العدد 4760 - الجمعة 18 سبتمبر 2015م الموافق 04 ذي الحجة 1436هـ

وفَيَاتٌ كثيرة وموالِيد قليلة!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل ثمانية أعوام أذِيعَ خبرٌ غريب. الخبر يقول بأن قناة تلفزيونية ستبث في ألمانيا مهمتها فقط إذاعة «شئون الجنازات والوَفَيَات وترتيبات الدفن». القائمون على القناة وهم رابطة متعهدي دفن الموتى في ألمانيا قالوا بأنه وفي الوقت الذي «تخصَّص القنوات التلفزيونية الأخرى للمشاهدين الشبان» فإن القناة الجديدة «آنذاك» ستخصص «للمرضى الذين شارفوا على الموت والمُسِنِّين».

إن «طريقة اختيار شكْل الجنازة وما إذا كانت التوابيت المغطاة بالزنك هي الأفضل» وكذلك مناقشة «القوانين التي يتعين أخذها في الاعتبار فيما يتعلق بتلوث الهواء عند التخطيط لبعثرة الرماد في حالة حرق الجثة» كما جاء كلها أمور وُضِعَت للبث كونها تهمّ تلك الشريحة (وذويهم أيضاً) من الظاعِنين عن الحياة، أو الذي ظَعَنوا منها حقاً باتجاه حياة أبدية أخرى.

ورغم أن ذلك الخبر يُمكن أن يُصنَّف على أنه ينطوي على جانب من الإثارة والجدل كونه غريب علينا، إلاَّ أنه يستبطن تفسيرات قد لا تُقرأ في أتوه وَهَج تلك الغرابة. من تلك الأشياء هي الوضع الاجتماعي للشعب الألماني، وما إذا كان الحدَّ قد وصل إلى أن يُهتَم بشريحة المرضى والمسنِّين كونهم باتوا يُشكلون نسبة كبيرة في المجتمع الألماني، في بلد هو الأقوى اقتصادياً في أوروبا.

فالشعب الألماني يُعتبر من أكثر الشعوب «شيخوخة» في محيطه على الأقل. فخلال تلك الفترة، كانت التقديرات تشير إلى أن هذا الشعب سيفقد عشرين مليون إنسان مع حلول العام 2050م، بسبب قلة المواليد التي وصلت إلى 8.5 بالمئة في حين كانت النسبة في أيرلندا 15.2 بالمئة حينها. هذا يعني أن «نسبة المسنِّين في ألمانيا سترتفع إلى أكثر من 50 في المئة خلال عشرين سنة».

وقبل عامين قرأنا تقريراً يقول بأن هناك 800 مريض جديد بالزهايمر في ألمانيا يومياً، وهو ما يعني أن 300 ألف ألماني يُصابون بالزهايمر سنوياً، ليلتحقوا بـ مليون و400 ألف ألماني مصابين بهذا المرض، مُنَكِّس المعمّرين في الخلق. ومن المفترض أن تصل تلك النسبة إلى ثلاثة ملايين في العام 2050م. وقد أصبح أعداد الألمان المصابين بالزهايمر «يتجاوز معدل الوفيات اليومي بينهم» كما ذُكِر.

ورغم أن هذه الأرقام تعطي انطباعاً عن مدى التطور الطبي والرعاية التي وصلت الدولة بها تجاه شعبها إلاَّ أنها تبقى أرقاماً باهظة الثمن؛ حيث تُستَنزَف مئات المليارات في الرعاية بهؤلاء، من مصاريف تأمين وأدوية، فضلاً عن كونه خلل خطير في بُنية المجتمع الألماني الذي أصبح «فقيراً» في نسبة الفتوَّة والشباب، بعد أن اجتاح الهَرَم نصف ما يملكه من أرواح، وبالتالي يضرب ذلك النمو.

