العدد 4870 - الأربعاء 06 يناير 2016م الموافق 26 ربيع الاول 1437هـ

أمل النعيمي تروي قصة «طفلة ظفار»: ضريبة أن تكون ابناً لمناضل

روت أمل ابنة المناضل عبدالرحمن النعيمي قصة «طفلة ظفار»، التي تروي جانباً من حياتها مع والدها النعيمي في اليمن، في محاضرة قدمتها في مقر جمعية نهضة فتاة البحرين في المنامة مساء الثلثاء (5 يناير/ كانون الثاني 2016).

وقالت فيها: «كنّا نرى كل بقاع الأرض منافي، لكننا نروّض المكان لنعيش فيه أمان المنفى، العام 1971 بدأنا رحلة التجربة الأكثر وضوحاً في النضال، تغلغلنا بين أروقة المطارات بكل جهاتها، حتى وصلنا إلى عدن، من هنا يبدأ مشوار الوضوح الطفولي بالنسبة لي، قرار أب يرى أن تطبيق النضال على أرض الواقع لابد أن يبدأ من بيته، وبعد أن تم تسجيلي في مدرسة في عدن (مدرسة الجيش) الابتدائية للبنات، تم تجهيز حقيبة سفر أخرى لمدرسة أخرى ضبابية المعالم بالنسبة لي».

وأضافت النعيمي «عند الحديث عن نفسي لابد أن أفتح نوافذ العديد من الشخصيات (أبي أمي وليلى فخرو والعديد منهم أحرص أن لا أذكر أسماءهم)، تمرّسنا في شقاق حياة غريبة منذ أن شق النور أعيننا، قد يحسدنا البعض على أننا أبناء مناضلين، وذلك لم يمر دون دفع فاتورة غالية الثمن».

وأردفت «أن تكون ابن مناضل يكون الحال مختلفاً، قد تتمرد على ذلك الانضباط الذي يتسلل بين خلاياك ولكنه أصبح جزءاً منك، أن تتمرد على نماذج دُسَّت هكذا بين مفاهيمك وأصبحت أنت هي، أن تتعلم العطاء والمثابرة والتضحية والانسياق لخدمة الجماعة دون أن تتلفظ إلا بالابتسامة أن تقدم لرفيقك ما في يدك وأن تكتفي بالقليل دون تذمر، أن تتعلم ضبط مؤشرات مشاعرك وانفعالاتك أن تنتقد نفسك من أقل التصرفات سوءاً».

وتابعت «أن تندفع للمبادرة في تنفيذ الأوامر والانصياع لما يخدم الجميع أن تكون نفسك هي آخر شيء تفكر فيه، وأن تدفن رأسك آخر اليوم وتسبح في نوم أحلامه وطن، وأن تكون متيقظاً كأنك في معسكر ألغام لأي طارئ، هي طريقة كانت مشواراً غير مرئي في ذاك البيت، قد أكون أكثرت أو قللت لكن هكذا كان الواقع».

وتحت عنوان (طفلة ظفار «نضال سعيد سيف»)، قالت «كيف لعقل طفلة في العاشرة أن يدرك ما يتم البث فيه رغم ذلك كنت سعيدة لهذا القرار (الدهشة) كل قرارات سعيد سيف هكذا، هكذا هو النضال المربك يأخذك في دهشة لا تسكت، ولا أنت تسكن».

وأكملت «قرار الانتقال من مدرسة إلى أخرى في منطقة أخرى لم أسمع عنها من قبل، جميع قرارات أبي تدهشني وتربكني وتضعني على طريق جديد أكثر وضوحاً وأكثر تحدياً، كان يعاملنا كرفاق تنظيم كنّا صورة عنه».

وواصلت «أراد لنا أن نخترق بقدراتنا الصغيرة كل المتاح، من دون أن يميزنا عن باقي أطفال الجبهة، كان دائماً يؤكد لنا ذلك».

وتابعت «ليلتها كنت أحلم وأنا يقظة غداً سأترك والدتي وإخوتي ومحتويات غرفتنا المتواضعة في عدن. لكن إلى أين؟ رغم ذلك كنت أشعر بالدهشة وداخلي فضول؛ رغم كل الهواجس».

وأردفت «المدهش أن كل رفيق من رفاق أبي كان يهديني فكرة، اقترح علي العزيز أحمد الشملان أن أغير اسمي قد يكون من باب المزاح. لا أدري لكنني أخذت الفكرة بجد. اقترح اسم (نضال) رحبت بالفكرة وكنت كمن يعيش هرج مهرجان كالحلم».

وتحت عنوان «بداية الرحلة»، قالت النعيمي «في الصباح الباكر أُخذت مع مجموعة من الرفاق القياديين وبعض المتطوعين، لا أتذكر الآن كم كان العدد، لكنني متأكدة أنني الطفل والبنت الوحيدة مع هذا الكم من الناس».

وأضافت «توجّهنا من مطار عدن بالطائرة إلى مطار الغيظة (المحافظة السادسة) لجمهورية اليمن الديمقراطية، وما أن وصلنا امتطى بَعضُنَا الدواب، والآخرون واصلوا السير على أقدامهم مخترقين سلسلة وعرة طويلة من الجبال الحدودية غير المعبدة (اعذروني تغيب الذاكرة بعض التفاصيل) لكنني مازلت أتذكر تعثر رجلي ببعض الصخور، رفضت كثيراً ركوب تلك الدابة، اضطر أحد الرفاق (أحبه كثيراً كان قريباً مني) أن يحملني على ظهره أخيراً بعد أن دبّ بأوصالها التعب والجهد لم أشعر إلا ونحن داخل أحد الكهوف. أذكر أني غفوت، كانت رحلة شاقة على الرجال لا أدري كيف قطعتها أنا».

وواصلت «أذكر أنني اضطررت التخلص من بعض ملابسي ووضعتها على رأسي بعد أن بللتها بالماء للوقاية من حرارة الشمس التي كانت تجتهد وتفرغت لنا، ذاك الكهف كان جناحاً بخمس نجوم ألقى الجميع ثقل أجسادهم على الأرض ووزعوا المهام بينهم، منهم من قام بتجهيز الطعام والآخرون ذهبوا للاغتسال في البحر».

وأكملت «كنت في عجلة من أمري لمعرفة نهاية هذه الرحلة التي نطويها من دون أن تنتهي، أيعقل أن تكون هذه المدرسة بعيدة هكذا! وبهذا الجهد، كيف سأرجع لأمي إذاً؟ أسئلة كثيرة طرقت رأسي وأنا أواصل السير بمحاذاة رفاق أبي، أسمعهم يرددون بين الحين والآخر شعارات مثل: عاشت الثورة. ولتسقط الإمبريالية. المضحك المبكي أني كنت أرفع صوتي معهم وأنا لا أعرف الثورة ولا من تكون الإمبريالية».

وذكرت «أخيراً وصلنا إلى منطقة (جادب) وتم إيصالي لمدارس الثورة وهي مدرستان، مدرسة لينين للصغار ومدرسة 9 يونيو، ووقعت عيني على ساحة كبيرة تترامى على أطرافها خيام خضراء، ويحاذيها البحر من جانب ويحتضنها الجبل الذي فرش شالة الأخضر».

وأفادت «هذه التجربة لا يمكن أن أتحدث عنها بعيداً عن المرحومة ليلى فخرو، فقد كنت صغيرة على فهم المعايير النضالية لكنني كنت أسترق السمع أحياناً إلى خيمة الإدارة المطلة على ساحل البحر فأراها منهمكة تعمل على الآلة الكاتبة أسمع صوت موج البحر القوي وهو يهدر تعلوه ضربات أصابعها النحيلة وهي تحفر سلم علم أجيال ظفار».

وأضافت النعيمي «كانت تسهر على ضوء تستمد منه نور وهج الكيروسين لتضع معايير جودة المناهج الدراسية لهذه المدرسة البكر التي ازدهرت من وهج عينيها. ومن قوة وصلابة إيمانها، كانت وجبتها الغذائية الوحيدة طيلة اليوم (ولا أبالغ)عبارة عن قليل من المرق تأخذه قبل أن يخلط بالأرز وشاي أحمر».

وشددت «أنا لا يمكنني أن أكتب عن تجربتي وأن لا استحضر ليلى فخرو أبداً، كانت ترابط ببندقية أقل وزناً من الكلاشنكوف، كان اسمها السيمنوف، ترتدي برجلها نعال زنوبة من أرخص الأنواع لتحمي قدمها من وخز الحصى، تمرست لتنصهر معهم لتحيا مثلهم.

كانت الآلة الكاتبة أحياناً لا تؤدي دورها كاملاً. فتكتب بخطها فوق أوراقنا التي ينال كل واحد منا قسطاً منها. خطها كان يأسرني بوضوحه وروعة انحراف الأحرف وجمال الانحناءات بعد ذلك عرفت أنه خط الرقعة».

وتابعت «كانت تداعب الصغار وتحنّ على الكبار وتسأل عن الجميع قبل النوم بزيارة خيمنا (الخيمة المظلمة المخيفة) كان وجودها يضفي السكينة على قلبي وفكري».

وأكملت «بالنسبة لي الخيمة مكان غير آمن، كانت رائحة الأغطية الصوفية الرطبة تذكرني كم كنت في نعيم جنة أمي، هذا غير العناكب والناموس والذباب وقد يمر بِنَا عقرب والنمل الصحراوي، وصرصر الليل وغيرها من نتاج الطبيعة».

وواصلت النعيمي «أدركت أني في عمق الاكتشاف عمق كل لحظة، هناك جديد، فقط علينا أن نفتح أعيننا وحواسنا ونراقب بوعي».

وأردفت «أتذكر يوماً غسلت ملابسي ولكني أخفيتها عن أعين زملائي لكي لا يتهمونني بالبرجوازية لم أكن أعرف معناها لكني كنت متأكدة أنها ذم، حتى أدوات النظافة والمشط والمعجون والشامبو استغنيت عنها، نشرتها بعيداً عن الخيمة، ولكن عيوناً كانت تتربص بي من الدواب والبقر وجدتْها وجبة شهية مختلفة لم تذق طعمها من قبل على ما يبدو».

وأشارت إلى أنه «لم يبقَ عندي إلا الثياب التي علي استسلمت بعد ذلك للحاق المدرسة وحلقت شعري صفر لأنني ضقت ذرعاً من القمل، حلولي كانت تأتي من وحي الواقع».

وختمت أمل النعيمي «استمر وجودي في المدرسة إلى أن أصبت بمرض لا علاج له في تلك المنطقة، ما اضطرهم إلى إرجاعي عدن، وبعد فترة قرر الوالد أن تذهب أمي وإخوتي إلى تلك المنطقة، وهنا تبدأ محنة أخرى أبطالها كلنا.

العدد 4870 - الأربعاء 06 يناير 2016م الموافق 26 ربيع الاول 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً