العدد 4830 - الجمعة 27 نوفمبر 2015م الموافق 14 صفر 1437هـ

سيرةُ كتاب: رواية «رجل تحت الصفر» لمصطفى محمود

سُئِل أينشتاين ذات يوم عن نوع الأسلحة التي ستستخدمها البشرية في الحرب العالمية الثالثة؟ فأجاب: يصعُب علي معرفة أنواعها، لكنني على ثقة بأنهم سيستخدمون العصي والهراوات في الحرب العالمية الرابعة؟ نعم هي كوميديا سوداء، فمثل تلك الحروب لا تُبقي ولا تذر.

الطبيب والمفكر والكاتب مصطفى محمود الذي توفي عام 2009 عن عمرٍ ناهز 88 سنة، كتب لنا عام 1966، ما يتشابه ومقولة أينشتاين في رواية تجري أحداثها عام 2067.

لقد طرأت تغيرات جمة على البشرية منذ وقوع الحرب العالمية الثالثة عام 1999 بين روسيا وأميركا. استُخدم فيها السلاح النووي، إلا أن الحرب لم تدم سوى بضعة أيام فقد دُمرت معظم مدن الأرض ومات ملايين البشر. لم تكد الأرض تسكن قليلاً حتى «كان هناك شيء يختمر في هدوءٍ ملعون في هذه العجينة الرخوة من الطين والماء والدم والروث والجثث والعفن والدود والرمم ومخلفات الإشعاع... شيء ملعون بدأ يفصح عن نفسه ببطء، فبدأت تظهر حالات غريبة» مرضٌ «بدأ يكنس الناس، كأنهم ذباب، يتساقطون أمام رذاذ غير مرئي «لم يفرق بين أحد وآخر، من طالب السوربون إلى الزنجي البدائي»، أعتقد أن الكاتب لم يوفق في المقارنة فاستخدام الزنجي البدائي به شيء من العنصرية، فلو اكتفى بالإنسان البدائي لكان أفضل وخصوصاً أن الرواية تحاول إيصال رسالة روحانية لإنسانية فقدت بوصلتها- تم القضاء على المرض بعد توحد من تبقى من البشر. تطورت البشرية بعد ذلك بوتيرة متسارعة. سخروا كل ما توصل إليه العلم في خدمة حياتهم المادية، لدرجة أنهم -ولتدارك النقص الكبير في أعداد البشر- قاموا بزرع الأجنة وتربيتها خارج الأرحام البشرية حتى اكتمال نموها في ما اسماه الكاتب «برطمان». البشر صاروا متشابهي الخَلق إلا أنهم لم يتمكنوا من مشابهة الخُلق، فهي من شأن الروح وما علمها إلا عند العليم. سرعات تنقل البشر فلكية، فبطل الرواية الرئيسي الدكتور شاهين عبَّر عن تململه من طول الرحلة إلى لندن بعد مضي 3 ثوان وربع! ويسير الكاتب في سرد تفاصيل عالم من الخيال وكمٍ من الاختراعات العظيمة التي جاءت من مختلف أصقاع الأرض، إذ إنها لم تعد محصورة في مكان أو جنس بشري دون آخر. الجميع يعيشون بمحبة ووئام، حين ظهور بعض بوادر العنف عند البعض، كذلك الملتحي -في إحدى قاعات جامعة كامبريدج خلال محاضرة ألقاها الدكتور شاهين القادم من مصر- الذي نعت الجميع بالكفر والويل من سوء العقاب، كان الحل بإعطائه «السعادول» المسكن جالب السعادة، حياة أراد بها البشر الوصول لحالة من التسامح والمحبة بعيداً عن البغضاء التي عولجت بمسكنات. لكن مظاهر الحياة الدنيا تظل متجسدة في المتضادات، الحب والكراهية، السعادة والتعاسة، القوة والضعف، الخير والشر وصراعهما الأزلي. فبعد زواج الدكتور شاهين من تلميذته الحسناء روزيتا لم يتحقق لها الاستقرار، فقد أحبها عبدالكريم زميل زوجها وحاول إغواءها، لم ترض به على الرغم من أنه وزوجها شبيهان في الشكل، إلا أن شخصيتهما مختلفة وكذلك أخلاقهما. حانت الفرصة -حسبما اعتقد عبدالكريم لنيل مبتغاه- حين اخترع