أبدأ من حيث انتهيت: إنه النمو الذي بات يُهدد الاقتصاد وعجلة الصناعة في ألمانيا بسبب كثرة المسنِّين وبالتالي الوفيات وقلَّة المواليد. قبل أيام كتب داميان ستروكا تقريراً مهماً في وكالة الأنباء الفرنسية حول اللاجئين، وكيف أنهم سيُغيِّرون التاريخ الألماني. ورغم أنه تطرّق إلى أمور كثيرة كالمسألة الدينية للاجئين إلاَّ أن الأهم في ذلك هو رفد الاقتصاد الألماني بهذه القوة العضلية.

فحين تتوقع ألمانيا بأنها وفي 2015 ستستقبل 800 ألف مهاجر فهذا يعني أن الشعب الألماني ستزيد أعداده 1 في المئة في عام واحد، من أشخاص لم يُولدوا في ألمانيا ولم يتعرّفوا على ثقافتها ولم تنفق عليهم يورو واحد. وهو ذات الأمر الذي تحدثتُ عنه في مقال سابق حول الفائدة التي ستجنيها ألمانيا من هجرة السوريين حيث تحتاج المصانع الألمانية لكفاءات وعمالة رخيصة.

والألمان ورغم أنهم من الشعوب الأكثر تمسكاً بقوميتهم إلاَّ أنهم حريصون على التعامل مع تلك المسألة ببراغماتية كبيرة. فقبل 23 عاماً وأثناء حرب البوسنة استقبلوا 438 ألفاً من اللاجئين من يوغسلافيا. وبعد الحرب العالمية الثانية جاءها 12 مليون (وإن كانوا ألمان) إلاَّ أنهم من أوروبا الشرقية إلى «بلد مُدمَّر لم يعيشوا فيه أبداً» حسب تعبير داميان ستروكا.

اسمعوا ماذا يقولون حول ما سيساهم به اللاجئون في سوق العمل الألماني: أوركان كوسمين وهو أخصائي في شؤون الهجرة بمؤسسة برتلسمان قال: «الاندماج في ألمانيا نجح دائماً في سوق العمل». فالديمغرافيا «لن تُغيِّر الطابع الأساسي لألمانيا حيث 20 بالمئة من السكان من أصول أجنبية والتي نجحت في استيعاب موجات عدة من المهاجرين أو اللاجئين دون مشاكل منذ الحرب».

لا يهم أن يزيد عدد المسلمين في ألمانيا من 4 ملايين مسلم إلى خمسة ملايين ما دام الاقتصاد سينتعش وسيُغطِّي تكاليف إدماجهم، وما دام ذلك سيُبدِّد مخاوف المستقبل حتى العام 2060م. الأمر لم يعد مقصوراً على الحزب الديمقراطي المسيحي الذي تنتمي إليه ميركل بل حتى قيادات من الحزب الاشتراكي باتت تنادي بضرورة تسهيل وصول اللاجئين إلى سوق العمل الألماني.

هنا، يأسف العربي فعلاً مما يقرأه ويراه. ففي الوقت الذي تلفظ أرضنا أبناءها، تتلقفهم أراضٍ أخرى بلهفة، كونهم ثروة لا تُقدَّر بثمن. فهم لن يمرُّوا لا بمراحل عمرية متدرجة حتى يُقطَف شبابهم بعد حين بل سيذهبون مباشرة إلى المصانع الأعمال المتروكة على الأرض، فضلاً عن المهن والحرف التي تعلموها وأتقنوها في بلدانهم واليوم أصبحت من نصيب دول أخرى. إنها الخسارة التي لا تُعوَّض فعلاً.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4760 - الجمعة 18 سبتمبر 2015م الموافق 04 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 12:37 ص

      التاريخ يعيد نفسه

      مثلما انتعشت امريكا بالمهاجرين ستنتعش اوربا باللاجئين العرب والمسلمين

    • زائر 1 | 11:19 م

      معادله جيده

      صحيح معادله في مكانها

اقرأ ايضاً