العدد 4910 - الإثنين 15 فبراير 2016م الموافق 07 جمادى الأولى 1437هـ

أعلام في التسامح والسلام: إعلان مراكش

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

في الوقت الذي تتعاظم فيه وتيرة الصراع الطائفيّ والدينيّ، وتحتدم فيه جبهات القتال ما بين كرّ وفرّ بين أبناء الوطن الواحد، أو الدين الواحد أحيانًا، أو المذهب الواحد في أحايين كثيرة، في هذا الوقت العصيب ذاته، تتحرّك هيئات وشخصيّات علميّة وحقوقيّة وسياسيّة ودينيّة أيضًا من أجل بسط السلام والطمأنينة، وزرع بذور المحبة والتسامح بين المختلِفِين مذهبيًّا ودينيًّا، ولاسيما أولئك الذين يحتضنهم وطن واحد. ولعلّ مبادرة «إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينيّة في العالم الإسلامي» واحدة من المبادرات التي تؤكد إجماع علماء الأمة على نبذ العنف ضدّ أتباع أديان أخرى، وخاصة من كان مقيمًا في بلاد المسلمين. وبناء على ذلك تُعَدّ هذه الوثيقة (إعلان مراكش) علَمًا من أعلام التسامح والسلام يقتضي المقام والمقال التعريف بها والإشادة بالقائمين عليها.

«إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينيّة في العالم الإسلامي» وثيقة عالميّة تحتضن القيم الدينية والأخلاقية بكل مفاهيمها المعاصرة وتختزل الشرائع والأعراف القانونية والحقوقية الدولية. إنّه إطار عام يحث على حفظ «حقوق الأقليات الدينية» في بلاد المسلمين.

وقد جاء هذا الإعلان في سياق عالميّ وإسلامي دقيق وعلى غاية من الخطورة؛ إذْ تعرّضت العديد من الأقليات الدينية في العراق وسورية للاضطهاد والازدراء من قِبَل ما يُعرف باسم تنظيم الدولة (داعش) بعد أن بسط نفوذه على مجال واسع من العراق والشام جعله يعلن إقامة دولة، ويطبق أحكامًا على غير المسلمين من أهل تلك الديار ومواطنيها. كما لاتزال بعض الأقليات الدينية الأخرى في بلدان مستقرّة، أي لا حروب فيها، تعاني من الاحتقار حيث يُوسَم الشريرُ مثلا أو الوضيع بنسبته إلى دين تلك الأقلية في ذلك البلد. بل لايزال العديد من الأئمة في هذا المسجد وذلك الجامع يدعون في كل جمعة على أتباع الديانة الأخرى أو المذهب الآخر أن تُخسف بهم الأرض، وهم يعيشون على الأرض نفسها وفي الوطن نفسه، أو أن يُتَيَتَّم أطفالهم وكأنّ أولئك الأطفال هم المذنبون فيتحمّلون أوزار آبائهم... ثمّ يخرج بعد الصلاة ويجد من دعا عليهم يشاركونه الوطن: المدرسة والإدارة والمصنع والمقهى والملهى والملعب... إلخ.

في هذا السياق العصيب، تأتي هبّةُ علماء الدين والعديد من المفكرين المسلمين، وعلى رأسهم رئيس «منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة» الشيخ عبدالله بن بيه، إذ احتضنت مدينة مراكش المغربية، مدينة الحضارة والتاريخ، مدينة التسامح واحترام حقوق الأقليات الدينية، والعاصمة التاريخية للحضارة المغربية، مؤتمرًا موضوعه: «الأقليات الدينية في الديار الإسلامية»، وذلك بمشاركة نحو ثلاثمئة شخصية من علماء المسلمين ومفكريهم ووزرائهم ومفتيهم، على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم من أكثر من مئة وعشرين (120) بلدا، بحضور إخوانهم من ممثلي الأديان المعنية بالموضوع وغيرها، داخل العالم الإسلامي وخارجه، وممثلي الهيئات والمنظمات الإسلامية والدولية، وذلك برعاية سامية من جلالة الملك محمد السادس، وبتنظيم مشترك بين وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمملكة المغربية ومنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة بالإمارات أيام (14 إلى 16 ربيع الثاني 1437 هـ)/ (25 إلى 27 يناير/ كانون الثاني 2016).