الدكتور شاهين جهازا لم يصدق هو نفسه قدرته. أراد أن يجرب فعاليته، إلا أنه سُجن لخطر مثل هذه الأجهزة على البشرية فهو يحول الكائنات إلى موجات! وللمحافظة على الجنس البشري وعلى حياة المخترع قام رئيس الأكاديمية والمجلس الأعلى للقوانين -وهم بمثابة الحكومة التي تسير حياة بشر ذاك الزمان- بإعادة فتح السجن الذي أُغلق منذ أمد بعيد. ساعد عبدالكريم الدكتور شاهين على الهرب بعد أن رتب كل التفاصيل. يتسنى للدكتور شاهين تحويل نفسه إلى موجة، على الرغم من علمه بأنه لا سبيل للعودة، لكنه أراد مساعدة البشرية من خلال خوض تجربة في المجهول. كتب وصيته ووضح موجة الجذر التربيعي لعدد خاص، ليتمكن الجميع من مشاهدة رحلته. تابعت البشرية على التلفاز رحلته مذهولة، ظهرت صورة أول إنسان تخطى حاجر الجسد. تنقل في الكون بسرعات تفوق أحياناً سرعة الضوء كاسراً نظريات كثيرة كتلك القائلة بأن سرعة الضوء مطلقة ولا يمكن بأي شكل تجاوزها، مكتشفاً مناطق في كواكب صالحة للعيش، شارحاً أداة وطريقة الانتقال، متحكماً في سرعة وتسارع حركته حتى وصل مشارف الشمس، متهيئاً لاختراقها، مودعاً الجميع فسوف يحلق «في اللازمان واللامكان مهاجراً في شوق إلى المطلق... نعم فأنا أرى الآن في يقين أن الله موجود... بل هو الحقيقة الوحيدة التي غابت عنا جميعاً في غرور التقدم المادي»، كلماته الأخيرة كانت «لا أمل له في النجاة... إلا بمغفرة»، ودع زوجته روزيتا وشكر عبدالكريم على مساعدته على الهرب... واختفى. اعترف عبدالكريم بفعلته أمام مجلس القوانين، وطلب أن ينتقم من نفسه بخدمة يقدمها للبشرية من خلال تجربة صاروخه الذي سينقله إلى المشتري لمعرفة إمكانيه الحياة، مستخدماً نظرية تبريد الجسد لدرجة الصفر المطلق حتى لا يحتاج لشيء خلال الرحلة، على أن يعود لحالته الطبيعية بتطبيق التدفئة التدريجية. لم تنجح التجربة، فارق عبدالكريم الحياة، وهام جسده غريباً في الكون دون مستقر. إلا أن العالم انشغل بالأمواج وحاول العلماء معرفة سر الدكتور شاهين. «وكالعادة أنستهم التفاصيل حقيقة كبرى أطلقها الدكتور شاهين... أن الله موجود... هل نسوا أو تناسوا... أو أعمتهم الحياة المادية التي غرقوا فيها من جديد». إحدى الصحف كتبت «إن الدكتور شاهين فقد عقله، أصابه الخبال، وأن كلامه عن الله ترهات صوفية». وحدها روزيتا من صدق وآمن بوجود الخالق، فما قاله حبيبها لم يكن من نسج الخيال.

أنخدع أنفسنا!؟ علينا الاعتراف بأننا نعيش كارثة قد لا نشعر بوطأتها كوننا نتجرع سمها ببطء، العالم يسير بتسارع -وإن اختلفت تفاصيله عن الرواية- نحو الهاوية.

هل علينا أن نزرع الدمار باسم الخالق في أرضه لنشعر بعد فوات الأوان بجمال خلقه؟!

هل علينا الخوض في كراهية مقيتة لنعرف معنى المحبة؟!

لقد مارسنا خلال حياتنا الكثير من الأخطاء، كابرنا بغرور يحيطه التعجرف وحب الذات والتسلط ونفي الآخر، لنصل -قد لا يكون الكل- لنتيجة مفادها أن هذه الأرض لن تحيا ولن تحمل من عليها إلا بالمحبة والتسامح وتقبل الآخر مهما كانت أفكاره.

جنة الله داخل أعماق ذواتنا، إن لم نكتشفها الآن فلن نحصل عليها في الآخرة.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً