العدد 4849 - الأربعاء 16 ديسمبر 2015م الموافق 05 ربيع الاول 1437هـ

الجاهلية ليست جهلاً!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

القراءة الأكثر تركيزاً تمنح المرء صورة أكثر اختلافاً. ومن بين تلك الأشياء «المختلفة» التي تُنتجها القراءة هي النظرة إلى المجتمع العربي الذي سَبَق ظهور الإسلام، والذي كان يُنعَت بالعصر الجاهلي. فالفكرة السائدة، هي أن ذلك العصر هو عصر انحطاط وتخلّف وتفسّخ وصراعات، وجهل بأبسط أنواع الفهم للحياة، والعلوم بما فيها القراءة والكتابة.

الحقيقة أن تلك النظرة ليست صائبة، وشابها نوع من التجنِّي والافتئات. فالأوضاع التي كانت سائدة في العصر الجاهلي لا تختلف عن أيّ أوضاع أخرى، من حيث وجود الخير والشر، أو العلم والجهل، أو النظام والفوضى، أو الأخلاق والانحلال. وهي أشكال نعيشها نحن أيضاً في هذا العصر الذي يُشهَد له بالتقدم. لذلك، كان أهل ذلك العصر ضمن هذا التوصيف لا أكثر ولا أقل.

سأتناول هنا أمرين اثنين، الأول يتعلق بالوضع العلمي والثقافي للعصر الجاهلي والأمر الثاني يتعلق بالوضع القِيَمي والأخلاقي، كونهما الصورتين اللتين رُسِمَتَا عن ذلك العصر بطريقة خاطئة. علمياً، لم يكن أهل الجاهلية جُهَّالاً أو أميين كما قيل عنهم، بل كان فيهم من العلماء والحكماء والمثقفين الذين أبهروا محيطهم لِسِعَة علمهم، والذين عدَّدتهم كتب التراث والسِّير والتفسير.

وقد وُصِفَ عبدالله بن عمرو الذي أدرك الحقبتين الجاهلية والإسلام بأنه «كان قارئاً للكتب المتقدمة، ويكتب بالسريانية والعربية» كما قال الدينوري. بل كانت هناك مدارس ومُعلِّمون من أبرزهم عمرو بن زرارة الكاتب، وغيلان بن سلمة بن معتب وبشر بن عبدالملك السكوني وعدي بن زيد العبادي. وكانت هناك مواطن للعلم، تميَّزت بها قبائل عربية أكثر من غيرها كالثَّقفيين كما يذكر المؤرخون. لذلك اشتُهِرَ قول عثمان بن عفان بعد أن هَمَّ بجمع القرآن الكريم: «اجعلوا المُمْلِي من هذيل والكاتب من ثقيف». وقد وجدتُ نصاً في الطبقات الكبرى منقول عن عبيدالله بن عمر أن رجلاً نصرانياً يُدعى جُفَيْنَة من أهل الحيرة كان يُستَقدَم إلى المدينة كي يُعلِّم أهلها الكتابة.

وهنا أمر جدير بأن يُذكر، وهو أن العرب في الجاهلية كانوا متأثرين بالحنيفية الإبراهيمية، وبعضهم على أديان توحيدية قديمة، لكن العلاقات الاجتماعية بين العرب المنتمين إلى أديان مختلفة كاليهودية المسيحية كانت جيدة، ولم تشهد المنطقة نزاعات على أسس دينية، لذلك كانوا في حالة تبادل خبرات ثقافية واقتصادية، وكان اليهود في الجاهلية يقومون بدور في مسألة التعليم. وعندما وصل الفتح الإسلامي إلى العراق الذي كان نصرانياً وجدوا أهله يقرأون ويكتبون.

لذلك، كان كثير من العرب يجيد لغات متعددة كالحبشية والفارسية والقبطية والرومية. وقد ذكر ناصر الدين في مصادر الشعر الجاهلي أن عدياً بن زيد العبادي أجاد الكتابة بالفارسية حتى «أصبح كاتباً بالعربية ومترجماً في ديوان كسرى». كما كان لقيط بن يعمر الإيادي يتمتع بالشيء ذاته.

بل إن ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي كان أكثر من ذلك، حيث وبسبب تنصّره في الجاهلية، كان يكتب العبرانية. وكما ذكر ابن عساكر فإنه «يكتب الكتاب العربي فكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب». إذاً، لم يكن أهل الجاهلية جهالاً في العلم والكتابة والقراءة.

الأمر الثاني وهو المسألة الأخلاقية. فقد كان الإنسان الجاهلي يمتلك شيئاً من القيم الأساسية التي تحكم البشر عادة، من حيث الإحسان ونبذ الظلم ونصرة الضعيف بل وحتى ترك المنكرات من عبادة الأوثان وشرب الخمر. وقد جاء في الملل والنحل للشهرستاني أن زيد بن عمرو بن نفيل أحد حكماء الجاهلية «يكره عبادة الأوثان ووأد البنات». ويُذكر أن الشاعر الجاهلي أمية بن أبي الصلت كان «ممن حرموا الخمر على أنفسهم و نبذوا عبادة الأوثان في الجاهلية».

وهذا الأمر يدلّ دلالة واضحة على أن المعتقدات في الجاهلية كانت لها جذور إبراهيمية وتوحيدية. وقد أشار الشوكاني في فتح القدير ناقلاً عن الطبراني عن عبدالله بن الزبير أن الناس في الجاهلية: «إذا وقفوا عند المشعر الحرام دعوا فقال أحدهم: اللهم ارزقني إبلاً، وقال الآخر: اللهم ارزقني غَنَماً» وهو ما يؤكد تلك الجذور الدينية للناس في تلك الفترة والتي أشرنا إليها ومن بينها الإيمان بالله.

وقد وجدت في التفسير الأمثل للشيخ المكارم أن الناس في الجاهلية كانوا يكرهون الزواج من نساء آبائهم «ويصفونه بالمقت، ويسمّون ما ينتج منه من ولد بالمقيت، أي الأولاد المبغوضين» وهو ما ينسجم مع رأي القرآن الكريم كما في الآية رقم (22) من سورة النساء: «وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا».

كما جاء في أحكام القرآن للجصاص الحنفي نقلاً عن يونس بن بُكَير عن أبي بكر الهُذَلي عن الحسن أن الناس في الجاهلية كانوا إذا ذبحوا ذبائحهم «شَرَّحُوا اللحم ووضعوه على الحجارة وقالوا لا يَحِلُّ لنا أن نأكل شيئاً جعلناه لله حتى تأكله السِّبَاع والطير».

أخلص إلى نتيجة، وهي أن المجتمع الذي سبق ظهور الإسلام لم يكن بالشكل الذي صُوِّر لنا، بل إن حاله مختلف. نعم كانت هناك «أمّيّة دينية» لتفاصيل الأديان التي باعدتها السنين، وأشكال معينة للتخلف والصراعات لكنها لا تخرج عن طبيعة البشر في كل المجتمعات بما فيها مجتمعنا اليوم.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4849 - الأربعاء 16 ديسمبر 2015م الموافق 05 ربيع الاول 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 19 | 4:37 ص

      معنى الجاهلية في معجم المعاني الجامع جاهليّةٌ جَهْلاء : ممعنة في الجهالة والضلال

      مصدر صناعيّ من جاهِل : ما كان عليه العرب قبل الإسلام من الجهالة والضَّلالة وتحكيم العصبيّة والوثنيّة
      ويقال ايضا ان الجهل هو التعصب وانكار الحق ..اما الدلالة الناريخية فقد كان يطلق اصطلاح العهد الجاهلي علي حال العرب قبل الاسلام تمييزا وتفريقا عن العهد بعد البعثة النبوية وظهور الاسلام فقد كانوا في الجاهلية يعبدون الاصنام ويقدمون لها القرابين ، فجاء الإسلام وحررهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام

    • زائر 18 | 3:39 ص

      رد على زائر 5

      اى واحد اطالب بحقه انت تعتبره خائن فى نظرك اكيد انت بطنك شبعان ولا اتحس بغيرك الله يهديك
      الحين الي يجرى فى الكون انهو اعضم جهل ريناه فى العالم يتقاتلون يسفكون الدماء على اشياء تافه ممكن اقولون الي ويش استفادو من................... كلها صارت ضدهم الاقتصاد فى الحضيض والامراض زادت من تلوث الجو من هادى الاسلحه والان هم يعانون من اللاجئين لانهم هم سبب دمار العالم الله ياخد الحق ويهلك الجاهلين

    • زائر 20 زائر 18 | 5:06 ص

      حقيقة تاريخية علمية

      جميع علماء المسلمين و العرب و الذين نفتخر بتسمية مرافقنا العامية و الصحية باسمائهم و دون استثناء كانوا ينعتون بالزندقة و الكفر ايام حياتهم و ملاحقين من قبل السلطة. يعني جميع هذه المرافق باسم الزناديق و الكفرة. في الوقت الحالي ليس تصرفنا بافضل من السابق. اذا لم يكونوا منبوذين في اوطانهم فانهم مقيمون لدي الغرب الكافر.

    • زائر 16 | 3:31 ص

      لا أزال متعجا

      عندما يذكرون أن الكعبة فيها أصنام كثيرة لجميع القبائل وفيها المسيح والصليب وجميع العرب يحجون للكعبة لزيارة آلهتهم، أتعجب أشد التعجم عندما يقال أنها جاهليه وشيء سيء وأن التوحيد أفضل! أليس عبادة الفرعون أول ديانة توحيديه تعبد إلاه واحد ثم أليست المجوسية ديانة توحيدية قبل اليهودية والمسيحية والإسلام ؟ أسئله لم تقنعني جميع التبريرات التي تساق لضحدها.