وقد تمخّض عن هذا المؤتمر إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينيّة في العالم الإسلامي، وهي وثيقة تتكون من مقدمة تناولت الأوضاع المتردية التي تعيشها مناطق مختلفة من العالم الإسلامي بسبب اللجوء إلى العنف والسلاح لحسم الخلافات، وذكّرت بواجب «البيان الذي طوّق الله به أعناق العلماء وخاصة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة الإسلامية». كما ذكّرت المقدمة بتزامن إعلان مراكش مع ذكرى مرور 1400 سنة على صدور صحيفة المدينة المنورة، بين المسلمين ويهود بني عوف بالمدينة، والتي اعتبرها المشاركون أصلاً في حفظ حقوق الأقليات الدينية ومرجعًا أساسيًّا للتعايش السلمي المشترك، والمواطنة والتسامح والانتماء إلى الوطن (المدينة المنورة آنذاك) والتعايش بين مجتمع متعدد الأعراق والأديان.

بعد المقدمة جاء نص الإعلان وفيه تذكير بالمبادئ الكلية والقيم الجامعة التي جاء بها الإسلام، وتأكيد اعتبار «صحيفة المدينة» الأساسَ المرجعيَّ المبدئيّ لضمان حقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلاميّ، وتصحيحاً للمفاهيم وبياناً للأسس المنهجية للموقف الشرعي.

وانتهى الإعلان بدعوة علماء المسلمين ومفكريهم إلى «أن ينظروا في تأصيل مبدأ المواطنة الذي يستوعب مختلف الانتماءات». كما دعا الإعلان المؤسسات العلمية والمرجعيات الدينية إلى «القيام بمراجعات شجاعة ومسئولة للمناهج الدراسية للتصدي للثقافة المأزومة التي تولد التطرف والعدوانية»، وناشد الساسة «أن يتخذوا التدابير السياسية والقانونية اللازمة لتحقيق المواطنة التعاقدية».

ووجه إعلان مراكش رسالة إلى المثقفين والمبدعين وهيئات المجتمع المدني إلى «تأسيس تيار مجتمعي عريض لإنصاف الأقليات الدينية في المجتمعات المسلمة، ونشر الوعي بحقوقها». ودعا أخيرًا ممثلي مختلف الديانات والطوائف إلى «التصدّي لكافة أشكال ازدراء الأديان وإهانة المقدسات وكل خطابات التحريض على الكراهية والعنصرية».

ونظرا لقيمة هذه الوثيقة، إعلان مراكش، فقد دعا بعض العلماء والسياسيين إلى ضرورة تشريع هذه الوثيقة قانونيًّا وحقوقيًّا في جميع البلدان العربية والإسلامية. لكن، وفي المقابل، نبّه جمع آخر من العلماء والساسة إلى الاهتمام بالأقليات المسلمة في دول العالم، وما تتعرض له من تهميش وإقصاء وإرهاب فكري وإعلامي، وخاصة بعد موجة الإسلاموفوبيا التي تزداد تعاظمًا يومًا بعد آخر.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 4910 - الإثنين 15 فبراير 2016م الموافق 07 جمادى الأولى 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 1:34 ص

      جميل التعريف بهذه المبادرات شكرا لكاتب المقال
      «إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينيّة في العالم الإسلامي» وثيقة عالميّة تحتضن القيم الدينية والأخلاقية بكل مفاهيمها المعاصرة وتختزل الشرائع والأعراف القانونية والحقوقية الدولية. إنّه إطار عام يحث على حفظ «حقوق الأقليات الدينية» في بلاد المسلمين.

    • زائر 2 | 11:33 م

      ونظرا لقيمة هذه الوثيقة، إعلان مراكش، فقد دعا بعض العلماء والسياسيين إلى ضرورة تشريع هذه الوثيقة قانونيًّا وحقوقيًّا في جميع البلدان العربية والإسلامية. لكن، وفي المقابل، نبّه جمع آخر من العلماء والساسة إلى الاهتمام بالأقليات المسلمة في دول العالم، وما تتعرض له من تهميش وإقصاء وإرهاب فكري وإعلامي، وخاصة بعد موجة الإسلاموفوبيا التي تزداد تعاظمًا يومًا بعد آخر.

اقرأ ايضاً