العدد 4918 - الثلثاء 23 فبراير 2016م الموافق 15 جمادى الأولى 1437هـ

الحيوان... وحقوقه في الإسلام

كتب الدكتور راغب السرجاني مقالاً رائعاً حول نظرة الإسلام إلى حقوق الحيوان يدحض فيه افتراء الغرب على الإسلام بأنه دين عنف وقسوة في تعامله مع الحيوان.. ونلخص في هذه السطور ما تناوله هذا المقال.

ينظر الإسلام إلى عالم الحيوان إجمالاً باهتمام لأهميته في الحياة ونفعه للإنسان، ولكونه قبل ذلك آية من آيات عظمة الخالق وبديع صنعه.. ولذلك كثر الحديث عن الحيوان وحقوقه في كثير من مجالات التشريع الإسلامي، حتى إن عددًا من السور في القرآن الكريم جاءت بأسماء الحيوانات مثل: سورة البقرة، والأنعام، والنحل، والنمل، والعنكبوت، والفيل.

وينص القرآن كثيرًا على تكريم الحيوان، وبيان مكانته، وتحديد موقعه لخدمة الإنسان، فبعد أن بين الله في سورة النحل قدرته في خلق السموات والأرض، وقدرته في خلق الإنسان، أردف ذلك بقوله: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ).. سورة النحل.

وقد استنبط الفقهاء والمفسرون من هذه الآيات الكثير من الأحكام والفوائد، فأشاروا إلى أن الله عز وجل يلفت انتباه الإنسان إلى ضرورة الاهتمام بالحيوان، والعناية به، والترفق في معاملته؛ لأنه يؤدي دورًا هامًا في خدمته، كما أن الله - سبحانه - قصد بهذه الآيات أن يبتعد بالإنسان عن أن ينظر إلى الحيوان نظرة ضيقة لا تتعلق إلا بالجانب المادي المتعلق بالأكل والنقل واللباس والدفء، فوسع نظرته إليه مشيراً إلى أن للحيوان جانباً معنوياً، وصفات جمالية تقتضي الحب الذي يقود إلى الرفق في معاملته، والإحسان إليه في المصاحبة، بالإضافة إلى أن ذِكْرَ بعض الحيوانات بأسمائها في هذه الآيات لا يعني أن غيرها ليس كذلك، بل إنه ذكرها على سبيل المثال لا الحصر بدليل قوله: (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ)...

وقد علَّق الإسلام وجوب الإحسان إلى بعض الحيوانات بمنافعها المعنوية وصفاتها الحميدة، فأوجب الرفق بها لذلك، ومن ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، والإبل عِزٌّ لأهلها، والغَنَم بركة».

وإذا كانت بعض الآيات في القرآن الكريم تحمل تحقيرًا (ظاهريًا) لبعض الحيوانات، من مثل قوله تعالى عن ذلك الصنف من البشر الذي يتخلى عن نعمة الهداية بعد أن يسبغها الله عليه: «...فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ: إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ، أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث.. ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا.. فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (الأعراف: 176)

أو في معرض ذمه سبحانه وتعالى لليهود الذين لم يعملوا بما في كتبهم: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (الجمعة: 5)

وإنما جاء تشبيه اليهود والمشركين بالحيوانات (كالكلب والحمار) لأنهم لم يقوموا بالدور المنوط بهم؛ فأصبحوا كالأنعام.. «بل هم أضل»!!.. وليس في هذا ذمٌّ للحيوانات، ولكنه ذم لمن عاش أدوار الحيوانات.. ولم يعِشْ دوره هو!!

ومن الأمور التي تستحق الالتفات فإنه سبحانه أيضًا قد رسم للإنسان حدود العلاقة بالحيوان والتعامل معه..