    • زائر 13 | 2:11 ص

      توضيح

      ما أردت قوله أن الرسول (ص) أحدث فارقًا في البشرية، وأن بعثته مثلت منعطفًا مفصليًا في التاريخ البشري، والقرآن يصور ذلك ( وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) ( وما كان صلاتهم عند البيت إلا كماء وتصدية ) ( تبرج الجاهلية الأولى )، وقول الزهراء ( استنقذكم الله بأبي محمد )، وأرى أن من يتجاوز هذا يريد القول أن الرسول لم يفعل شيئًا سوى أنه وضع اللمسات الأخيرة لمجتمع جاهز أصلاً.

    • زائر 11 | 1:23 ص

      وييقى هذا العصر مضرب للأمثال احسنت أستاذ

      يعني لو اي واحد سوى حركة مو اوكي يقال له أكيد انت من العصر الجاهلي دلالة ع قوة هذا العصروشكرا

    • زائر 10 | 1:10 ص

      لو خليت خربت

      من يعرف كيف كانت بعثة الرسول (ص) إلى البشرية، والتي أخرجتهم من الظلام إلى النور، سوف لن يخالجه الشك بجاهلية عصر ما قبل النبوة، أما الحديث عن القراءة والكتابة والثقافة والتحلي ببعض الأخلاق وامتلاك شيء من العلم، لا يعتد به، فأنت ترى في زمانك علماء مثقفون لكنهم ملحدون، وبعضهم يسجد لبقرة ولصنم، وما يصوره الكاتب معناه أن الرسول جاء لأمة مهيئة ولا فخر له في شيء.

    • زائر 12 زائر 10 | 1:41 ص

      تعليقك يحتاج الى نظر

      عندما جاء الرسول ص والإسلام الحنيف احتفظ بالعديد من العادات والافعال التي كان يقوم بها العرب وهو امر لا ينتقص من الاسلام في شيء وكذلك فعلت المسيحية مع اليهودية واليهودية مع ما قبلها

    • زائر 9 | 1:06 ص

      توضيح للزائر 1 و 6

      ذكر الكاتب في معنى الجاهلية وهو أن الذي كان موجودا هو (((أمّيّة دينية لتفاصيل الأديان التي باعدتها السنين، وأشكال معينة للتخلف والصراعات لكنها لا تخرج عن طبيعة البشر في كل المجتمعات بما فيها مجتمعنا اليوم)))

    • زائر 8 | 1:06 ص

      الرامكه

      أخي محمد الي فعله البرامكه مال الشرقيه من سرقه الحجر الأسود أكثر من جهل الجاهليه

    • زائر 14 زائر 8 | 2:30 ص

      وماذا عن من ضرب الكعبة بالمنجنيق؟

      هناك أيضا من ضرب الكعبة بالمنجنيق.

    • زائر 7 | 1:04 ص

      اسم الرحمن

      كان أهل الجاهلية يسمون الله بالرحمن وهو يعني انهم كانوا يؤمنون بالله

    • زائر 6 | 12:47 ص

      مقال جميل

      بس ما عرفنا ليش سمي بالعصر الجاهلي ؟
      أكثر مقال قرأته ذكر فيه أسماء شخصيات حاولت احسبهم وتخربطت وخليت السالفة تولي ههههه

    • زائر 5 | 12:31 ص

      العلقمي

      الجاهل هو الي يخون وطنه ولا يبين الخير في عينه ويعمل وكيل للاخرين ويشوه سمعته

    • زائر 4 | 11:41 م

      العلم نور

      مقال اكثر من ممتاز. في الأعوام الاخيرة منعت الدراسات الفرعونية و التنقيب بواسطة الاجانب. لان ما سيجدونه سيقلب كل المفاهيم. مع الاسف الانسان غير حر في التعليم و يعلم ما يرغبون و لقد أخفوا علينا الكثير و بسبب خلل اللاوعي يمنع الأقلية من كسف الحقيقة بواسطةالاكثرية.

    • زائر 3 | 10:13 م

      الحتنكور

      بالعكس كانوا مجتمع متحضرا جدا بالنسبة لعصرهم وحرية الأديان مكفولة فيوجد الصابئي و الوثني و المسيحي و اليهودي في نفس المجتمع وكان كل منهم يتقبل ألآخر و تجارتهم مزدهرة ، صوروهم لنا وحوش و جهلاء لمصالح لاتخفى عن ذي لب فالمرأة كانت لها مكانة كبيرة لديهم فكانت التاجرة و الشاعرة ومن أخلاقهم عدم ضرب النساء وعندما فعلها أحدهم ولطم إمرأة توارى عن الأنظار لخجله من نفسه و من الآخرين . فعلا من يقرأ كثيرا يطلع على حقائق كثيرة .

    • زائر 2 | 10:07 م

      الوضع الجاهلي افضل

      مقارنة بالفترة الحالية اعتقد انهم كانوا افضل منا بالرغم من محدودية العلم الذي عندهم ولكن الفضاعات التي ترتكب حالياً بإسم الدين من قبل داعش وغيرها ممن يدعون الاسلام لم نسمع عنها حتى في حرب داحس والغبراء....

    • زائر 1 | 10:06 م

      تعقيب

      جميل المقال ولكنك لو تذكر سبب تسمية ذلك العصر الجاهلي لم , ام انك ترى ان التسمية خطا في اصلها ?

اقرأ ايضاً