا يرى، لا يدرك، ومن عينه غبش لا يعرف أي عالم هذا الذي صاغه؟ هل هو صفقة بين الكاميرا والفكرة؟ أم أن الفكرة سرقت الكاميرا (اللقطة)، سرقت صاحبها المحروس فراح يبدع حلولاً»؟

تلك هي رؤيته. لم يدَّع المحروس يوماً أنه يُقدِّم حلولاً. هو ليس إزاء مشكلة تحتاج إلى حل. هو أمام تنوع في قدراته على التعبير. ذلك ما أكرره وأؤكد عليه دائماً. حبيس اللون/ الفن الواحد، يظل حبيس فضائه. الذي يملك فضاءات متنوعة ومتعددة يتحرك في مجالاتها، تظل مشكلته في اختيار التعبير عنها، ولا مشكلة في الاختيار، ولن يكون أمام مشكلة أساساً كي يجترح الحلول لها.

وشيء قريب من الكلام السابق كتبه عباس يوسف، تناولاً لتجربة المحروس في «بروفايل» «يمارس المحروس لعبة ابتكار وخلق صوره (الجرافيتية)» للمحروس إضاءة هنا «المصوِّر عندما يصنع صوراً يحتال، وفي بروفايل صحيفة (الوقت)، الصورة حيلة».

هل لأنني من مواليد النعيم، والمحروس كذلك؟ أنحاز لأقول: كل من ولد في النعيم وتورط في الكتابة... الفن، سيكون بصره حديداً بامتداد البحر الذي يفصل بينه وبين بيوتنا شارع ضيِّق. هكذا أرى الصورة. هكذا أرى هذا الحيز المكاني البحري إذا صح التعبير.

في كلامه عن النعيم وفاء بوعي وفطنة، وذاكرة حديد أيضاً.

«الذهاب إلى البحر من بيتنا لا يكون إلا عبْر ورش (القلاَّفين). رأيت كيف تصبح الأشجار سفناً ضخمة لا خطة مكتوبة، أو خريطة هندسية مرسومة، لا هندسة غير قلوب رجال خفاف، تتوافق هندسة القلب مع هندسة الطبيعة، فلا يزيد في طرف السفينة عن الآخر، لكل لوح اسم، ولكل فعل مصطلحه».

لا ملل في التفاصيل

عن العودة إلى الذاكرة التي تشكِّل مرجعية مهمة، يتحدَّث المحروس. تلك التي لها اليد الطولى في تحديد كثير من مسارات الوعي. تأخذ به إلى مساحات بكْر، تتخلَّق منها عوالم وإن تم التطرق إليها وتناولها، لكن الصيغة والمدخل إلى ذلك التناول يكون مختلفاً ومبهراً.

«مازلت أعود إلى هذه الذاكرة، ومازلت أستخدمها، ومازلت أرى أشياء شبيهة بهذه الذاكرة في الآخرين؛ لكنها ليست هي، مازلت أتذكَّره وأتناوله وأقصُّ منه وأصوِّر به، وأستفرغ منه، وآخذ منه، وأعتقد أن هذا كان أهم الروافد التي رفدتْني بالقدرة على رؤية التفاصيل».

لا تشكِّل مثل تلك التفاصيل مشكلة لدى المحروس، ولا تشعره بالملل. هي على العكس من ذلك، يجد فيها الكنز الذي سيصقله على طريقته الخاصة. إنها المتعة في الذهاب إلى ذلك الكنز والعمل عليه. «هذه التفاصيل لا تشعرني بالملل، على العكس، هي تشعرني بالمتعة وبلذَّة كبيرة». كل اشتغال بدقة فيه متعة ولذَّة. أن تسرد، تقص، تكتب سيرة، تتهيَّأ للقبض على لحظة ما من خلال الكاميرا، كل ذلك يتطلَّب دقة كي تتحقق المتعة واللذة اللتان أشار إليهما المحروس.

وفي الحديث عما بعد النص السردي، ما بعد الصورة، ثمة سيرة يضعنا أمامها المحروس. سيرة النظر إليهما، وهنا أيضاً ما قبل/ ما بعد وبينهما (أثناء). في الحديث عن العلاقة/ الرابط بينهما. أيهما الأقرب إلى القلب؟ في الحديث عن الجانب التبادلي بين كل عالم/ فن وآخر. كيف يمكنك تجسير تلك العلاقة؟ تلك هي المسألة. «ما تمنحني إياه الصورة وتجود به يمكنني من تفاصيل في السرد، بالصورة أشعر بأني قريب من الشخوص عبر تخيُّل ورسم شكل وجوههم وأجسادهم وتشريحها بيسْر. الصورة تمنح الكاتب أرشيفاً غنياً للصور التي تكون عليها الأمكنة (...)».

«الظل في الظل» استدرج كلاً من: علي المحميد، يحي الشيخ، جبر علوان، محمد المقهوي، طلال معلا، تاج السر حسن، الهاشمي عامر، محمد الجالوس، حكيم العاقل، فادي يازجي، بدر النعماني، بيان كانو، ماجدة نصر الدِّين، ومحمد المهدي.

ضوء

يذكر، أن الفنان عباس يوسف من مواليد العام 1960، شارك في عشرات المعارض الفنية، الفردية منها والجماعية، في عدد من العواصم العربية والعالمية، إضافة المعارض الفنية المحلية.

اشترك مع الفنان جبَّار الغضبان في معارض ثنائية عدَّة في: الكويت، الأردن، مسقط، لندن، دمشق، حلب، كوبنهاغن والبحرين، ومع محمد الجالوس في دمشق العام 2010.

حصل على عديد الجوائز، من بينها جائزة الفنون التي تستلهم الخط العربي، من ملتقى الشارقة الثاني للخط والزخرفة العام 2006، والجائزة الأولى من بينالي الخط الثاني للعالم الإسلامي، قسم الجرافيك في العاصمة الإيرانية (طهران)، وجائزة تقديرية من بينالي العالم الإسلامي الأول للفنون في طهران. تقتني بعض أعماله متاحف خليجية وعربية وعالمية. صدر له: «إلى البحر بجناح فراشة»، محادثات في الفن التشكيلي (2006)، «بلون ماء النار... برذاذ حليب المعدن» (2009).