فبين منهج المغالاة التي ترفع الحيوانَ فوق قدْره الطبيعي.. وتصل به إلى مخدوم من قِبَل الإنسان (بل معبود في أحيان كثيرة!!!)... وبين منهج إيذاء الحيوان وتحميله فوق طاقته.. فضلاً عن تشويهه والعبث به .. بين هذين المنهجين المتباعدين يخطُّ الإسلام طريقًا وسطًا ـ كشأنه في كل الأمور ـ فهو يُعلِّم المسلم أن الحيوان مسخَّر له يستعين به على مقتضيات المعاش وعمارة الأرض.. لذا وجبت به الرحمة والرفق، ويعدها الإسلام عبادة وقربى, يتوسل بها العبد إلى رضا ربه الرحيم.. كما إن تعذيب الحيوان وحرمانه حقه وترويعه وإجهاده في العمل... كل هذه وغيرها من نواقض الرحمة.. بل هي تستوجب عقاب صاحبها في الآخرة!! وهكذا.. يتفرد التشريع الإسلامي في رعاية حقوق الحيوان.. بربط هذه الرعاية بالله عزَّ وجلَّ وبحساب الآخرة.. ثوابًا كان أو عقابًا.. والدليل على ذلك قول رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ, فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا, ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ, فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي.. فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ, فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ».. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟! قَالَ: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ».

هذا هو القانون: «في كل كبد رطبة أجر»، أي أن لنا في رحمة أي حيوان أجرًا..

وعلى الجانب الآخر ـ فإن العقاب الأليم سينتظر من جفت ينابيع الرحمة في فؤاده، فنسي أن لهذه المخلوقات أكباداً رطبة، لأنها ـ وإن أعياها النطق والبيان ـ تشعر وتتألم.. بل تشكو إلى الله ظلم الإنسان لها.. فقد روي أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: «دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا, وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ»..

ولم تقتصر حماية الإسلام للحيوان من الجوع والعطش فقط بل من ذلك أيضًا تشديده صلى الله عليه وآله وسلم على ألا يُكوَى الحيوان بالنار؛ فقد روى ابن حبان في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرَّ على حمار قد وُسِمَ على وجهه (أي: كُوِيَ لكي يُعَلَّم)، فقال: «لعن الله من وَسَمَهُ»، وكذلك حمايته من ألم الحمل الثقيل، ونهى أن تُتَّخَذَ الدوابُّ كراسيَّ لفترة طويلة، أي الجلوس عليها دون داعٍ، كذلك حرم الإسلام قتل الحيوان للتلهي، أو لتعلم الرماية، فقد لَعَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مَنْ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا».

ويصل الإسلام إلى الذروة في الرحمة بالحيوان حتى وهو يُقَدَّم للذبح ليؤكَلَ لحمُه، فينهى الإنسان عن تعذيبه أثناء الذبح سواء كان التعذيب جسديًّا بسوء اقتياده للذبح، أو برداءة آلة الذبح، أو كان التعذيب نفسيًّا برؤية السكين، ومن ثَمَّ يجمع عليه أكثر من مَوْتة! فقد روي أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَة، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ».

ولا شكَّ أن الإسلام تفرُّد بهذه النظرة البالغة في الرحمة إلى الحيوان، والتي تصل إلى اقتياده إلى الموت اقتيادًا جميلاً.. فضلاً عن تعهُّده أثناء حياته بالطعام والشراب والعلاج، وعدم العبث به أو ترويعه أو تحميله فوق طاقته.

كان هذا الهَدْي الرباني العظيم هو الذي شكَّل نظرة الحضارة الإسلامية ـ عبر العصور ـ إلى الحيوان، وإلى رعاية شئونه وحقوقه... وهي نظرة فريدة.. تُرجِمت ـ بلا ضجيج إعلامي صاخب ـ إلى سلوكيات تلقائية، ونُظُمٍ اجتماعية تَقَرَّب بها المسلمون إلى ربهم, ودخلت في نسيج عباداتهم.

ونسأل الله عز وجل أن يرسخ الرحمة في قلوبنا, وأن يعزَّ الإسلام والمسلمين.

العدد 4918 - الثلثاء 23 فبراير 2016م الموافق 15 جمادى الأولى 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً