العدد 4841 - الثلثاء 08 ديسمبر 2015م الموافق 25 صفر 1437هـ

في مقاومة الحقيقة

هناء بوحجي comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

في مطلع التسعينات، عندما كنت أضع أولى خطواتي في العمل الصحفي قبل أكثر من عقدين، رفضت أن أترجم تقريراً مطولاً عن ممارسات فظيعة كانت تمارس في سجون إحدى الدول العربية التي باد نظامها فيما بعد، بحجة أني لا أحتمل أن أعيد كتابة ما اشمأزت نفسي منه في المقال باللغة العربية، فقال لي رئيس قسم الترجمة في ذلك الوقت، بلهجته السودانية الرائقة: «إذن أنت ما صحفية» واسترسل «هذه هي مهنة الشقاء والمتاعب، الصحافي الحقيقي يحبها بقدر ما تشقيه».

أكدت على كلامه صحافية عربية فازت بجوائز متعددة عن تحقيق صحافي كشف عن انتهاكات إنسانية بحق أطفال معاقين قالت إنها خسرت 15 كيلوغراماً في أثناء إعدادها التحقيق وهي ترصد يومياً سوء المعاملة التي يتعرض لها المعاقون لتتأكد من فرضيتها حتى تتمكن من كتابة تحقيقها. قالت إنها فقدت الشهية للأكل وأصابتها نوبات اكتئاب، ولكن لم يثن هذه الصحافية الألم الذي كان يكبر يومياً على مدى أسابيع حتى انتهت من تحقيقها، الذي تفاعل معه المسئولون في بلادها وأغلقوا المعهد وحققوا مع طاقمه وشددوا الرقابة على المعاهد والمؤسسات المشابهة.

محظوظة هذه الصحافية لأنها تمكنت في فترة أسابيع فقط أن ترى ثمار مثابرتها وألمها من قصتها الصحافية، فلابد أن سعادة كبيرة حلّت مكان الألم، ورضاً كبيراً وفخراً حلا محل ذلك الشعور المؤلم الذي مرّت به. فصحافيون آخرون في أنحاء العالم يعيشون سنين طويلة في مقاومة لا تنتهي لأطراف تعرقلهم فيما يحاولون تحقيقه، والبعض يموت أو يقتل في أثناء جريه وراء قصة يرى أنه سيغير بها مجرى الأمور إلى ما يؤمن أنه الأفضل. من هؤلاء بالتأكيد من رصدهم الاتحاد الدولي للصحافيين في تقريره للعام 2014، الذي ذكر أن 118 صحافياً حول العالم استُهدفوا في عمليات قتل متعمدة أو بهجمات بقنابل أو إطلاق نار، ولقي 17 آخرون حتفهم في كوارث طبيعية خلال تأدية أعمالهم.

في الوطن العربي، الذي تكاثرت في دول عديدة منه الحروب التي تنافس الكوارث الطبيعية في إبادتها للبشر، يواجه الصحافيون أوضاعاً خاصة من مقاومة وقمع ما يقومون به، الأمر الذي يدفع الكثيرين ممن لا يثني شغفهم خطر قد يصل إلى الموت أحياناً، لأن يسعوا وراء الحقيقة كما تراها عيونهم، وتدلّهم عليها قلوبهم، وعندما يصلون إليها ويعدّون تحقيقاتهم بكل التفاصيل التي عرضت حرياتهم وحياتهم للخطر، يقدمونها هدية لأوطانهم، متسترين وراء أسماء وهمية كي لا يطالهم ذلك الخطر الذي قد يحرمهم من المضي في هذه المهنة التي «يزداد حبها بقدر الشقاء منها».

جوائز كثيرة تذهب سنوياً لأسماء وهمية يحرم أصحابها من الوقوف بفخر مقدماً إنجازه متمنياً لنفسه ولأبنائه ولوطنه وللإنسانية عالماً أفضل.

مشاعر مختلطة تضج بها صالات احتفالات الصحافيين بإنجازاتهم، فمن مشاعر الغضب والحزن والألم لما تكشف عنه الأعمال المنجزة من فساد وممارسات وانتهاكات بحق الناس والأوطان، تُحبس الأنفاس بعد دقائق قليلة وتستعد الكفوف لتصفيق حار وفيض مشاعر تنهمر معه دموع السعادة لمن يحظى بالفوز والغبطة لمن لم يحالفه الحظ. إنجاز الأعمال الصحافية وحده كافٍ ليكون مكافأة عالية القيمة لا تقدر بثمن ورضا غامر وحدهم الصحافيون تشكّلت قلوبهم لتشعر بالسعادة التي يحققها.

في ختام مؤتمر منظمة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية (أريج) الذي اختتم أعماله مؤخراً في عمّان تحت شعار «العمل تحت سيف الرقابة» كان الصحافيون الأجانب يرددون في حديثهم جملة «في هذه البقعة من العالم» وكأنهم يتحدثون عن بقعة معزولة عصية على التأقلم والاكتساب من الآخرين. صحافيوها يشبهون نظراءهم في كل العالم شغفاً وتعلقاً لكن طريقهم أكثر وعورة وتحدياتهم أكثر قسوة. كان الصحافيون العرب يسردون معاناتهم مع أنواع من القوانين، بعضها بالٍ، عفا عليه الزمن، وبعضها ينافس أحدث القوانين في العالم، لكنه كالتحفة الجميلة التي توضع على الرف، وبعضها مستحدث، فضفاض ويحتمل أن يحمي ويجرّم ما يود الحاكمين به أن يشمل تحت مظلته. الأوضاع المستجدة التي شهدها الوطن العربي على مدى السنوات القليلة الماضية فرملت بحريات الإعلام في بعض الدول، وفي بعضها الآخر أعادتها سنين إلى الوراء.

صحافيون في دول وصفها أحد المشاركين بأنها «كانت النور في نهاية النفق»، كانوا يشكون من مقاومة جديدة يعانون منها، وهي الرأي العام. قال أحد الصحافيين التونسيين: «بعد التفجير الأخير في شارع محمد الخامس، لم تكن قوات الأمن فقط تبعد الإعلاميين بشتى الوسائل ومنها الضرب المبرح، عن موقع الحادث، وإنما للمرة الأولى كان مواطنون يعينون قوات الأمن على إبعاد الإعلاميين.

يقول الصحافي: «الرأي العام لم يعد يريد أن يرى الحقيقة ويقدّر من يقدمها لها، خشية الطريق الطويل الذي سيستغرقه الدفاع عنها والخسائر التي قد لا تخطر له على بال». دول كثيرة مزقت الطائفية شعوبها فأعاد إعلامها تشكيل نفسه متنازلاً عن ثوابته وحياديته ولم يعد يحارب سلطات وقوانين من أجل حريته وإنما أصبح أفراده يحاربون بعضهم البعض منحدرين بالمهنة ومحولين دورها من ترقية المجتمع إلى دفعه إلى الوراء والأسفل.

إحدى القائمات على موقع إلكتروني اسمه «حبر» نال شهرة واسعة في بلدها ومكانة لصدقية محتواه وحياديته، أمضت وطاقمها شهوراً طويلة تقاوم فرض الترخيص على المواقع الإلكترونية، فطال الإغلاق موقعها الإلكتروني ومنافذه الأخرى لتعود وترضخ بعد أن فاضلت بين الرسالة التي يحملها إنشاء الموقع وبين مقاومة القبضة الحديدية في معركة خاسرة مقدماً.

بعض الدول والشعوب لم يطب لها الجلوس في المقاعد الخلفية والتفرج على إنجازات العالم والتصفيق لها من مكانها فحسب، وإنما تقاوم بكل شراسة كي يراها كيف تبدو في مرآة الحقيقة.

لا أحد يتقبل القبح، لكن هنا من يسعى لتشخيص أسبابه وعلاجها وهناك من يختار تجميله فيراه الآخرون جميلاً ووحده يرى حقيقة نفسه ويعاني من قبحها عندما يأوى إلى فراشه كل مساء.

حقيقة أكبر من كل الحقائق التي يستميت الإعلاميون من أجل كشفها لأصحاب الشأن ليستفيدوا منها، ويصلحوا ما يمكن إصلاحه، وهي حقيقة أن الوقت لا ينتظر أحداً، يحتاج الجميع كل من موقعه أن لا يضيع دقيقة واحدة وسط هذه السرعة العالية التي تسير بها الأمور وتتحول، فالزمن يسير بنا وبكل شيء في اتجاه واحد فقط ويتساقط على جانبي الطريق كل ما من شأنه أن يشد الزمن إلى الوراء أو يحاول توقيفه.

كل من موقعه تقع عليه مسئولية أن يكون مستعداً لتقويم ما يمكن تقويمه كي لا يكون المستقبل مثقلاً بما يصعب حمله فيما بعد. الإعلاميون الذين يحاربون في كل الاتجاهات طوروا قوى خارقة في التعامل مع كل ما من شأنه أن ينال من شغفهم في الجري وراء الحقيقة، تقع عليهم أيضاً مسئولية أكبر بتأثيرهم على الرأي العام، ولن يكونوا وتكون وسائلهم الإعلامية جديرة بهذه المسئولية الإنسانية الكبيرة حتى يصونوا رسالتهم وينطلقوا في طريقهم بمهنية وصدقية عالية تقدم الحقيقة كما هي بعيدة عن الأهواء والمعتقدات والمصالح.

إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "

العدد 4841 - الثلثاء 08 ديسمبر 2015م الموافق 25 صفر 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً